01 نوفمبر 2024
"حفظ ماء الوجه"... قاسم مشترك بين أوباما وبوتين
يكاد يكون "حفظ ماء الوجه" القاسم المشترك الوحيد بين الرئيسين الأميركي، باراك أوباما، والروسي، فلاديمير بوتين، خلال إدارة الصراع السوري. عندما تم تفكيك ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية في مقابل تراجع واشنطن عن توجيه ضربة للنظام السوري، رضي أوباما بمكسبٍ قدمه له بوتين، وأتاح له حفظ ماء الوجه في مقابل تخليه عن تعهده بالتدخل العسكري، في حال تجاوز بشار الأسد الخطوط الحمر، ومنها استخدام الكيماوي.
ثم جاء دور أوباما ليعامل بوتين بالمثل، فبعد الموافقة الضمنية على التدخل العسكري الروسي في سورية في سبتمبر/أيلول 2015، أتت الرعاية الأميركية – الروسية اتفاق وقف العمليات القتالية، في فبراير/ شباط 2016، دليلاً على ذلك. هذا الاتفاق الذي سرعان ما انتهكه النظام، والمحاط بمباحثاتٍ مستمرةٍ، وبترتيباتٍ أمنيةٍ وتنسيق مشترك، وتبادل معلومات بين واشنطن وموسكو حول الملف السوري، ساهم بلعب دورين متداخلين. الأول شكلي، يتمثل بمساعدة بوتين على التظاهر بأن حربه في سورية في سبتمبر /أيلول الماضي لم تفشل. الثاني، جوهري، يتمثل بمراعاة السياسة الروسية التي يرضيها أن تسلك إدارة الصراع مساراً محكوماً بتفاهماتٍ ضمنية، على الرغم من التباينات المعلنة بين موسكو وواشنطن.
وليست أسباب التنازل الأميركي – الغربي آنيةً بقدر ما هي استراتيجية. فبعدما تجاوز الغربيون فكرة التعامل مع النفوذ والوجود الروسيين في الشرق الأوسط، بوصفهما تهديداً أمنياً استراتيجياً ينبغي عدم السماح به، بات هؤلاء ينظرون إلى التعاون (الجزئي) مع الروس باعتباره وسيلةً لا بد منها. أما هدفهم فبات يقتصر على المساهمة بـ"تقليص الفوضى" في سورية، وليس التوصل إلى حل جذري، يوقف نهائياً الصراع، وهو يمرّ بالضرورة برحيل الأسد. ويدرك الغربيون طبعاً أن للتفاهمات الضمنية مع الروس أثماناً عدة، منها التوقف عن اعتبار رحيل الأسد شرطاً مسبقاً لأي حل سياسي. هل كان بوتين يتمنى الحصول على أكثر من ذلك في المدى المنظور؟ هذا السؤال مشروعٌ، لأن فكرة "تقليص الفوضى" تعني، بالضرورة، التخلي عن أولوية إسقاط النظام السوري، والقبول بدوره على الأرض في ما تسمى الحرب على "الإرهاب". هذا ما تكرّس اليوم من خلال الاتفاق الروسي – الأميركي، أخيراً، حول الهدنة في سورية. هذا الاتفاق الذي ولد (ميتاً؟) بعد مباحثات دبلوماسية شاقة وطويلة بين وزيري خارجية روسيا والولايات المتحدة، سيرغي لافروف وجون كيري، في جنيف، فتح الباب أمام مزيدٍ من التنسيق العسكري والاستخباراتي بين البلدين في سورية. هكذا إذاً يكون أوباما قد أعطى نظيره الروسي مكاسب لا يُستهان بها، تكفي، بالحد الأدنى، لحفظ ماء وجه بوتين.
لكن ماذا سيجني أوباما في المقابل؟ وهل ثمّة تنازل سيقدمه بوتين للرئيس الأميركي، ليعطي،
ولو شكلاً، صدقيةً لعقيدته المتمثلة في عدم التدخل في الصراع السوري والانكفاء التدريجي عن منطقة الشرق الأوسط؟ هل يبحث أوباما فعلاً عن تحوّل ما في سورية يعطي دبلوماسيته نجاحاً ولو محدوداً، بوجه الحملة التي يتعرّض لها، ولا سيما في الغرب، وتتهمه بالإخفاق، وتحمّله مسؤولية ضعف، بل موت، الدبلوماسية الأميركية، نتيجة تقاعس إدارته وترددها في شأن المسألة السورية؟ لذلك، ثمّة تساؤل آخر مبرّر، يتمثل بمعرفة ما إذا كانت الإدارة الأميركية توافق على رعاية الاتفاقات المتتالية مع موسكو، من دون اشتراطها الحصول على مكسبٍ يجنّبها الإحراج أمام خصومها المحليين، والنقّاد والخبراء، وأمام حلفائها الدوليين والإقليميين؟
أيًّاً تكن الأجوبة، لا يمكن لمصير سورية وشعبها أن يبقى مرهوناً باتفاقاتٍ هزيلة وهشة، تراعي، قبل كل شيء، مصالح الدول العظمى، وتسمح، بالدرجة الأولى، بتلميع صورة هذا الرئيس أو ذاك، ولا تضمن وضع حد نهائي للصراع السوري، ولمجازر الأسد، لأنها غير مبنيةٍ على أسس متينة، ولا تلقى موافقة جميع الأطراف المعنية بالصراع، لا سيما المعارضة السورية.
يمثل "حفظ ماء الوجه" أحد مفاتيح التفاهمات بين الخصوم والأعداء خلال إدارة الأزمات على الساحة الدولية. مبدأ لا بد منه للحؤول دون تصعيد التوتر في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، على غرار ما كان يحصل في حقبة الحرب الباردة. لكن اتفاقات وقف إطلاق النار والهدن في سورية، برعاية أميركية – روسية، تحت مظلة الأمم المتحدة، والمباحثات المتقدمة حول الانتقال السياسي والخطوات العملية التي تلوح في الأفق، ليست سوى ترتيبات وخطوات عملية محدودة جداً، ولا تبشر بالوصول إلى انفراج. فأي اتفاقٍ لوقف إطلاق النار لن ينجح، ما لم يكن مقروناً برؤيةٍ لحل سياسي يعالج أسباب المشكلة، ولا يكتفي بمعالجة عوارضها أو نتائجها. وإذا قدّر لهذا الاتفاق أن يساهم في تحقيق انفراج جزئي في الوضع السوري، فإنه لن يؤدي تلقائياً إلى إيجاد مخرج للأزمة، لأن الخلافات والتناقضات لا تزال كثيرة ومعقدة، خصوصاً بين موسكو وواشنطن. وهي تشكل عاملاً يعيق إمكانية اتفاق الطرفين على توفير ضماناتٍ دوليةٍ فعليةٍ، لوقف نهائي للاقتتال العسكري. إذاً لا تزال الإدارة الدولية للصراع السوري بعيدة كل البعد عن تسويةٍ تضع حداً له، وتعالج لاحقاً نتائجه. ناهيك عن مسافة الألف ميل التي تفصل الجميع عن التفكير في الدروس التي يجب استخلاصها من هذا الصراع على المدى البعيد، كي لا يتجدّد مرةً أخرى.
عدم الوصول إلى مستوى بنّاء في إدارة الصراع السوري، وإلى ما هو أكثر من اتفاق هدنة هشّة، بعد مفاوضاتٍ طويلةٍ جداً بين كيري ولافروف، وبعد كل الاهتمام الإعلامي الذي حظيت به هذه المفاوضات، يذكّر بذلك القول المأثور: "تمخض الجبل فولد فأراً" (إلا إذا كانت هناك قطبة مخفية واتفاقات سرية بين موسكو وواشنطن؟).
