لا بدّ أن يتساءل المشاهد بعد خروجه من "زنزانة" المخرج الإماراتي ماجد الأنصاري عن سبب عدم وضع مكان وزمان محدّدين للفيلم، أهو "جبن" السينما إذ تتصدّى لموضوع بالغ الحساسية في علاقة السلطة، أو رجالها، بالمواطنين البسطاء والمسحوقين، أم أنها الرغبة في تجنّب حساسيات الأنظمة العربية، بتجنّب الحديث عن بلد بذاته، أم لأن العنف والظلم اللذين أظهرهما الفيلم هو نفسه في جميع البلاد العربية، وإن بدرجات متفاوتة؟
تتقدّم عبارة "في مكان ما في العالم العربي" الشريط الروائي الطويل (92 دقيقة)، ثم سرعان ما نجد أنفسنا أمام لهجات مختلفة لممثّلين من فلسطين والإمارات، وتسميات غربية للأماكن التي تجري فيها الأحداث، كما لو أن كلّ تلك العناصر اجتمعت لتُحدث نوعاً من التمويه، والتأكيد بأننا لسنا في بلد بعينه.
تدور أحداث الفيلم في زنزانة داخل مركز توقيف للشرطة. وهناك، نقف أمام ممارسات ضابط شرطة فاسد ومختلّ يتلذّذ بالقتل وبتعذيب ضحاياه، ومواطن بسيط محطّم قادته الأقدار الغريبة ليكون محتجزاً في سجنه، وينفّذ ما يطلبه منه مرغماً.
يظهر الضابط (أداء الممثّل الفلسطيني علي سلمان)، ويشرع في تنفيذ ممارسات بشعة، بدايةً بقتل مدير المركز بطريقة وحشية فيها الكثير من التلذّذ والسادية، لكن من دون أن نعرف السبب، ما يخلق حالة من التشويق والغموض الذي لا تتكشّف خيوطه إلا مع نهاية العمل، حين نكتشف أن الجريمة وقعت في سياق رغبة الشرطي في تهريب أخيه المحكوم عليه بالإعدام.
يضعنا المخرج في ظروف الاضطهاد التي يتعرّض لها المواطن العربي في سجون السلطة وزنازينها. وهو وإن لم يحدّد مكانها وزمانها، فإن المشاهد العربي لن يعجز عن مطابقة أحداثه مع ما يجري مع قصص يكون قد قرأ أو سمع عنها، وربما عاشها.
يستعرض الفيلم كيف يحوّل الضابط الفاسد حياة المواطن الأسير "طلال" (الممثّل الفلسطيني صالح بكري) إلى جحيم، ويدفع به إلى تنفيذ رغباته وأوامره، بدءاً من نقل بصماته على السكين الذي قتل به مدير المركز، وليس انتهاءً بالصمت أمام ممارساته بحق نزلاء المركز. ووسط كل ذلك، نرى محاولات الخلاص اليائسة التي يقوم بها "طلال" للهروب أو إنقاذ نزلاء المركز.
الفيلم، ورغم ما نلمس فيه من بصمات إخراجية، وأداء متقن، لم يسلم من بعض العيوب التقنية أو الهنات الإخراجية؛ منها ظهور بعض الأدوات والأكسسوارات التي لم تكن موجودة في الفترة التي يتناولها، كما أن أداء الطفل (ابن طلال) لم يكن متقناً. لكنها، بالمجمل، لا تنتقص من هذه التجربة التي كانت تمثّل تحدّياً في حدّ ذاتها، لأن خيار أن تدور أحداث فيلم سينمائي خلال أكثر من ساعة ونصف داخل غرفة واحدة ليس أمراً هيناً. هي مغامرةٌ، قد ينتج عنها كثير من الملل، إن لم يكن المخرج متحكّماً في صناعته، ولم يجد بدائل أخرى لانحصار العمل في بضعة أمتار مغلقة.
في النهاية، ينتصر الفيلم للجانب الأضعف، لكنه في سبيل ذلك يتبنّى خيارات راديكالية؛ إذ يدفع بموت البطل "طلال" في سبيل إنقاذ ابنه وطليقته التي يحبها، وكذلك موت الشرطي على يد أخيه الهارب من حكم الإعدام محترقاً. لكن، ورغم قسوة الفيلم، التي يعكسها الموضوع نفسه أو بعض المشاهد العنيفة، إلا أن مسحة كوميدية في شخصية الشرطي الفاسد خفّفت من تلك القسوة.
وأمام حقيقة أن العالم العربي كلّه يبدو كزنزانة كبيرة، يكون خيار المخرج الذي اختار الابتعاد عن تحديد مكان حقيقي لفيلمه فرصة لإثارة نقاش يتجاوز الحدود الجغرافية.
لكن السؤال الأهم: هل هذا الوضع مرتبط بشخوص فاسدين ومختلّين أم أن الأمر في جوهره تعبير عن سياسات لا تحترم الإنسان وتتعامل مع الموطنين بصفتهم أرقاماً يسهل تحطيمها وإخفاؤها وقتلها، تماماً كما فعل الشرطي الذي راكم الجثث في حمّام المركز، وحاول قتل الجميع في سبيل نجاته؟