"تهييف" الخطاب الديني في مصر
"تفاءلوا بالخير تجدوه".
عبارة مستهلكة من الموروث الشعبي، ليست من القرآن أو السنّة، لكن فخامته لم يجد غضاضة في أن ينسبها إلى الله تعالى، في إحدى تجليات خطبة العرش في مصر؛ فمَن ذا يجرؤ أن ينبّهه لخطئه ممّن حوله ممّن تربّوا على القيم المتجسّدة في عبارات مثل: "شلّوط سعادتك دفعة للأمام"! أو "شخبطة عيال سعادتك خارطة لمستقبل الوطن"!
وبغضّ النظر عن الـ116 خطأً في خطبته التي اعترف بها مؤيدوه، وقالوا إنه سيراجع مدرّسين لغة عربية ساعة يومياً، وبغضّ النظر، أيضاً، عن أخطائه في مادتي الحساب و(الإنجلش)، فإننا لا نراها تنتقص من مقام الرئاسة الذي لم يسبق أن اتّصفَ أيّ من شاغليه بشيء من الثقافة (والعياذ بالله)!
في الخطبة نفسها، لم تمر دقائق، حتى صدرت الدعوة التي انتظرتها الأمة طويلاً، بضرورة تجديد "الخطاب الديني". ولأول مرة، توجه دعوة التجديد في مصر إلى الأزهر والكنيسة معاً.
أما عن خطاب الكنيسة الديني، فهو، بالتأكيد، غير مستهدف بالتجديد، لأنه لا يكاد يسمعه أحد غير رعايا الكنيسة داخل أسوارها! إلا قليلاً من تسريبات، أو فلتات لسان، تحمل شعوراً سلبياً تجاه الديمقراطية والحريات، وإيجابياً جداً نحو الدولة العميقة ومصالحها، منذ ثورة يناير!
ويبدو، من السياق والمقدمات والتوابع والزوابع، أنها تشير، جميعاً، إلى أن الخطاب الديني المقصود تغييره، أو على الأصح، "إزالته أو تحييده أو تسطيحه أو تجميده"، هو غير الممهور بـ "ختم النسر"، وليس شيئاً آخر. حيث صار خطاب الإسلاميين، من المعارضة، فجأةً، متطرفاً، لأنه ينازع السلطان ملكه الذي ورثه عن أجداده من المماليك! في حين أصبح الخطاب "الوهابي" المتمصّر، فجأة، معتدلاً ومقبولاً، محاذياً وصديقاً للخطاب "الصوفي"، ومتقاطعاً مع الخطابين الليبرالي والاشتراكي الرسميين، لا لشيء، إلا لأنهم، جميعاً، يدعمون استقرار النُظُم الحاكمة، ويحرّمون انتقادها، فضلاً عن الخروج عليها.
كل دعوات تجديد الخطاب الديني السابقة اعتمدت مبدأ الحوار والطرح الفكري، أما الدعوة الجديدة فتزامنت مع فرمانٍ، نشرته الجريدة الرسمية، ينصّ على تحذير مَن يتصدّى للخطابة والوعظ بالسجن والغرامة، إلا إذا كان ينتمي للمؤسسة الدينية الرسمية، مع منح وعاظ الدولة حق الضبطية القضائية! على الرغم من اعتراف مؤسسة الأزهر والأوقاف، ومعرفة القاصي والداني، بالمستوى التأهيلي والثقافي المتدني لخريجي الأزهر. حيث يظهر أن الفرمان يستبق أي قواعد واضحة للتأهيل، سوى تقارير أمن الدولة في حق الدعاة المعينين!
تنمّرت وزارة الداخلية في مصر، وخلفها وزارة الأوقاف، سريعاً لكل مَن تسوّل له نفسه التحدّث على منابر الدولة، فأغلقت مئات المساجد في يوم جمعة، بفضل جهودهم المشكورة. (في الإسماعيلية وحدها منعت صلاة الجمعة في 386 مسجداً وزاوية). وانفجرت "ماسورة" الخطاب الديني الفضائي المنتظر والمعتدل، من غير الإسلاميين، وهم يعلنون آراءهم بكل حرية، من دون مؤاخذة من أي جهة، ومن دون أي سقف أو تحوط؛ فمنهم مَن تصدّى لانتقاد المناهج الدينية، وأوصى بضرورة حذف آياتٍ قرآنيةٍ، حتى لا تشوّه عقول الطلاب! ومنهن مَن افتعلت خصومةً مع "دعاء السفر" النبوي، وقالت إنه يناسب عصر الجمل، وساخرة ممّن يتمسك به قائلة: "هناك فارق توقيت جااااامد"!!"، إضافة إلى أخرى، تهاجم الاعتكاف في شهر رمضان، وتصفه بأنه مزعج، وتسخر من عبارة: "قدّر الله وما شاء فعل"، وتقول: "دي أسلمة للغة يجب محاربتها"... وهكذا.
إضافة إلى الزوبعة الرعناء بشأن الملصق، مجهول المصدر: "هل صلّيتَ على النبي اليوم؟"، والذي انتشر في شوارع القاهرة والمحافظات، حين تصدّى المثقفون والإعلاميون المجددون، ببسالة لهذه الكارثة التي حلت بالأمة؛ فمذيعٌ يصرخ أن الملصق "سيؤدي إلى فتنة طائفية ولازم الداخلية تمنعه"، وصحافي يسانده بأنه "قرفان من ملصق الصلاة على النبي". وعلى الفور، استجابت السلطات، وقررت القضاء على "الملصق"، وملاحقته في حربها على الإرهاب!
لم يتأخر علماء المؤسسة العسكرية، أيضاً، عن أداء واجبهم تجاه فضيحة "الصلاة على النبي"، فاتفقوا على أن الدعوة إلى "الصلاة على النبي" خطر محدق، وأن على الدولة، وأجهزتها الأمنية، ضرورة مواجهتها بقبضة حديدية! فالشيخ المشهور، صاحب عبارة أن عبد الفتاح السيسي ومحمد إبراهيم رسولان من عند الله، يدعم إزالة وزارة الداخلية ملصق الصلاة على الرسول، ويؤكد أن أصحابه يسعون إلى مكاسب رخيصة. وشيخ آخر، يُدْعى كريمة، يرى أن مروجي الملصق المجهولين يفعلون ذلك بدافع الرياء!
وهكذا، يبدو واضحاً أن لا علاقة للمطالبة بتجديد الخطاب الديني في مصر بالدين وخطابه، بقدر ما لها علاقة بالسياسة الانقلابية، ومحاولة فرض وصاية على المعارضة، وإعلان التمرد على عودة ما يسمونه "الإسلام السياسي" الذي يرونه عائقاً أمام مصالحهم ونفوذهم. إلى درجة تجعلهم يرحبون بنظرية أن الرقص أمام اللجان الانتخابية يمثّل "تجسيداً للإسلام الجميل"، وفقاً للفنانة المنفتحة الإسلامية الليبرالية "صابرين"، في مقابل الاشمئزاز والرفض لكل دعوات احترام مبادئ العدالة والحرية والديمقراطية!
الخلاصة أنهم اتفقوا على أن يكون الخطاب الديني الوحيد المعتمد هو خطاب "الشيخ مبروك" في فيلم "الزوجة الثانية". كما اتفقوا من قبل على أن يكون نموذج الوطنية والإخلاص والطهر هو نموذج محجوب عبد الدايم في "القاهرة 30".