إدارة الأزمات التي نجمت عن الحرب الباردة أو تأثرت بها، اتسمت، في حالاتٍ كثيرة، باكتفاء موسكو وواشنطن بحلولٍ جزئية، بتسوياتٍ هشة، أو بترتيباتٍ كانت توفر لكل منهما مخرجاً مشرفاً يحفظ لهما ماء الوجه، طالما أن انتصار إحداهما على الآخر كان مستبعداً. كانت الواقعية السياسية ولا تزال تناسب، ربما، الدولتين العظميين، لكنها لم ولن تحقق استقراراً وسلاماً دائمين في العالم.
دول وشعوب عدة عانت وتعاني من نتائج تصرفٍ كهذا، يستبعد معالجة الأسباب العميقة للأزمات. من المؤسف أن يتكرّر هذا التصرف اليوم في أثناء إدارة الصراع السوري.
ثم جاء دور أوباما ليعامل بوتين بالمثل، فبعد الموافقة الضمنية على التدخل العسكري الروسي في سورية في سبتمبر/أيلول 2015، أتت الرعاية الأميركية – الروسية اتفاق وقف العمليات القتالية، في فبراير/ شباط 2016، دليلاً على ذلك. هذا الاتفاق الذي سرعان ما انتهكه النظام، والمحاط بمباحثاتٍ مستمرةٍ، وبترتيباتٍ أمنيةٍ وتنسيق مشترك، وتبادل معلومات بين واشنطن وموسكو حول الملف السوري، ساهم بلعب دورين متداخلين. الأول شكلي، يتمثل بمساعدة بوتين على التظاهر بأن حربه في سورية في سبتمبر /أيلول الماضي لم تفشل. الثاني، جوهري، يتمثل بمراعاة السياسة الروسية التي يرضيها أن تسلك إدارة الصراع مساراً محكوماً بتفاهماتٍ ضمنية، على الرغم من التباينات المعلنة بين موسكو وواشنطن.
وليست أسباب التنازل الأميركي – الغربي آنيةً بقدر ما هي استراتيجية. فبعدما تجاوز الغربيون فكرة التعامل مع النفوذ والوجود الروسيين في الشرق الأوسط، بوصفهما تهديداً أمنياً استراتيجياً ينبغي عدم السماح به، بات هؤلاء ينظرون إلى التعاون (الجزئي) مع الروس باعتباره وسيلةً لا بد منها. أما هدفهم فبات يقتصر على المساهمة بـ"تقليص الفوضى" في سورية، وليس التوصل إلى حل جذري، يوقف نهائياً الصراع، وهو يمرّ بالضرورة برحيل الأسد. ويدرك الغربيون طبعاً أن للتفاهمات الضمنية مع الروس أثماناً عدة، منها التوقف عن اعتبار رحيل الأسد شرطاً مسبقاً لأي حل سياسي. هل كان بوتين يتمنى الحصول على أكثر من ذلك في المدى المنظور؟ هذا السؤال مشروعٌ، لأن فكرة "تقليص الفوضى" تعني، بالضرورة، التخلي عن أولوية إسقاط النظام السوري، والقبول بدوره على الأرض في ما تسمى الحرب على "الإرهاب". هذا ما تكرّس اليوم من خلال الاتفاق الروسي – الأميركي، أخيراً، حول الهدنة في سورية. هذا الاتفاق الذي ولد (ميتاً؟) بعد مباحثات دبلوماسية شاقة وطويلة بين وزيري خارجية روسيا والولايات المتحدة، سيرغي لافروف وجون كيري، في جنيف، فتح الباب أمام مزيدٍ من التنسيق العسكري والاستخباراتي بين البلدين في سورية. هكذا إذاً يكون أوباما قد أعطى نظيره الروسي مكاسب لا يُستهان بها، تكفي، بالحد الأدنى، لحفظ ماء وجه بوتين.
لكن ماذا سيجني أوباما في المقابل؟ وهل ثمّة تنازل سيقدمه بوتين للرئيس الأميركي، ليعطي،
أيًّاً تكن الأجوبة، لا يمكن لمصير سورية وشعبها أن يبقى مرهوناً باتفاقاتٍ هزيلة وهشة، تراعي، قبل كل شيء، مصالح الدول العظمى، وتسمح، بالدرجة الأولى، بتلميع صورة هذا الرئيس أو ذاك، ولا تضمن وضع حد نهائي للصراع السوري، ولمجازر الأسد، لأنها غير مبنيةٍ على أسس متينة، ولا تلقى موافقة جميع الأطراف المعنية بالصراع، لا سيما المعارضة السورية.
يمثل "حفظ ماء الوجه" أحد مفاتيح التفاهمات بين الخصوم والأعداء خلال إدارة الأزمات على الساحة الدولية. مبدأ لا بد منه للحؤول دون تصعيد التوتر في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، على غرار ما كان يحصل في حقبة الحرب الباردة. لكن اتفاقات وقف إطلاق النار والهدن في سورية، برعاية أميركية – روسية، تحت مظلة الأمم المتحدة، والمباحثات المتقدمة حول الانتقال السياسي والخطوات العملية التي تلوح في الأفق، ليست سوى ترتيبات وخطوات عملية محدودة جداً، ولا تبشر بالوصول إلى انفراج. فأي اتفاقٍ لوقف إطلاق النار لن ينجح، ما لم يكن مقروناً برؤيةٍ لحل سياسي يعالج أسباب المشكلة، ولا يكتفي بمعالجة عوارضها أو نتائجها. وإذا قدّر لهذا الاتفاق أن يساهم في تحقيق انفراج جزئي في الوضع السوري، فإنه لن يؤدي تلقائياً إلى إيجاد مخرج للأزمة، لأن الخلافات والتناقضات لا تزال كثيرة ومعقدة، خصوصاً بين موسكو وواشنطن. وهي تشكل عاملاً يعيق إمكانية اتفاق الطرفين على توفير ضماناتٍ دوليةٍ فعليةٍ، لوقف نهائي للاقتتال العسكري. إذاً لا تزال الإدارة الدولية للصراع السوري بعيدة كل البعد عن تسويةٍ تضع حداً له، وتعالج لاحقاً نتائجه. ناهيك عن مسافة الألف ميل التي تفصل الجميع عن التفكير في الدروس التي يجب استخلاصها من هذا الصراع على المدى البعيد، كي لا يتجدّد مرةً أخرى.
عدم الوصول إلى مستوى بنّاء في إدارة الصراع السوري، وإلى ما هو أكثر من اتفاق هدنة هشّة، بعد مفاوضاتٍ طويلةٍ جداً بين كيري ولافروف، وبعد كل الاهتمام الإعلامي الذي حظيت به هذه المفاوضات، يذكّر بذلك القول المأثور: "تمخض الجبل فولد فأراً" (إلا إذا كانت هناك قطبة مخفية واتفاقات سرية بين موسكو وواشنطن؟).
إدارة الأزمات التي نجمت عن الحرب الباردة أو تأثرت بها، اتسمت، في حالاتٍ كثيرة، باكتفاء موسكو وواشنطن بحلولٍ جزئية، بتسوياتٍ هشة، أو بترتيباتٍ كانت توفر لكل منهما مخرجاً مشرفاً يحفظ لهما ماء الوجه، طالما أن انتصار إحداهما على الآخر كان مستبعداً. كانت الواقعية السياسية ولا تزال تناسب، ربما، الدولتين العظميين، لكنها لم ولن تحقق استقراراً وسلاماً دائمين في العالم.
دول وشعوب عدة عانت وتعاني من نتائج تصرفٍ كهذا، يستبعد معالجة الأسباب العميقة للأزمات. من المؤسف أن يتكرّر هذا التصرف اليوم في أثناء إدارة الصراع السوري.