"جوكر" عاشقاً

07 أكتوبر 2024

ليدي غاغا وخواكين فينيكس على هامش العرض الأول لفيلم جوكر 2 في لندن (25/9/2024 Getty))

+ الخط -

يرمز قناع الجوكر إلى الإضحاك والتنكيت، ولكن ماذا لو صار قناعاً للقتل؟... حقق الجزء الأول من فيلم "جوكر" (من إخراج تود فيليبس وإنتاجه 2019) نجاحاً واسعاً وإيرادات تجاوزت المليار دولار، وترشّح لأكثر من 11 جائزة أوسكار، ففاز بطله فينيكس خواكين بجائزة أفضل ممثّل. أمّا في الجزء الثاني الذي يعرض حالياً، وتشارك في البطولة النجمة الغنائية ليدي غاغا، التي أضفت على الفيلم بُعداً استعراضياً غنائياً، فتميّز هذا الجزء بكثرة الفقرات الراقصة والغنائية، التي أدّاها البطلان، وفي بعضها بصوت واحد. كما طغت ثيمة السخرية على الفيلم، وهذة المرّة بقهقهات "جوكر" العالية، إلى جانب مشاهد عديدة يظهر فيها وهو يُدخِّن في كلّ مكان، سواء في المصحّة أو في المحكمة أو حتّى أثناء المقابلات الشخصية، ما يُدلّل على أنّ فضاء الفيلم ينتمي إلى فترة قديمة نسبياً شهدت تسامحاً كاملاً مع عادة التدخين. يُعزِّز هذه الفرضية الديكور والملابس التي تنتمي أيضاً إلى ما بين الخمسينيّات والسبعينيّات.
جاء هذا الجزء ليكمل مآلات الجزء الأول، الذي انتهى فيه "جوكر" إلى قتل خمسة أشخاص، أحدهم على الهواء مباشرةً، حين وجّه المسدس إلى رأس مُقدِّم برنامج حواري، أدّى دوره حينها النجم روبرت دي نيرو. يظهر جوكر في هذا الجزء في مصحّةً نفسية تابعة للسجن، يُحتَجز فيها إلى حين محاكمته، إذ يصرّ المُدَّعي العام على الحكم عليه بالإعدام. إلى جانب تميّز الفيلم بكثرة الفقرات الغنائية والقهقهات التي يطلقها "جوكر" في وجه أيّ ضخَّة نفسية عنيفة تواجهه، يتميّز أيضاً ببعده النفسي العميق، وهدوء عرضه، قياساً بالشحنات الميلودرامية التي صاحبت الجزء الأول منه.
رغم أنّ هذا الجزء يتخلَّله أيضاً مشهد حريق وانفجار، إلا أن ذلك يجري في السياق الطبيعي للأحداث. يتعلّق الصراع النفسي الذي يعيشه بطل الفيلم بتبرير اندفاعه إلى جرائمَ ثابتةٍ موصوفةٍ لا تحتاج دليلا، وإن كانت دوافع القتل جاءت في أغلبها دفاعاً عن نفسه في وجه مُهاجِمين، سواء كان هؤلاء المهاجِمون مُباشِرين، كما في محطّة المترو، وفي مقرّ عمله، أم كان الهجوم بالكلام والسخرية، كما حدث له مع مُقدّم البرنامج الحواري. يعترف "جوكر" أيضاً في المحكمة بأنّ ثمّة شخصاً سادساً قتله هو وأمَّه حين كان يرعاها في المستشفى، فخنقها بوسادتها ليظهر موتها طبيعياً، خاصّة أنّها كانت قبل مقتلها في ساعة احتضار. لم يقتنع "جوكر" بمرافعات محاميته، فطلب من القاضي أن يكون محامي نفسه، لنتبيّن من اعترافاته الراقصة (وكأنّه يستعين بالرقص للتخفيف من وقع تذكّرها) أنّه عاش طفولةً قاسيةً، وطلبت منه أمّه أن يرتدي قناع جوكر كي يُضحِك الناس، ولكنّ ما حدّث أنّه ارتداه كي يُخفي آلامه، هذه الآلام التي لا تلبث أن تظهر وتتعرّى شرسةً حين تتعرّض الشخصية إلى امتهان وإهانة. حتّى في مصحّة السجن، حين تعرّض "جوكر" لإهانات من السجّانين، جاءته رغبة القتل، ولأنّه مُقيَّد لم يتمكّن من تنفيذ جرائمه إلا خيالاً.
لم تضع الفقرات الغنائية التي رافقت الفيلم (على كثرتها) المُشاهدَ في حالة من الملّل، وذلك بسبب الصوت الجميل للفنانة ليدي غاغا، الذي جاء في بعضه أوبرالياً عاليَ النبرة. ولكن ما ميّز هذا الجزء أنّ "جوكر" للمرّة الأولى في حياته يحظى بعشيقة تفهمه، حتّى إنهما اتفقا على الزواج. يتشبّث جوكر بالحياة ويشرع بالدفاع عن نفسه حين ضمن أنّ الفتاة تبادله الشعور نفسه بالحُبّ. ومع تقدّم الفيلم، ينكشف أنّ هذا الحُبّ لم يكن للشخص الأصلي إنّما لـ"جوكر" في قناعه. وذلك لأنّه حين قرَّر في المحكمة أن يتخلَّى عن قناعه ويظهر شخصيته الحقيقية، تخلَّى عنه الجميع بمن فيهم حبيبته. أمام هذه الصدمة قرّر في النهاية الاستسلام لقرار المُدَّعي العام بإعدامه، وسيذهب بذلك إلى نهايته مرتاحاً من عدم خسران شيء في عالم لا يرى فيه سوى أداةً للضحك، غيرَ حافلٍ بشخصيته الحقيقية ومشاعره الصادقة.
الصراع بين القناع الاجتماعي وحقيقة المرء هو البنية العميقة للفيلم، الذي حافظ في جزئه الثاني على قيمته ومتعته، بأداء ممثّلٍ عبقري عجيب.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي