مع صدور مرسوم ميلانو في شباط/ فبراير 313 ميلادية، الذي أقرّ الحرية الدينية في الإمبراطورية الرومانية واعترف بالمسيحية ليُنهي بذلك الاضطهاد المتواصل ضدَّها، أُفسح المجال فوراً لظهور الكنائس على اختلافها بعدما كانت مخفية عن الأنظار. وفي هذا السياق، قامت الإمبراطورة هيلانة والدة الإمبراطور قسطنطين بزيارة إلى القدس خلال 326 و328 م، للبحث عن إرث المسيحية، واجتهدت في تحديد موقع صلب السيّد المسيح لتُقام هناك كنيسة القبر المقدّس أو كنيسة القيامة، التي تُعتبر أقدس مكان عند المسيحيين، وغيرها من الكنائس والأديرة في القدس، لتجذب منذ ذلك الوقت الحج المسيحي إليها.
وقد قام حينئذ ايسوبيوس القيصري (رحل عام 340 م) بتدوين تفاصيل رحلة الإمبراطورة هيلانة (التي أصبحت قدّيسة بعد وفاتها) إلى فلسطين والقدس، ليبدأ بذلك تراث رحلات الحج التي دوّنها الحجّاج المسيحيّون الذين أصبحوا يأتون من مختلف الأماكن؛ ومن بينها منطقة البلقان التي انتشرت فيها المسيحية الأرثوذكسية (بلغاريا وصربيا والجبل الأسود وغيرها)، وحَرِصَ حُكّامها على بناء الكنائس والأديرة في القدس وتشجيع الحجّ إليها.
في غضون ذلك، كان المسلمون قد فتحوا القدس التي حرص الخليفة عمر بن الخطاب بنفسه على القدوم إليها عام 16 هـ/ 637 م وطمأنة المسيحيّين فيها بما عرف لاحقاً بـ "العهدة العمرية". ومع انتقال عاصمة الدولة الإسلامية إلى دمشق اهتمّ الحكّام الأمويون بالقدس وأنجز فيها عبد الملك بن مروان قبّة الصخرة عام 72هـ/ 691 م، لتجتذب المسلمين إليها بعد أن توقّف الحج من بلاد الشام إلى مكّة المكرّمة بسبب رفض الصحابي عبد الله بن الزبير خلافة الأمويّين، وإعلان نفسه خليفة المسلمين ومبايعة العديد من الولايات له (64 - 73 هـ /683 - 692 م).
ومع أنّ طريق الحج فُتح لاحقاً، إلّا أن كتب الرحلات بدأت تكشف عن ممارسات جديدة بالاستناد إلى الحديث النبوي المشهور "لا تُشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى"؛ فقد أخذ بعض حجّاج المسلمين بتقليد البدء بزيارة القدس أوّلاً والتبرّك بزيارة المسجد الأقصى ثم الذهاب إلى مكّة المكرّمة، بينما أخذ بعض الحجّاج الآخرين بتقليد "تقديس الحج"؛ أي ختم الحج بزيارة القدس والتبرّك بالمسجد الأقصى. ولكن لدينا تقليد آخر كان يقتصر على بلاد الشام على الأقل، ألا وهو الاكتفاء بالحج إلى القدس والطواف حول المسجد الأقصى، كما تشير بعض كتب الرحلات إلى ذلك.
ومن ذلك كتاب "سفر نامه" للرحّالة الفارسي المعروف ناصر خسرو (1004 - 1088م)، الذي جاء إلى القدس في طريقه إلى مكّة المكرّمة عبر طريق طويل استغرق سنة كاملة. وكان خسرو شاعراً ومثقّفاً وإدارياً خدم في عدّة دول (الغزنوية والسلجوقية والفاطمية)، ومرّ بفترة حيرة فكرية دينية إلى أن رأى في نومه من نصحه بالذهاب إلى الحج، فقرّر ترك منصبه والذهاب في الطريق البرّي الطويل الذي أخذه من مرو إلى حرّان، ومع عبوره نهر الفرات ووصوله إلى منبج "أول مدن الشام" دخل حلب ومنها أخذ طريق الساحل إلى فلسطين.
وبحكم ثقافته وخبرته الإدارية، يتمتّع كتاب رحلته "سفر نامه"، الذي ترجمه يحيى الخشاب وصدر في القاهرة عام 1943 أول مرّة، بقيمة تنبع من دقّه الملاحظة والوصف والانفتاح على الآخر، حيث يحرص أيضاً على وصف الكنائس التي تلفت انتباهه، والتأكّد بنفسه ممّا يسمعه، وقيامه بقياس الأبعاد للمنشآت التي يزورها، ويتوقّف عند بعض المساجد التي تتميّز بجمالية معيّنة مثل "مسجد الياسمين" و"جامع البحر" وغيرهما.
اختار ناصر خسرو في حلب أن يأخذ طريق البحر إلى القدس، فتوجّه إلى طرابلس ومنها إلى عكّا. ويلاحَظ هنا أن ناصر خسرو فضّل أن يقوم بجولة في فلسطين قبل أن يزور القدس، فتوجّه إلى "بحر طبرية" الذي يصبّ في "بحر لوط" (البحر الميّت)، وهذا إنما يدل على اتّساع هذه المسطّحات المائية بالنسبة إلى ذلك الوقت. وخلال جولته في طبرية، لفت نظره "مسجد الياسمين" فيها، فزاره ووصفه بالقول: "مسجد جميل في وسطه ساحة كبيرة بها محاريب وحولها الياسمين الذي سُمّي المسجد به"، وهذا إن دلّ على شيء فهو يشير إلى الروح التي لا ترى تعارضاً بين بيت العبادة والجمال، سواء في داخله أو في جواره.
