منذ إطلاقها عام 1977، تمكّنت "جائزة الآغا خان للعمارة" من احتلال مكانة محورية في فهم ودراسة وتطوير العمارة في العالم الإسلامي وتقديم منجزات لها في العالم؛ فعلى مدى دوراتها الأربع عشرة الماضية، جرى ترشيح المئات من المشاريع وتقييمها ونشرها والاحتفاء بها، واختيار أفضلها لمنحه الجائزة، ما حوّل هذا المجال المعماري، الذي كان مهمَلاً تماماً في الفكر المعماري المعاصر، إلى مساهِمٍ معترَف به ولا مفرّ منه في دراسة العمارة العالمية المعاصرة.
خلال سنواتها الاثنتين والأربعين، عرفت الجائزة تطوّراً ملحوظاً في مضمونها واهتماماتها، مواكِبةً بذلك تطوُّر الفكر المعماري بشكل عام، والفكر النقدي والاستعادي لـ العمارة الإسلامية بشكل خاص، بل إنّها ساهمت في تطويره ليبلغ اليوم مرحلةً من النضوج والانتشار.
وفي دورتها الرابعة عشرة، التي نُظّمت بين الحادي عشر والرابع عشر من أيلول/ سبتمبر الجاري في مدينة قازان، عاصمة جمهورية تتارستان في روسيا الاتحادية، عادت الجائزة إلى ستّة مشاريع من تتارستان وبنغلادش والسنغال وفلسطين والإمارات والبحرين.
المشاريع الفائزة هي برنامج تنمیة الأماكن العامة في تتارستان، والذي يشمل الحدائق المئتَين الموزّعة في كل أرجاء الجمهورية الإسلامية الغنية في وسط روسيا، والتي تؤمّن فضاءات طبيعية لسكّان مدنها، و"مشروع أركادیا التعلیمي" في بنغلادش، أو "مدرسة البامبو" التي تطفو خلال ارتفاع منسوب المياه، كوسيلة مبتكَرة لمقاومة التأثيرات الجارفة للمياه في هذا البلد الفقير الذي يتعرّض للفيضانات دائماً، ومبنى محاضرات "جامعة عليون ديوب" في السنغال الذي يَستخدم مبادئ التهوئة والتكييف الطبيعي للتخفيف من استخدام التكييف الاصطناعي المكلف في هذا البلد الأفريقي الفقير.
فاز بالجائزة، أيضاً، كلٌّ من "المتحف الفلسطیني" في بلدة بیرزیت الفلسطينية، والذي يسعى، عبر تمسُّكه المعماري والإنشائي بالأرض وانزراعه في قلب مساحة حدائقية مصمَّمة بشغف، إلى إثبات انتماء الفلسطينيّين لأرضهم شكلاً ومضموناً، إلى جانب مشروع إحیاء مدینة المحرّق في البحرين؛ حيث قامت الهيئة المشرفة عليه بإعادة تأهيل العديد من المنازل القديمة وتخطيط النسيج العمراني الذي يضمّها، ليكون كلّاً ثقافياً وعمرانياً متكاملاً، وأخيراً "مركز واسط للأراضي الرطبة" في الشارقة، والذي يضمّ حديقة ومركزاً تعليميّين، ويحوي كلّ أنواع الطيور المقيمة والمهاجرة في هذه الإمارة، بأسلوب يسمح للزائر بالتعرُّف على هذه الطيور من دون غزو بيئتها شبه الطبيعية.
تعطي هذه المشاريع بمجملها، لمحةً عن مدى اهتمام الجائزة بكلّ مظاهر العمارة والعمران، من الترميم الحضري إلى العمارة البيئية، ومن الاستثمار في المواد التقليدية إلى آخر ابتكارات العمارة المستدامة والتواؤم مع الطبيعة، ومن هندسة الحدائق والمساحات الخضراء إلى التخطيط المدني، من دون أن تنسى الاهتمام الأصلي للعمارة؛ التشكيل والتصميم المبتكَر والخلّاق.
ومع ذلك، فإن الدوافع الكامنة وراء "جائزة الآغا خان"، وجذورها الفكرية والعملية، وآليات تطوُّرها، وعلاقتها الجدلية مع سياقها المعماري الأوسع، نادراً ما جرى درسها والاستفادة منها خارج إطار الجائزة نفسها. ولعلّ في ذلك خسارة كبيرة لمجال العمارة ولتراكم المعرفة المعمارية في الآن نفسه.
مرّت الجائزة، التي قاربت العمارة الإسلامية منذ تأسيسها كفئة تصميم مختصّة ذات جذور تاريخية لا بدّ من احترامها وإعادة تمثُّلها، بسلسلة من التحوُّلات في نظرتها إلى العمارة وتقييمها لدورها؛ من التركيز على الاستمرارية التاريخية والإحياء المعماري والإقليمية الناقدة في البداية، إلى التوسُّع أفقياً وعمودياً للاستجابة للتحدّيات البيئية والاجتماعية والعولمية المتصاعدة للعمارة والتنمية، لتشمل التصميم المعاصر، والإسكان الاجتماعي، وتحسين الأوضاع المجتمعية عن طريق التصميم، والمحافظة على العمارة التاريخية، وإعادة الاستخدام الأنسب، والحفاظ على العمران ككل، وكذلك الهندسة الطبيعية والتصميم البيئي.
تمثّلت الجائزة وأعادت إنتاج التحوُّلات التي مرّت بها العمارة، خاصة العمارة في البلاد التي تكوّنت بعد الاستعمار في القرن الماضي، من انتقائية أوائل القرن العشرين إلى الزخم التاريخي لعمارة ما بعد الحداثة، والتي تزامنت فترةُ صعودها مع تأسيس الجائزة في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، كما واكبت ولوج العمارة ميادين الاستدامة والمحافظة على البيئة وإحياء التراث والابتكار التصميمي والمادي والإنشائي، خاصّةً بعد دخول الكومبيوتر بقوّة في عالم التصميم.
اليوم، ومع سجلّ حافل يحوي أكثر من مئة مشروع فائز وقرابة مئتَي مشروع وصلت إلى التصفيات النهائية، يمكن القول إنَّ الجائزة ساهمت بشكل كبير في إذكاء التفكير المعماري نظرياً وتطبيقياً والاهتمام بكل مناحي العمارة في العالم الإسلامي وفي بقية دول العالم التي ما زالت تكافح للنهوض والتنمية.
على عكس كثير من جوائز العمارة العالمية، ليست "جائزة الآغا خان" احتفالاً بعبقرية المعمار المصمَّم فقط، وإنما هي اعتراف بتكامل فعل العمارة من مصمّم المشروع إلى منفّذه فمموّله، وأخيراً مستخدمه؛ إذ أنَّ الجائزة تُمنَح لكل هؤلاء، فالعمارة ليست عملاً فنياً يخلقه فرد واحد، وإنما هي تضافرُ جهود وخبرات وعمل وابتكار مجموعات من الناس لكل منهم دور أساسي في إنجاز المشروع المعماري.
والجائزة كذلك مهتمة إلى أبعد الحدود بنشر الفكر المعماري؛ حيث تنشُر في كل دورة كتباً موثّقة حول المشاريع الفائزة والبلد الذي استضاف الاحتفالية والموقع الإسلامي التاريخي الذي جرى فيه الحفل، كما تعقد ندوات مختلفة، خلال الاحتفالية وفي السنتين اللاحقتين لها، للتعريف بالمشاريع ومناقشتها والتعلّم منها ونقدها، قبل البدء بالتحضير للدورة اللاحقة في السنة الثالثة.
تُعقَد هذه الندوات عادةً في بلدان المشاريع الفائزة، أو في مدارس العمارة المهمّة في العالم الإسلامي. وقد تجمّع لدى الجائزة الآن رصيد من المنشورات المعمارية التي تشكل رديفاً مهماً للمكتبة المعمارية المتخصّصة في العمارة الإسلامية، والتي يمكنها أن تدعم حلقات وندوات دراسية تسبر سبراً أعمق في دراسة وفهم العمارة الإسلامية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. وهذا ما تسعى "جائزة الآغاخان" للاستمرار في تطويره ودعمه وإظهاره للعالم.
* مؤرخ معماري سوري وأستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا