طالب محمود، لبناني في الثامنة والأربعين من عمره. في الثامن عشر من يناير/ كانون الثاني 1976، تُرك "سهواً" بعدما قتلت مليشيات والده وشقيقه الأكبر وشقيقتين، في منطقة الكرنتينا (بيروت الشرقية). وعندما سمح لوالدته التي كانت غائبة يوم المجزرة عن المكان بالدخول، عثرت على الجثث فغطتها بألواح تنك وخشب، بانتظار دفنها يوماً ما. لكنّها لم تعثر على طفلها طالب، الذي كان في الخامسة، وبعد أكثر من عامين أبلغها أحدهم أنّ جمعية كنسية أخذته مع أطفال آخرين. لكنّها في تلك الفترة كانت في جنوب لبنان، وفي أجواء حرب ومعارك ومليشيات مسيطرة، لم تتمكن من إعادة ابنها إليها إلّا بعد 4 سنوات على المجزرة.
قصة طالب ليست نموذجية في لبنان. ففي البلد الصغير الذي شهد حرباً أهلية طائفية اشتركت فيها قوى إقليمية غازية، آلاف المختفين (لبنانيون وفلسطينيون وسوريون وآخرون، يصل عددهم في بعض التقديرات إلى 17 ألفاً) الذين لم يعلم أهلهم بعد طريقاً لهم، بالرغم من مرور 43 عاماً على بداية الحرب، ونحو 28 عاماً على نهايتها.
اقــرأ أيضاً
يختلف لبنان عن غيره من الدول في كون السلطة وقواتها المسلحة والأمنية غير مسؤولة عن الخطف والإخفاء خلال الحرب، بل المليشيات المسيطرة، إلى جانب القوى الإقليمية، لا سيما الاحتلال الصهيوني، والنظام السوري. الأزمة الكبرى أنّ زعماء تلك المليشيات ومسؤوليها باتوا في قلب السلطة في المراحل التي أعقبت الحرب حتى يومنا هذا، ما يمنع حلّ قضية المختفين بالرغم من عدم توقف الأهالي يوماً عن المطالبة بكشف مصيرهم.
قصص الأهالي كثيرة، فهي تشمل عدداً كبيراً من المختفين من الجنسين ومن مختلف الأعمار، وفي محطات مختلفة من الحرب، لكنّهم اليوم فاقدو الأمل، كما تقول زينة فواز التي كانت طفلة صغيرة رباها عمها بعد خطف والدها عام 1982 في بيروت الشرقية، ثم وفاة والدتها بعد ذلك بعام واحد. تضيف المرأة التي بات لديها اليوم أربعة أطفال يشاركون معها في تحركات "لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان" لـ"العربي الجديد": "لطالما كان لديّ أمل في عودة والدي، لكنّي فقدته لأنّنا وحدنا في المطالبة ولا أحد يسأل عنّا، مع أنّ الدولة هي المعنيّة والمسؤولة عن كشف مصيرهم وليس نحن". تضيف: "الوجع لم يتركنا يوماً، لكنّ الناس نسوا قضيتنا، ونحن نذكّرهم بها".
خلال شهر أغسطس/ آب الجاري، نظمت اللجنة التي بدأت عملها في النصف الأول من الثمانينيات لتنطق باسم أهالي المختفين قسراً منذ ذلك التاريخ، تحركات عدة للتذكير بالقضية والمطالبة بحلول فعالة، بالتعاون مع منظمة "لنعمل من أجل المفقودين". في أحد هذه التحركات اتكأ إبراهيم البستاني (55 عاماً) على طاولة وضعت فوقها فولارات ملونة، كان يكتب على أحدها اسم شقيقه علي حسين البستاني الذي خطف في النبعة (بيروت الشرقية) عام 1975 وكان في الرابعة عشرة فحسب. يتحدث البستاني لـ"العربي الجديد" بكثير من الحزن، كأنّ تلك اللحظة ما زالت حاضرة بعد تلك السنوات الطويلة: "جاءنا خبر أنّهم دفنوه وهو على قيد الحياة، لكنّنا لم نتأكد حتى اليوم من شيء".
بين صور شخصية بالأبيض والأسود لبعض المخطوفين في الحرب، ولوحة تحمل خواطر يكتبها أبناؤهم وأحفادهم وشركاؤهم وأقاربهم، وورود موزعة مع بيانات اللجنة بمناسبة "اليوم الدولي لضحايا الاختفاء القسري"، تبدو السيدة الستينية، سهاد كرم، صلبة متماسكة، وهي تتحدث إلى "العربي الجديد" عن زوجها سالم جرجس كرم الذي خطف في عاليه (جبل لبنان) عام 1983. توجه رسالة إليه: "كثيراً ما أتمنى أن تعود لترى الأبناء كيف صاروا. صرنا جداً وجدة أربع مرات والحفيد الخامس على الطريق". تتابع: "أخبر أحفادي عن جدهم كما أخبرت أولادي عن أبيهم. أريدهم أن يعرفوا الحقيقة، فأنا قد أرحل وهم من سيتابعون قضيته".
المفارقة في قضية إبراهيم جبر الذي خطف عام 1984 في الحمراء (بيروت الغربية) أنّ المسؤول المليشياوي الذي خطفه غيّب في السجون السورية لاحقاً، بعد اختلافه مع القوات السورية. يقول شقيقه بلال جبر، لـ"العربي الجديد": "كان شقيقي في الثالثة والعشرين، طالباً في الجامعة الأميركية في بيروت. مسؤول المليشيا الذي خطفه قال لأهلي إنّه أطلق سراحه، لكنّه اعترف لاحقاً بأنّه سلّمه للجيش السوري. ذهب أبي إليهم فقالوا إنّهم لا يعرفون أحداً بهذا الاسم. لكن، عندما سجن المسؤول لدى السوريين في لبنان، وتمكن أبي من الوصول إليه في السجن ليسأله، اعترف له هذه المرة بأنّه قتل إبراهيم". يضيف: "إذا قُتل فعلاً نريد أن نعرف أين قبره على الأقل".
والدة سعاد هرباوي ماتت قبل عامين بعدما طال انتظارها لابنها أحمد هرباوي (شقيق سعاد) الذي خطف عام 1976 في الأشرفية (بيروت الشرقية)، وكان في السابعة عشرة. تقول هرباوي لـ"العربي الجديد": "كان مع أمي وأخذوه منها. بالنسبة لنا الحرب لم تنتهِ، وكلّ من هم في السلطة اليوم في رقابهم دماء، وهم قادرون على الكشف عن مصير المخطوفين. يزعمون أنّهم يخافون عودة الحرب الأهلية، لكنّ المخطوفين من كلّ الطوائف. لا نريد أن ننتقم بل نريد فقط أن نعرف".
لكنّ لجنة الأهالي لم يستجب لمطالبها أهل السلطة في لبنان بعد، سواء خلال الحرب، أو في أوقات السلم. كثير من الأهالي، خصوصاً من خُطف أبناؤهم أو أزواجهن وزوجاتهم، ماتوا وأورثوا درب المطالبة بكشف المصير لأبنائهم وأحفادهم. من جهتها، ما زالت رئيسة اللجنة، وصاحبة الفكرة الأساسية في إطلاقها، وداد حلواني، تطالب للآخرين ولنفسها بكشف المصير.
زوجها عدنان حلواني خطف عام 1982، في بيروت الغربية، وبعد شهر من ذلك وجهت نداء عبر الإذاعة إلى أهالي المخطوفين للتجمع والمطالبة بكشف مصيرهم، وكانت مفاجأة لها أن تشهد حضور أكثر من مائة امرأة وطفل. ومن هناك كانت الانطلاقة قبل أكثر من 35 عاماً.
تلفت حلواني "العربي الجديد" إلى النشاطات المتنقلة التي نظمتها الحملة طوال شهر أغسطس/ آب، بعنوان "حقنا نعرف"، وقد شملت مدن صيدا وصور (جنوب) وعاليه (جبل لبنان) والضاحية الجنوبية لبيروت، وسيكون الاحتفال المركزي اليوم الخميس في وسط بيروت حيث اعتادت اللجنة تنظيم تحركاتها، في الحديقة المواجهة لمبنى الأمم المتحدة (إسكوا) بالقرب من مقر الحكومة (السراي الكبير).
اقــرأ أيضاً
تطالب حلواني بـ"الحدّ الأدنى، والعدل الأدنى"، مشيرة إلى بيان اللجنة الذي يطالب الحكومة بإجازة مشروع اتفاق مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، العاملة على القضية، وهو المشروع الذي يستهدف مقارنة الحمض النووي لرفات ضحايا الحرب المجهولين، وأولئك الذين عثر عليهم في مقابر جماعية، مع الحمض النووي للأهالي. كذلك، يطالب البيان البرلمان بتشريع هيئة وطنية مستقلة مهمتها الكشف عن مصير المفقودين، وفق اقتراح قانون موجود في البرلمان. على المستوى الشخصي، تشير حلواني إلى أنّ إخبارها لأحفادها عن جدهم جعلهم محصّنين ضد الحرب، فهم لا يريدون "أن يحصل لجدّو فوزي، كما حصل لجدّو عدنان".
قصة طالب ليست نموذجية في لبنان. ففي البلد الصغير الذي شهد حرباً أهلية طائفية اشتركت فيها قوى إقليمية غازية، آلاف المختفين (لبنانيون وفلسطينيون وسوريون وآخرون، يصل عددهم في بعض التقديرات إلى 17 ألفاً) الذين لم يعلم أهلهم بعد طريقاً لهم، بالرغم من مرور 43 عاماً على بداية الحرب، ونحو 28 عاماً على نهايتها.
يختلف لبنان عن غيره من الدول في كون السلطة وقواتها المسلحة والأمنية غير مسؤولة عن الخطف والإخفاء خلال الحرب، بل المليشيات المسيطرة، إلى جانب القوى الإقليمية، لا سيما الاحتلال الصهيوني، والنظام السوري. الأزمة الكبرى أنّ زعماء تلك المليشيات ومسؤوليها باتوا في قلب السلطة في المراحل التي أعقبت الحرب حتى يومنا هذا، ما يمنع حلّ قضية المختفين بالرغم من عدم توقف الأهالي يوماً عن المطالبة بكشف مصيرهم.
قصص الأهالي كثيرة، فهي تشمل عدداً كبيراً من المختفين من الجنسين ومن مختلف الأعمار، وفي محطات مختلفة من الحرب، لكنّهم اليوم فاقدو الأمل، كما تقول زينة فواز التي كانت طفلة صغيرة رباها عمها بعد خطف والدها عام 1982 في بيروت الشرقية، ثم وفاة والدتها بعد ذلك بعام واحد. تضيف المرأة التي بات لديها اليوم أربعة أطفال يشاركون معها في تحركات "لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان" لـ"العربي الجديد": "لطالما كان لديّ أمل في عودة والدي، لكنّي فقدته لأنّنا وحدنا في المطالبة ولا أحد يسأل عنّا، مع أنّ الدولة هي المعنيّة والمسؤولة عن كشف مصيرهم وليس نحن". تضيف: "الوجع لم يتركنا يوماً، لكنّ الناس نسوا قضيتنا، ونحن نذكّرهم بها".
خلال شهر أغسطس/ آب الجاري، نظمت اللجنة التي بدأت عملها في النصف الأول من الثمانينيات لتنطق باسم أهالي المختفين قسراً منذ ذلك التاريخ، تحركات عدة للتذكير بالقضية والمطالبة بحلول فعالة، بالتعاون مع منظمة "لنعمل من أجل المفقودين". في أحد هذه التحركات اتكأ إبراهيم البستاني (55 عاماً) على طاولة وضعت فوقها فولارات ملونة، كان يكتب على أحدها اسم شقيقه علي حسين البستاني الذي خطف في النبعة (بيروت الشرقية) عام 1975 وكان في الرابعة عشرة فحسب. يتحدث البستاني لـ"العربي الجديد" بكثير من الحزن، كأنّ تلك اللحظة ما زالت حاضرة بعد تلك السنوات الطويلة: "جاءنا خبر أنّهم دفنوه وهو على قيد الحياة، لكنّنا لم نتأكد حتى اليوم من شيء".
بين صور شخصية بالأبيض والأسود لبعض المخطوفين في الحرب، ولوحة تحمل خواطر يكتبها أبناؤهم وأحفادهم وشركاؤهم وأقاربهم، وورود موزعة مع بيانات اللجنة بمناسبة "اليوم الدولي لضحايا الاختفاء القسري"، تبدو السيدة الستينية، سهاد كرم، صلبة متماسكة، وهي تتحدث إلى "العربي الجديد" عن زوجها سالم جرجس كرم الذي خطف في عاليه (جبل لبنان) عام 1983. توجه رسالة إليه: "كثيراً ما أتمنى أن تعود لترى الأبناء كيف صاروا. صرنا جداً وجدة أربع مرات والحفيد الخامس على الطريق". تتابع: "أخبر أحفادي عن جدهم كما أخبرت أولادي عن أبيهم. أريدهم أن يعرفوا الحقيقة، فأنا قد أرحل وهم من سيتابعون قضيته".
المفارقة في قضية إبراهيم جبر الذي خطف عام 1984 في الحمراء (بيروت الغربية) أنّ المسؤول المليشياوي الذي خطفه غيّب في السجون السورية لاحقاً، بعد اختلافه مع القوات السورية. يقول شقيقه بلال جبر، لـ"العربي الجديد": "كان شقيقي في الثالثة والعشرين، طالباً في الجامعة الأميركية في بيروت. مسؤول المليشيا الذي خطفه قال لأهلي إنّه أطلق سراحه، لكنّه اعترف لاحقاً بأنّه سلّمه للجيش السوري. ذهب أبي إليهم فقالوا إنّهم لا يعرفون أحداً بهذا الاسم. لكن، عندما سجن المسؤول لدى السوريين في لبنان، وتمكن أبي من الوصول إليه في السجن ليسأله، اعترف له هذه المرة بأنّه قتل إبراهيم". يضيف: "إذا قُتل فعلاً نريد أن نعرف أين قبره على الأقل".
والدة سعاد هرباوي ماتت قبل عامين بعدما طال انتظارها لابنها أحمد هرباوي (شقيق سعاد) الذي خطف عام 1976 في الأشرفية (بيروت الشرقية)، وكان في السابعة عشرة. تقول هرباوي لـ"العربي الجديد": "كان مع أمي وأخذوه منها. بالنسبة لنا الحرب لم تنتهِ، وكلّ من هم في السلطة اليوم في رقابهم دماء، وهم قادرون على الكشف عن مصير المخطوفين. يزعمون أنّهم يخافون عودة الحرب الأهلية، لكنّ المخطوفين من كلّ الطوائف. لا نريد أن ننتقم بل نريد فقط أن نعرف".
لكنّ لجنة الأهالي لم يستجب لمطالبها أهل السلطة في لبنان بعد، سواء خلال الحرب، أو في أوقات السلم. كثير من الأهالي، خصوصاً من خُطف أبناؤهم أو أزواجهن وزوجاتهم، ماتوا وأورثوا درب المطالبة بكشف المصير لأبنائهم وأحفادهم. من جهتها، ما زالت رئيسة اللجنة، وصاحبة الفكرة الأساسية في إطلاقها، وداد حلواني، تطالب للآخرين ولنفسها بكشف المصير.
زوجها عدنان حلواني خطف عام 1982، في بيروت الغربية، وبعد شهر من ذلك وجهت نداء عبر الإذاعة إلى أهالي المخطوفين للتجمع والمطالبة بكشف مصيرهم، وكانت مفاجأة لها أن تشهد حضور أكثر من مائة امرأة وطفل. ومن هناك كانت الانطلاقة قبل أكثر من 35 عاماً.
تلفت حلواني "العربي الجديد" إلى النشاطات المتنقلة التي نظمتها الحملة طوال شهر أغسطس/ آب، بعنوان "حقنا نعرف"، وقد شملت مدن صيدا وصور (جنوب) وعاليه (جبل لبنان) والضاحية الجنوبية لبيروت، وسيكون الاحتفال المركزي اليوم الخميس في وسط بيروت حيث اعتادت اللجنة تنظيم تحركاتها، في الحديقة المواجهة لمبنى الأمم المتحدة (إسكوا) بالقرب من مقر الحكومة (السراي الكبير).
تطالب حلواني بـ"الحدّ الأدنى، والعدل الأدنى"، مشيرة إلى بيان اللجنة الذي يطالب الحكومة بإجازة مشروع اتفاق مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، العاملة على القضية، وهو المشروع الذي يستهدف مقارنة الحمض النووي لرفات ضحايا الحرب المجهولين، وأولئك الذين عثر عليهم في مقابر جماعية، مع الحمض النووي للأهالي. كذلك، يطالب البيان البرلمان بتشريع هيئة وطنية مستقلة مهمتها الكشف عن مصير المفقودين، وفق اقتراح قانون موجود في البرلمان. على المستوى الشخصي، تشير حلواني إلى أنّ إخبارها لأحفادها عن جدهم جعلهم محصّنين ضد الحرب، فهم لا يريدون "أن يحصل لجدّو فوزي، كما حصل لجدّو عدنان".