ولدى عودته إلى عكّا، تابع طريقه إلى حيفا ومنها إلى قيسارية القريبة منها. ويتمتّع وصف خسرو لقيسارية بقيمة خاصة نظراً للمصير الذي لحق بالمدينة التي تعود جذورها إلى الكنعانيّين؛ فقد تحوّلت إلى ميناء رئيس لفلسطين حوالي 25-13 قبل الميلاد باسم قيسارية على اسم الإمبراطور يوليوس قيصر، وأصبحت خلال الحكم البيزنطي عاصمة لولاية فلسطين الأولى. ولكن المماليك خرّبوا قيسارية بعد تحريرها من الصليبيّين (كما عملوا ذلك مع عكّا) خشية عودة الصليبيين إليها. فقد حفظ لنا ناصر خسرو صورة المدينة كما كانت عليه خلال زيارته لها في يوم الجمعة 26 شعبان 438 هـ/ 16 آذار1047م: "مدينة جميلة بها ماء جار ونخيل وأشجار النارنج والترنج ولها سور حصين له باب حديدي، وبها عيون جارية. ومسجدها الجامع جميل، ويرى المصلون البحر ويتمتّعون به وهم جلوس في ساحته".
وتجدر الإشارة هنا إلى أن قيسارية بقيت "خربة" حتى سنة 1884؛ حين أرسلت الدولة العثمانية مجموعة من البشناق الذين هاجروا من البوسنة بعد احتلال النمسا لبلادهم في عام 1878، فأسّسوا فيها قرية صغيرة تحوّلت إلى بلدة، حتى 1948 عندما هاجمتها عصابات "البلماخ" الصهيونية وهجّرت البشناق والعرب منها لتتحوّل لاحقاً إلى مقصد سياحي لغناها بالآثار الرومانية والبيزنطية والصليبية، بينما تحوّل جامع البلدة إلى مطعم!
بعد قيسارية، توجّه ناصر خسرو إلى الرملة ومنها إلى القدس ليدخلها في 5 رمضان 438 هـ/ 16 آذار 1047م، أي بعد سنة كاملة من بداية رحلته. وبعد عودته من الحج، عاد ناصر خسرو مرّةً ثانية إلى القدس في 5 محرّم 439 هـ/ 7 تموز 1047م ليستكمل زيارة ما فاته ويقدّم المزيد من المعطيات عن القدس التي لها قيمة خاصة.
ومن هذه المعطيات المهمّة ما ذكره ناصر خسرو عن مكانة القدس المتعاظمة بالنسبة إلى المسلمين والمسيحيّين الذين يأتون للحج إليها. وإذا كان الأمر بالنسبة إلى المسيحيّين معروفاً ومتواصلاً منذ القرن الرابع الميلادي، فإن الجديد الذي يلفت النظر هو مكانتها المتعاظمة بالنسبة إلى المسلمين حتى أن بعض المسلمين من أهل الشام كان يكتفي بالحج إليها عندما لا يستطيع الحج إلى مكّة المكرمة: "وأهل الشام وأطرافها يسمّون بيت المقدس القُدس، ويَذهب إلى القدس في موسم الحج من لا يستطيع الذهاب إلى مكةّ من أهل هذه الولايات، فيتوجّه إلى الموقف ويضحّي ضحيّة العيد كما هي العادة. ويحضر هناك لتأدية السنّة، في بعض السنين، أكثر من عشرين ألف شخص، في أوائل ذي الحجة، ومعهم أبناؤهم".
ومن ناحية أخرى، لا يفوت ناصر خسرو ذكر الحجّاج المسيحيّين الذين يأتون إلى القدس أيضاً. ففي وصفه لكنيسة القيامة يقول: "لها عندهم مكانة عظيمة ويحجّ إليها كل سنة كثير من بلاد الروم... ويزورها ملك الروم متخفّياً حتى لا يعرفه الناس". وفي الحقيقة، فإن ملوك بلاد الروم كانوا يكتبون إلى خلفاء وسلاطين المسلمين عندما كانوا يرغبون بالقدوم إلى القدس للحج، كما يخبرنا ابن فضل الله العمري (توفي 1349م) عن قدوم رسول من ملك الصرب عند السلطان محمد بن قلاوون (توفي 1341م) ليستأذنه في القدوم إلى القدس للحج. ولكن يبدو أن ناصر خسرو ذكر هذه المعلومة ليبرّر ما فعله الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله (996 - 1021م) الذي كان يميل إليه. فقد ذكر خسرو أن الحاكم بأمر الله علم بذلك وأرسل إلى ملك الروم المتخفّي من يعلمه بذلك، ثم "أمر الحاكم هذا بالإغارة على الكنيسة فهدمها وخرّبها وظلّت خربة مدة من الزمان".
وفي هذا السياق، يهتم ناصر خسرو أيضاً ببيت لحم المجاورة للقدس التي يسميها "بيت اللحم"؛ حيث يقول عنها: "يقيم بجانبها مجاورون ويحجّ إليها كثيرون، وهناك يقدّم النصارى القرابين، ويقصدها الحجّاج من بلاد الروم".
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري