03 اغسطس 2022
"حقوق المسيحيين" أم دولة العيش المشترك؟
لغط كبير وسجال حام يدور حول "حقوق المسيحيين" التي رفعها رئيس "التيار العوني"، جبران باسيل، شعاراً يشدّ به عصب المسيحيين، ويبتز به خصومه (المسلمين)، ويجعل من هذه "الحقوق" مطيةً يأمل أن توصله إلى رئاسة الجمهورية. ما هي ماهية هذه "الحقوق" وما الدور الحقيقي الذي أدّاه المسيحيون في تاريخ لبنان الحديث، وفي بلورة فكرة التعايش بين مكوناته، وعلاقتهم بالعروبة؟
العناصر المكونة لأي جماعة هي: التاريخ، والجغرافيا، والدور، والمصلحة. المسيحية ولدت في الشرق، ومنه انتشرت إلى العالم، والمسيحيون نشأوا وترعرعوا في هذا الشرق العربي منذ ما قبل الإسلام، إذ كانت بلاد الشام تعرف ببلاد العرب، وجبل لبنان كان جزءاً منها. وكانوا ينطقون باللغة العربية الفصحى قبل نحو قرنين من ظهور الإسلام، فيما كانت اللغة السريانية هي فصحى الآرامية، ولغة الطقس الكنسي في العراق والشام، وحتى في أنحاء الجزيرة العربية، وكان الموارنة يتكلمون العربية، ويكتبون بها منذ أكثر من ألف سنة، على ما يؤكد المؤرخ كمال الصليبي في كتابه "منطلق تاريخ لبنان". وهذا يعني أن المسيحيين أو "النصارى" عرب أصليون، وهم الذين أعطوا معنى ثقافياً وحضارياً للعروبة، وليسوا طارئين أو ملحقين أو تابعين. انتماؤهم العربي ليس إذاً ممالأة أو تملقاً للإسلام، وإنما يضرب عميقاً في جذور الجغرافيا والتاريخ.
وهذا لا يعني أن ليس للمسيحيين خصوصيتهم، وأن للبنان خصوصيته، فقد تميز منذ 1920
بتنوّعه الطائفي والمذهبي وتعدده الثقافي وترسيخ التعايش الحرّ بين مختلف مكوناته، كما أراده كبير صانعيه البطريرك إلياس الحويك الذي رفض فكرة الوحدة السورية تحت الأمير فيصل، كما رفض أيضاً فكرة لبنان كياناً مسيحياً، كما حاولت فرنسا تسويقه. كما أن استقلال 1943 جاء تتويجاً لنضج فكرة لبنان العيش المشترك بين "جناحيه المسلم والمسيحي"، على ما كان يردّد صائب سلام، لبنان الصيغة والميثاق الذي أرساه بشارة الخوري ورياض الصلح، لبنان التنوع والتعدد ضمن الدولة الواحدة. المسيحيون إذاً ليسوا بحاجة إلى حماية من أحد، ولكنهم في المقابل ليسوا بحاجة لخيارات أقلوية مغامرة، تعني في ما تعني تعارضها مع جوهر وجودهم ودورهم، ففي كل مرة حاولوا أن يسلكوا طريقاً مغايراً كانوا كمن يطلق النار على رجليه.
وهكذا اعتبر المسيحيون أنهم في أساس فكرة لبنان، وأنهم صنّاعه، عاشوا "عصره الذهبي" الذي دام أكثر من ثلاثين سنة منذ الاستقلال عام 1943 وحتى 1975، وفرضوا هيمنتهم على مفاصل السلطة، مرسخين ما عرف في تلك الحقبة بـ "المارونية السياسية" إلى حين اندلاع الحرب عام 1975، بعد أن صموا آذانهم عن مطالبة المسلمين بالشراكة، ووجهوا سهامهم نحو العامل الخارجي، وتحديداً الفلسطيني، فقضت الحرب على استئثار المسيحيين بالحكم، وعلى الامتيازات التي تمتعوا بها خلال فترة ممارستهم السلطة، وانتهت بإحباط مسيحي، فراح بعضهم يتوسل العلاج عند من كان له اليد الطولى (النظام السوري) في إحباطهم، وآخر يحاول استغلال إحباطهم ويأسهم لتحقيق بطولاتٍ وهمية!
عام 1989 تم التوصل إلى "اتفاق الطائف" الذي أنهى الحرب وأسّس للسلم الأهلي، انطلاقاً من مفهوم جديد للشراكة و"العيش معاً"، وأعاد تكوين السلطة على قاعدة التوازن بين السلطات، بعيداً عن الديموغرافيا ("أوقفنا العد" على ما كان يردّد رفيق الحريري) وحجم الطوائف التي يكفل الدستور حقوقها ودورها. ولم يعد رئيس الجمهورية مطلق الصلاحيات، بل مؤتمناً على الدستور وضامناً للسلطات، ويضطلع بدور الرمز والحكم بين اللبنانيين. وهذا كان في صالح المسيحيين، وفي أساس الحفاظ على لبنان التعدّدي، ومنطلقاً لإعادة تشكيل الدولة على أسس الشراكة والمساواة، بفعل قوة التوازن، لا توازن القوى!
ولكن تطبيق "الطائف" أوكل إلى نظام الوصاية السورية، طوال خمس عشرة سنة، وتم التعامل مع المسيحيين باعتبارهم مهزومين، ما أدّى إلى تهميشهم طوال تلك الفترة، فتمرّد قسم منهم ممن أحسن قراءة المرحلة، رافعاً شعار استعادة السيادة والاستقلال. وقد تصدّرت هذه المعركة مجدّداً الكنيسة المارونية وبطريركها نصرالله صفير بعد تحرير الجنوب، وأطلق في 20 سبتمبر/ أيلول 2000 نداءه الشهير، مطالباً القوات السورية بالانسحاب من لبنان، وممهّداً لتأسيس "لقاء قرنة شهوان" الذي استعاد زمام المبادرة على الصعيدين المسيحي والوطني، وسعى إلى شبك خيوط العلاقة مع رفيق الحريري، بهدف إعادة القوة إلى التوازن والتواصل مع المسلمين الذين كان يمنعهم النظام السوري من ذلك. وفي 14 فبراير/ شباط 2005 أحدث اغتيال الحريري زلزالاً كبيراً ساهم في إطلاق "انتفاضة الاستقلال" في 14 مارس/ آذار 2005، وأدى عملياً إلى تبنّي المسلمين الشعارات التي رفعها المسيحيون منذ ثلاثة عقود، وتحديداً شعار "لبنان أولاً".
مشاركة المسيحيين الكثيفة والعفوية في انتفاضة 14 آذار، هي التي أعادتهم إلى الخريطة
السياسية وإلى دائرة القرار. وفي كل مرة، كانوا ينكفئون أو يهادنون أو يساوم أحدهم على الثوابت، كما حصل مراراً إبّان زمن الوصاية، كان مصيرهم التهميش، أو الغرق في الإحباط، فمعركة استعادة سيادة الدولة وقرارها الحر لم تنته، على الرغم من انسحاب الجيش السوري، فقد اندفع بعضهم إلى التحالف مع من يقيم دويلة داخل الدولة، أي مع حزب الله، الذي يعمل على استلاب القرار اللبناني، ويمنع قيام الدولة (تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية سنتين ونصف سنة)، ويضع نفسه ولبنان في مواجهة المجتمع الدولي وقرارات الشرعية الدولية التي تدعم الاستقلال الثاني بمجموعة قرارات أصدرها مجلس الأمن، بدءاً بالقرار 1559 مروراً بالقرار 1595 الذي أطلق التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الحريري، ومهّد لقيام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، انتهاءً بالقرار 1701 الذي أعاد سلطة الدولة والجيش اللبناني إلى الجنوب.
وعلى الرغم من تحالف عون مع حزب الله، والحملة التي شنّها على السنّة منذ انتفاضة 14 آذار 2005، لم يتمكّن من تتويج حلمه بالرئاسة، إلا بعد أن تلقى دعم الحريري وتياره (السنّة). فماذا حلّ اليوم بـ "حقوق المسيحيين" التي يدّعي العونيون المطالبة بها، بعد مضيّ ثلاث سنوات على وجود عون في السلطة؟ دولة مسلوبة القرار، مواجهة مع الدروز، وابتزاز للسنّة، ونار تحت الرماد مع قسم من الشيعة، واستياء لدى الأرثوذكس، وخلاف مع معظم العرب. ناهيك عن النزوات الأصولية والظلامية التي بدأت تتنازع بعض المسيحيين وبعض الكنيسة، فهل تُختزل حقوق المسيحيين (ودورهم) بالاستئثار بالسلطة؟ وهل الأهم اليوم هو التنافس على كسب الساحة المسيحية بشعارات طائفية وشعبوية تحرّض على الشريك المسلم؟
عام 1955 كتب ميشال شيحا، واضع الدستور اللبناني، في مقال سلط فيه الضوء على أهمية الشراكة: "ما نراه ضرورة للبنان اليوم إنما هو حيازة معرفة وفهم كافيين لوضعه الجغرافي، ولما يرزح تحته من أثقال، ثم شمول هذين المعرفة والفهم طبيعة الجماعات المختلفة التي يتشكل من شراكتها الشعب اللبناني، فلا يمكن أن توجد نظم وقوانين أساسية أو عادية قابلة للحياة في لبنان، ما لم تضع في حسابها هذه المعطيات الواقعية العميقة". ويضيف: "لبنان بلد لأقليات طائفية متشاركة، فلا إمكان لصموده السياسي مدة طويلة من غير هذا التشارك في مجلس نيابي يكون مكان لقاء وتوحيد الطوائف، فحين نلغي المجلس ونلغي الشراكة، نكون قد نقلنا الجدل حتماً إلى المحراب..."!
الشراكة إذاً وليس الغلبة أو الاستقواء بمحاور خارجية أو السعي إلى إقامة حلف لأقليات
طائفية. عندما كان فؤاد شهاب في سدّة الرئاسة، التقى عام 1958 الرئيس المصري جمال عبد الناصر تحت خيمة على الحدود اللبنانية - السورية، لا في بيروت كي يسجل عدم انحياز لبنان إلى جانب أهم زعيم عربي في تلك الحقبة، فيما أصرّ كمال جنبلاط على القول لعبد الناصر عندما ذهب للترحيب به وبالوحدة مع سورية إن "الوحدة تقف عن حدود لبنان"! ويبدو واضحاً أن هاجس الرجلين، كل من موقعه ودوره، كان التأكيد على سيادة لبنان، وعدم انحيازه، والحفاظ على وحدته، وصون العيش المشترك بين مكوناته.
لا خيار للمسيحيين خارج الدولة. زمن "الطائفة المميزة" ولّى، والهمّ المسيحي لا يمكن أن يكون ذاتياً أو فئوياً. دور المسيحيين ليس في "الالتحاق" بالشيعة أو بالسنّة، وليس في الوقت عينه بالوقوف على الحياد، بل في دور مركزي وجامع لكل اللبنانيين، عبر السعي إلى إعادة بناء الدولة. أدق وأجمل تعبير عن لبنان دولة التعدد والتنوع والعيش المشترك، يختصره عنوان كتاب آخر لكمال الصليبي "بيت بمنازل كثيرة".
وهذا لا يعني أن ليس للمسيحيين خصوصيتهم، وأن للبنان خصوصيته، فقد تميز منذ 1920
وهكذا اعتبر المسيحيون أنهم في أساس فكرة لبنان، وأنهم صنّاعه، عاشوا "عصره الذهبي" الذي دام أكثر من ثلاثين سنة منذ الاستقلال عام 1943 وحتى 1975، وفرضوا هيمنتهم على مفاصل السلطة، مرسخين ما عرف في تلك الحقبة بـ "المارونية السياسية" إلى حين اندلاع الحرب عام 1975، بعد أن صموا آذانهم عن مطالبة المسلمين بالشراكة، ووجهوا سهامهم نحو العامل الخارجي، وتحديداً الفلسطيني، فقضت الحرب على استئثار المسيحيين بالحكم، وعلى الامتيازات التي تمتعوا بها خلال فترة ممارستهم السلطة، وانتهت بإحباط مسيحي، فراح بعضهم يتوسل العلاج عند من كان له اليد الطولى (النظام السوري) في إحباطهم، وآخر يحاول استغلال إحباطهم ويأسهم لتحقيق بطولاتٍ وهمية!
عام 1989 تم التوصل إلى "اتفاق الطائف" الذي أنهى الحرب وأسّس للسلم الأهلي، انطلاقاً من مفهوم جديد للشراكة و"العيش معاً"، وأعاد تكوين السلطة على قاعدة التوازن بين السلطات، بعيداً عن الديموغرافيا ("أوقفنا العد" على ما كان يردّد رفيق الحريري) وحجم الطوائف التي يكفل الدستور حقوقها ودورها. ولم يعد رئيس الجمهورية مطلق الصلاحيات، بل مؤتمناً على الدستور وضامناً للسلطات، ويضطلع بدور الرمز والحكم بين اللبنانيين. وهذا كان في صالح المسيحيين، وفي أساس الحفاظ على لبنان التعدّدي، ومنطلقاً لإعادة تشكيل الدولة على أسس الشراكة والمساواة، بفعل قوة التوازن، لا توازن القوى!
ولكن تطبيق "الطائف" أوكل إلى نظام الوصاية السورية، طوال خمس عشرة سنة، وتم التعامل مع المسيحيين باعتبارهم مهزومين، ما أدّى إلى تهميشهم طوال تلك الفترة، فتمرّد قسم منهم ممن أحسن قراءة المرحلة، رافعاً شعار استعادة السيادة والاستقلال. وقد تصدّرت هذه المعركة مجدّداً الكنيسة المارونية وبطريركها نصرالله صفير بعد تحرير الجنوب، وأطلق في 20 سبتمبر/ أيلول 2000 نداءه الشهير، مطالباً القوات السورية بالانسحاب من لبنان، وممهّداً لتأسيس "لقاء قرنة شهوان" الذي استعاد زمام المبادرة على الصعيدين المسيحي والوطني، وسعى إلى شبك خيوط العلاقة مع رفيق الحريري، بهدف إعادة القوة إلى التوازن والتواصل مع المسلمين الذين كان يمنعهم النظام السوري من ذلك. وفي 14 فبراير/ شباط 2005 أحدث اغتيال الحريري زلزالاً كبيراً ساهم في إطلاق "انتفاضة الاستقلال" في 14 مارس/ آذار 2005، وأدى عملياً إلى تبنّي المسلمين الشعارات التي رفعها المسيحيون منذ ثلاثة عقود، وتحديداً شعار "لبنان أولاً".
مشاركة المسيحيين الكثيفة والعفوية في انتفاضة 14 آذار، هي التي أعادتهم إلى الخريطة
وعلى الرغم من تحالف عون مع حزب الله، والحملة التي شنّها على السنّة منذ انتفاضة 14 آذار 2005، لم يتمكّن من تتويج حلمه بالرئاسة، إلا بعد أن تلقى دعم الحريري وتياره (السنّة). فماذا حلّ اليوم بـ "حقوق المسيحيين" التي يدّعي العونيون المطالبة بها، بعد مضيّ ثلاث سنوات على وجود عون في السلطة؟ دولة مسلوبة القرار، مواجهة مع الدروز، وابتزاز للسنّة، ونار تحت الرماد مع قسم من الشيعة، واستياء لدى الأرثوذكس، وخلاف مع معظم العرب. ناهيك عن النزوات الأصولية والظلامية التي بدأت تتنازع بعض المسيحيين وبعض الكنيسة، فهل تُختزل حقوق المسيحيين (ودورهم) بالاستئثار بالسلطة؟ وهل الأهم اليوم هو التنافس على كسب الساحة المسيحية بشعارات طائفية وشعبوية تحرّض على الشريك المسلم؟
عام 1955 كتب ميشال شيحا، واضع الدستور اللبناني، في مقال سلط فيه الضوء على أهمية الشراكة: "ما نراه ضرورة للبنان اليوم إنما هو حيازة معرفة وفهم كافيين لوضعه الجغرافي، ولما يرزح تحته من أثقال، ثم شمول هذين المعرفة والفهم طبيعة الجماعات المختلفة التي يتشكل من شراكتها الشعب اللبناني، فلا يمكن أن توجد نظم وقوانين أساسية أو عادية قابلة للحياة في لبنان، ما لم تضع في حسابها هذه المعطيات الواقعية العميقة". ويضيف: "لبنان بلد لأقليات طائفية متشاركة، فلا إمكان لصموده السياسي مدة طويلة من غير هذا التشارك في مجلس نيابي يكون مكان لقاء وتوحيد الطوائف، فحين نلغي المجلس ونلغي الشراكة، نكون قد نقلنا الجدل حتماً إلى المحراب..."!
الشراكة إذاً وليس الغلبة أو الاستقواء بمحاور خارجية أو السعي إلى إقامة حلف لأقليات
لا خيار للمسيحيين خارج الدولة. زمن "الطائفة المميزة" ولّى، والهمّ المسيحي لا يمكن أن يكون ذاتياً أو فئوياً. دور المسيحيين ليس في "الالتحاق" بالشيعة أو بالسنّة، وليس في الوقت عينه بالوقوف على الحياد، بل في دور مركزي وجامع لكل اللبنانيين، عبر السعي إلى إعادة بناء الدولة. أدق وأجمل تعبير عن لبنان دولة التعدد والتنوع والعيش المشترك، يختصره عنوان كتاب آخر لكمال الصليبي "بيت بمنازل كثيرة".