قبل أيام قليلة، خرجت ابتسام مراعنة منوحين، مخرجة فيلم "سجّل أنا عربي"، عن طورها لا صمتها، وكتبت في صفحتها على الفيسبوك ما يشبه البيان بلغة عربية موتورة وركيكة، كونها اعتادت على التواصل مع جمهورها "الإسرائيلي" بالعبرية، ثم أتبعت ذلك بنشر صورة لها في إستوديو إذاعة الجيش الإسرائيلي "جالي تساهل" للحديث عن الفيلم بلسانٍ "عبري" مبين.
كلام "منوحين" جاء، كما تدّعي، ردّاً على الانتقادات التي تعرّضت لها، فانطلقت لتؤكد أنّ أحداً من مُعارضيها لم يشاهد الفيلم أو حتى يطلب مشاهدته، وإنما اكتفوا بالـ"تريلر" الذي لا تتجاوز مدته دقيقتين ونصف، بينما مدة الفيلم تبلغ نحو 73 دقيقة. وقد عُرض العمل مؤخراً في مهرجان "تل أبيب" أو "دوكو أفيف" للأفلام الوثائقية، موحياً بفكّ اللغز الحقيقي لـ"ريتا"، حبيبة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش التي طالما طُرحت بمعزلٍ عن سياقها الشعري، ومن دون تأكيدات موثّقة حول حقيقة هويتها.
قيل سابقاً إن "ريتا" هي نفسها "تانيا رينهارت"، أستاذة علم اللسانيات ونظرية الأدب في جامعة تل أبيب، التي ولدت في حيفا عام 1943 وتوفيت في نيويورك عام 2007 جرّاء أزمة قلبية، مكرّسةً جزءاً من كتاباتها ونشاطها لفضح سياسات إسرائيل الصهيونية، ومفاوضات عملية السلام التي وصفتها "بمفاوضات المئة عام".
أما "منوحين"، فقد جاءت لتكشف في فيلمها عن "تمار بن عامي"، التي هي حتماً "ريتا" الحقيقية وغير المزيّفة؛ راقصة يهودية من أصل بولندي تعرّف إليها الشاعر يوم قامت بأداء رقصة في مقر الحزب الشيوعي الإسرائيلي وكان عمرها 16 عاماً. لكنّ العلاقة لم تستمر طويلاً بعد التحاق "تمار" بالخدمة العسكرية في سلاح البحرية التابع للجيش الإسرائيلي.
الـ"سيدة من تل أبيب" دافعت أيضاً بصفاقة في هذه "الهُلّيلة" عن تمويل فيلمها من مصادر إسرائيلية: "هل تجنيد أموال إسرائيلية (حيث 20% منها فلسطينية عربية) يعني أن الفيلم صهيوني؟ ولو قمت بتجنيد أموال أمريكية، هل هذا يعني أن فيلمي "طاهر" وفلسطيني بعيونكم؟".
وذهبت "منوحين" إلى إجراء مقارنات فجّة، ضمن إطار قضية التمويل، بين فيلمها وفيلم "الجنة الآن" لهاني أبو أسعد، و"خمس كاميرات محطمة" لعماد برناط، و"عجمي" لإسكندر قبطي، قبل أن تختم كلامها الذي اختلطت فيه "سين" الوعيد بـ"سين" الاستمرار"، ويؤشر إلى حجم ما تعانيه من التباس أو ربما انفصام في مفهوم الهوية، قائلةً:
"سجّل. أنا ابتسام مراعنه متزوجة لبوعز منوحين يهودي وإسرائيلي الجنسية، وأسكن في أرضي وبلدي في مدينة تل أبيب ـ يافا، وأعمل مخرجة سينمائية منذ 10 سنوات، وأوثق تاريخ شعبي الفلسطيني، وسأكمل بتجنيد الأموال الإسرائيلية لأنها أموالي وأموال أهلي وشعبي، وسأبقى أؤمن بالسلام والمحبة بين الشعبين الفلسطيني واليهودي...واللي مش عاجبو يرقّص حواجبو".
بين ظهرانينا مَن يجد متعةً في نبش خصوصيات الراحلين وكشف أسرارهم التي آثروا الاحتفاظ بها في صناديق سوداء حتى آخر شهقة؛ ومُخرجة "سجل أنا عربي" من طينة هؤلاء "النبّاشين". لماذا إذن تبدو هوية "ريتا" الحقيقية مصدر جذبٍ وإثارةٍ إلى هذه الدرجة في ضوء تجربة درويش الشعرية؟ وما الذي ستضيفه الآن إلى إرثه الأدبي والشعري، بل حتى صورته المنطبعة لدى جمهور الشعر؟ ولماذا تريد فئةٌ معيّنة أن تنسب براءة اكتشاف "ريتا" لنفسها عوضَ أن تظلّ "مجازاً" آسراً في غير قصيدة من قصائد درويش؟
مؤخراً، تنامت بشكل ملحوظ لدى بعض الأشخاص ظاهرة التجرّؤ على كشف ما لديه ولدى غيره من أسرار حقيقية أو مدّعاة حول أيقونات رحلت عن عالمنا، مطالباً بتناول أسرارها خارج سياقاتها الوطنية، أي لجهة كونها وثائق تاريخية واجتماعية تضيف إلى أرشيف أصحابها، ومشفوعةً بالاعتقاد أنّ الأيقونات غير منزّهة عن "التعرية" ومن الواجب إتاحة أرشيفها الخاص والحميم للجميع.
وفي ما يخصّ فيلم "سجّل أنا عربي"، ثمة موقفٌ أكثر مغالاة ـ وربما غرابة ـ حياله، يرى في النّبش الحاصل بين حين وآخر في إرث درويش الشخصي مؤشّر كراهية لا محبة، وساتراً يتمّ إطلاق النار من خلفه على الشاعر الراحل نتيجة مواقف سابقة وثارات لا بدّ من تصفيتها.
في أيّ حال، وطالما اعتبرت "مناحين" حياة درويش الشخصية متاحةً للجميع في فيلمها، إلى جانب تعاملها مع مسألة الخصوصية وكأنها "وكالة بدون بوّاب"، ومع الهوية باعتبارها مجرّد بطاقة ممغنطة، فلا ضمانة بعد الآن لعدم اكتشاف "ريتا" ثالثة أو رابعة، وربما خامسة في الأمد القريب، بينما تظلّ قصائد درويش وسط كل ذلك هي التي تشير إليه فحسب.