افتُتِح قسم "نظرة ما" في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي بالفيلم الروائي "دونباس" (2018) للأوكراني المعروف سيرغي لوزنيتسا، المُشارك في المُسابقة الرسمية الخاصّة بالدورة السابقة للمهرجان نفسه بـ"وديع" (2017)، أو "امرأة رقيقة" بحسب العنوان الفرنسي، من دون الفوز بأية جائزة، وإنْ حصل على إعجاب كثيرين.
يُصوِّر "دونباس" (Donbass)، في ساعتين اثنتين، الحرب في شرق أوكرانيا، وتحديدًا في منطقة "دونباس"، المُتاخمة للحدود مع روسيا، حيث لا نعلم الكثير عما يجري هناك إلا من خلال الأخبار وبعض الأفلام الوثائقية، وهذا ليس كافيًا بالطبع لنقل الصورة كاملة. حاول لوزنيتسا أن ينقل ـ في أكثر من مُستوى، وبطريقة شبه بانورامية ـ ما حصل في الواقع هناك، منذ أعوام قليلة، بين القوات الحكومية الأوكرانية والمليشيات الأوكرانية المدعومة من روسيا، التي تحمل السلاح وتعتمد أساليب إجرامية مختلفة، كي تنفصل عن الدولة الأوكرانية وتُقيم دولة مستقلّة على الأراضي التي استولت عليها، غير عابئة بتمزيق البلد وتشتيت أهله.
صحيح أن الحرب وضعت أوزارها. لكن الهدوء القابل للانفجار في أية لحظة يبقى سيّد الموقف. ورغم أن أحداث الفيلم تعود إلى عامي 2014 و2015، أي فترة المعارك، إلاّ أنّ "دونباس" ليس مشغولاً بالحرب بحدّ ذاتها، بقدر انهماكه في رصد آثارها المُتنوّعة على شرائح مُختلفة من المُواطنين. أحداث الفيلم تتيح لنا أن نلمس كيف أن الحياة دائمًا على حافة الخطر، وأن الموت المجاني قريب في كلّ لحظة. الفساد والإذلال والابتزاز، سمات يومية لمواطني تلك المنطقة المنكوبة، والأوضاع المعيشية لكثيرين منهم في غاية البؤس والانحدار. المَشاهد التي صَوَّرت أفرادًا يعيشون في الملجأ، مع افتقارهم إلى أبسط حقوقهم وحاجاتهم، كالماء والطعام والكهرباء والتدفئة، تُعتَبر الأكثر إثارةً للألم، فهي لا تقلّ مأساوية عن مَشاهد الزيف والاحتيال والفاشية، ومُصادرة مُمتلكات الأفراد، أو ابتزازهم ماديًا.
بثّ الرعب في نفوس السكان أمر لا يغفله أحدٌ، خاصة أن المشهد الافتتاحي يبدأ بإعداد مجموعة "كومبارس" لتأدية مشهد انفجار مزيَّف، وهلع الناس وفرارهم. ومع نهاية الفيلم، يعود المُخرج إلى المشهد نفسه، مُطوِّرًا إياه على نحو دموي، مع تحوّل الـ"كومبارس" إلى قتلى فعليًا. لكن، هل كان قتلهم مُتعمَّدًا؟
التنكيل بالمُعارضين، أو من يُطلَق عليهم صفة الخونة، أي أفراد الجيش أو الموالين لهم، أمور مُسلّم بها. يتجلّى هذا في مشهد طويل يُعذَّب خلاله أحد الجنود على أيدي أفراد المُجتمع أنفسهم، بعد وقوعه أسيرًا لدى القوات الانفصالية.
صحيحٌ أن غالبية القصص ترصد كلّ ما هو سلبي وقاتم ومرير، لكنها لا تخلو من مواقف عديدة، أو جُمل حوارية كثيرة تغلب عليها الطرافة أو السُخرية، وتقترب نبرتها المريرة من السوداوية.
في أفلام سيرغي لوزنيتسا، الوثائقية والروائية، وكلّها إنسانية الطابع وإن غلبتها السياسة، تتعدّد التقنيات الإخراجية وتتنوّع، حتى داخل الفيلم الواحد. هو، بالتأكيد، مُخرج أسلوبي، يسهل لمس أساليبه الإخراجية المُتميّزة في كلّ فيلم. بروز أسلوبيته واحترافيته لا يعني أنه يُولي الاهتمام الأكبر للأسلوب، ولا أنه يتعمَّد جذب الانتباه إلى أساليبه وتقنياته الإخراجية المُتباينة، ولا حتى التعبير عن نفسه ومهارته وتمَكُّنه. على عكس ذلك، فإنّ الأسلوب في أفلامه يهدف دائمًا إلى خدمة المواضيع المطروحة، ويُثريها ويُعَمِّقها ويكسر عنها ملل السرد التقليدي والإغراق في ما هو سياسي، من دون الاستمتاع بما هو فني وجمالي.
في "دونباس"، تبنّى سيرغي لوزنيتسا أكثر من تقنية فنية، بدءًا من البنية غير الخطية، بل الدائرية إلى حد بعيد، بالعودة إلى مشهد البداية ثانيةً في نهاية الفيلم. ونظرًا إلى أنّ دراما الفيلم قائمة على قصص قصيرة مُنفصلة ومُتّصلة في وقتٍ واحد، ومُترابطة موضوعيًا، فإنه اعتمد، في انتقاله من واحدة إلى أخرى، على شخصيات ومواقف وبناء داخلي لكلّ قصة. ثم أنّ كل واحدة من القصص الـ13 تدور في منطقة مُغايرة، وتنقل وجهة نظر مُختلفة، من دون استخدام تقنياتٍ كالإظلام المفاجئ أو التدريجي. ذلك أن بنية الفيلم مرتكزة على تقنية المُونتاج أساسًا، التي وظّفَها المُخرج داخل القصص نفسها، من دون الإفراط في استخدامها. هذه التقنية، موظَّفة أيضًا بطرق مُختلفة. لذا، فإن المُونتاج سلس، وأحيانًا يكون مُفاجئًا أو سريعًا.
لهذا كله، ولمسائل التصوير بالكاميرا المحمولة أو الثابتة، واختيار المواقع الداخلية أو الخارجية، وقوة القصص وتنوعها واختلاف مُستوياتها السردية، خرج الفيلم على نحو مُتميز للغاية، سرديًا وتقنيًا وبصريًا؛ رغم أن سيرغي لوزنيتسا لم يهتم كثيرًا بتعميق الشخصيات، نظرًا إلى طبيعة الفيلم وبنائه شديد الخصوصية. وهذا ليس عيبًا، بقدر ما هو خيار فني. فرؤية المُخرج تبحث عمّا هو مُغاير.
في "دونباس"، ليس هناك بطل أو أبطال، أو شخصيات يتمحور حولها الفيلم، الذي يمتلك مسحة ملحُوظة تقترب به، في غير مكان، من البناء التسجيلي، وأحيانًا الريبورتاج الصحافي.
باختصار، إنه قطعة فنية رائعة ومُمتعة، رغم الصعوبة التي تكتنف الأحداث، نظرًا إلى عدم إلمام المُشاهِد بالخلفيات السياسية والاجتماعية العميقة لما حدث ويحدث في أوكرانيا.