11 مارس 2015
الحلاج لا يدعم المشير
الصراع المحتدم على زعامة الطرق الصوفية في مصر، والذي وصل إلى ساحات المحاكم والتشهير الإعلامي، لم يمنع الفرقاء المتشاكسين من أهل "الخطوة" أن يتفقوا على الدعم المطلق لصاحب "الحظوة"، عبد الفتاح السيسي، رئيساً، حتى إن الموالد والاحتفالات الصوفية بدا أنها تخلت عن الذّكر والابتهالات والأوراد المتوارثة، واستعاضت عنها بأغنية "تسلم الأيادي" والرقص على أنغامها.
لا يمثل هذا الدعم مفاجأة للمراقبين، فكما يحفظ السلفيون "الرسميون" فتوى "المتغلب بالشوكة"؛ يحفظ الصوفيون "الرسميون" قول الشعراني: "أُخِذَ علينا العهدُ بأنْ نأمرَ إخواننا أن يدوروا مع الزّمان، وأهلِه، كيفَما دارَ، ولا يزدرونَ قطّ منْ رَفَعَهُ اللهُ عليهم، ولو كان في أمورِ الدّنيا وولايتها. كلّ ذلك أدباً مع الله عز وجل الذي رفعَهُم، فإنَّه لم يرفعْ أحداً إلا لحكمة هو يعلمها".
قبل الثورة، هرول مشايخ الصوفية إلى تأييد جمال مبارك خلفاً لوالده؛ حتى صرح وكيل "المشيخة العامة للطرق الصوفية" أن مشايخ الطرق الصوفية يؤيدون ترشيح جمال، من منطلق طاعة أولي الأمر، وتطبيقاً لنظرية "ابن الشيخ أحق بخلافة والده"، حيث لا يغيب البعد "الشرعي" في تبرير الموقف السياسي، المستسلم دائماً لذوي السلطان، وهو استسلام كفيل بأن تعشق السلطةُ "الطرقَ الصوفية"، وتستميل مشايخها، منذ نابليون بونابرت ودعمه موالدهم، وإحيائها بمبالغ طائلة ومخصصات ثابتة، وفقاً للجبرتي.
الشيخ علاء أبو العزايم، رئيس الاتحاد العالمي للصوفية، وأحد رموز المعارضة الصوفية، لم يكتفِ بتأييد السيسي في خلوته المنعزلة، أو الدعاء له ومباركته، أو تخصيصه بأوراد ورقى وأحجبة؛ لكنه قام بجولة أوروبية مكوكية لدعم المشير، ليلتقي بالجاليات المصرية المغتربة، وإقناعهم بتأييده، والعمل على إقناع الأوروبيين بأن 30 يونيو/حزيران 2013 كان ثورة شعبية ضد الإرهاب. أمّا غريمه اللدود عبد الهادى القصبي، رئيس المجلس الأعلى للطرق الصوفية، والذي وصفه منافسوه بأنه لم يكن "شيخاً"، بقدر ما كان "مخبراً" و"جاسوساً" لصالح حسني مبارك الذي عينه شيخاً لمشايخ الطرق الصوفية، وعضواً في لجنة السياسات للحزب الوطني؛ فقد هرول، كعادته، إلى أحضان الدولة العميقة؛ والتقى السيسي، مؤكداً وحدة الطرق الصوفية في دعمه، مثلما كان قد أكد ذلك للفريق أحمد شفيق في 2012، ولمبارك قبلهما.
لم يفوت أبو العزايم فرصة الطعن في القصبي، على الرغم من أنهما ينعمان في "تكيّة" واحدة، ويشربان من "سَبيلٍ" واحد، معترفاً بأن القيادات الصوفية هي من تقدم نفسها للسلطة لتحقيق مصالحها الشخصية، وأوضح أن مساندتهم السيسي ليست عن قناعة شخصية، بل لركوب الموجة، لأنهم يستغلون النظام الحاكم، أياً كانت توجهاته.
ومما يرغّب السلطة المستبدة في احتضان الصوفية، وتنظيم عملها وتقنينه؛ قدرة القيادات الصوفية على توجيه جماعات المغيبين من أتباعهم، حيث يردد المشايخ على أتباعهم، دائماً، مواد دستورية في علاقة المريد بشيخه، كقول الجيلاني: "من لم يعتقد في شيخه الكمال لا يفلح أبداً". وقول علي وفا: "المريد الصادق مع شيخه كالميت مع مغسله، لا كلام ولا حركة، ولا ينطق بين يديه من هيبته، ولا يدخل ولا يخرج، ولا يخالط أحداً، ولا يشتغل بعلم ولا قرآن ولا ذكر إلا بإذنه". وقول آخر: "ينبغي له (أي: للمريد) أن يحذر من تأويل كلام شيخه عن ظاهره، إذا أمره بأمر، بل يبادر إلى فعل ذلك من غير تأويل".
هذه القواعد المقدسة كانت كافية جداً لأن ترى الأنظمة السياسية المختلفة في التيارات الصوفية كياناتٍ دينيةً بديلةً، سهلة التطويع، لذا، فإن الحكومات تنظم الكيانات الصوفية وتدعمها، وتعتبرها تياراً معتدلاً، يمثل نموذج الإسلام المناسب الذي لا يسعى إلى تغيير الواقع، أو تثوير المجتمع على أوضاعه البائسة.
ولا شك في أن "الرموز الصوفية" التاريخية تختلف عن الجماعات الصوفية الممالئة، والتي تنهل من صناديق النذور الرسمية وعطاءات الدولة السخية. فمبكراً جداً؛ صلب العباسيون الحلاج، وفتك الأيوبيون بالسهروردي، حين شكلا خطراً على السلم العام؛ وفقاً للديباحة القانونية المتوارثة. في المقابل، وصمت السلطة الفاسدة "المجاهدين" الصوفيين على مرّ التاريخ، بكل نقيصة؛ فوصفت أحمد عرابي بـ "العاصي"، وعمر المختار بـ "زعيم العصابة"، وشامل الشيشاني بـ "زعيم المارقين". ولم يتبق من الحالة الصوفية الحقيقية إلا الرواسب السلبية للمريدين؛ من موالد صاخبة، وتجمعات نفعية، وأوراد لا تجاوز الحناجر، وصراعات على المشيخة بلغت المحاكم، ولهاث خلف السلاطين.
في رائعة صلاح عبد الصبور الرمزية "مأساة الحلاج"، كان القاضي أبو عمر يتأهب للفتك بالصّوفيّ المتمرد، قائلاً: نحنُ قضاةٌ لا جلادونْ/ ما نصنعُهُ/ أنْ نَجْدِلَ مشنقة من أحكامِ الشّرعْ/ والسّيافُ يشدُّ الحَبلْ. لكن، ما فات عبد الصبور أن يذكر أنه بعد أن صُلِبَ الحلّاج بجريمة معارضة المُشير، صار أبو عمر وأحفاده شيوخاً لـ "الطرق الصوفية" في مصر.