ضمن سلسلة "رواق الأدب والكتاب"، صدرت للشاعرة البحرينية حمدة خميس دراسة عنوانها "سلطة البلاغة في الخطاب العربي" (آذار/مارس 2018). ومع أن أصل هذه الدراسة نشر قبل أربع سنوات في دورية "نزوى" العُمانية، تحت عنوان "اللغة في الخطاب العربي: سلطة البلاغة أم سلطة التبليغ؟" إلا أنه لم يفقد جدّته، أو الحاجة إلى المزيد من تطويره والإضافة إليه.
يقع موضوع الدراسة في نطاق ما تسمّى حديثاً دراسات الخطاب بشتى تنوعاته، أو كما يتضح من ظهور علم للبلاغة النقدية، تناول ما يمكن أن نسميه آثار البلاغة والخطاب في توجيه الوعي العام أو تزييفه والتلاعب بالعقول، أي سطوة البلاغة بجانبها السلبي الذي يعني الكلام المخادع بالطبع، ولهذا تتجاوز دراسة البلاغة هنا ما هو لغوي إلى العناية بالثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي.
ولعل كتاب أستاذ الاقتصاد في هارفارد، جون غالبريث، بعنوانه العجيب "اقتصاد الاحتيال البريء" خير ممثل لهذا التجاوز في إظهار كيف تلعب "البلاغة" دوراً مهماً في إضفاء الشرعية على احتيال قائم على تصورات يعمل الاقتصاد الراهن وفقاً لها، مؤسسة على مجموعة خرافات وخدع وأكاذيب.
في هذا الجانب يطلعنا هذا النوع من النقد، سواء كان ثقافياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً، على الخرافات التي يقوم عليها هذا النظام أو ذاك، ويكشف عن طرائق تكوينها، وعن أثر غياب الوعي النقدي في تحويل اللغة من ممارسة للحرية إلى ممارسة للقهر، حين تصبح كما يقول عماد عبد اللطيف إلى أفخاخ لاصطياد حريات الناس في الاعتراض والرفض والتحليل.
حمدة خميس لا تتوسّع إلى هذا المدى، ولكن فضيلة دراستها الموجزة في تحليلها للعبارات المعتادة في الخطابات، سواء كانت استهلالية أو ضمنية، حيث تشير وتلمّح إلى هذه الآثار الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ولا تهملها، وهو ما يمنح دراستها عمقاً، وإن إلى درجة تحتاج إلى ما هو أكثر توسعاً، أي تجاوز التحليل اللغوي إلى التعمق في ما جاء بصيغ تلميحات وإشارات.
تبدأ دراستها عبر التحليل اللغوي، فتستهلّ دراستها بعرض الرأي القائل لدى بعض علماء اللغة بأنها أداة تشكيل للواقع، وتكوّن في الاستخدام شبكة تعبير عن تصوّر خاص للعالم، ونظاماً رمزياً يلزم فرض علاقات اجتماعية، فلا تسهل التواصل وتوفير المتعة واللعب والتفريغ فقط، بل وتؤدّي وظائف أخرى مثل الرقابة والكذب والعنف والاحتقار.. وصولاً إلى القمع.
هذه السطوة هي ما يشغل ذهن الكاتبة وهي تتناول موضوعها منقسماً إلى عدة مراتب؛ تبدأ بمرتبة اللغة في الأدب بوصفها مؤرخاً. وتعني بذلك ما يحدث غالباً "حين تستنبط قوى اجتماعية ذات نزوع مهيمن قواعد وأساليب لغوية تكتسب سلطتها وثباتها من سلطة وموقع تلك القوى"، ثم تقوم هذه القوى بنقلها إلى مراحل تاريخية لاحقة ضمن أنظمة وأساليب معرفية واجتماعية، سعياً إلى ترسيخ قيمها حتى بعد اندثارها الشكلي، وبذلك "تبقى روحها منقولة وحية في تضاعيف اللغة وبناها الأسلوبية".
وعما يحدث في لغتنا العربية المنحدرة من سلالة اللغات الأولى للحضارات القديمة تتساءل: "ألا تبدو وكأن وهجاً من روح تلك العصور قد انسلّ إلى بعض أساليبها، وتضمنت خصائصها الاجتماعية، كحافظ ومبلغ يمثل سطوة البلاغة وأسرارها كما في سطوة التداول وطرائقه؟".
ومن هنا تنتقل إلى مرتبة صيغ البلاغة المستبدة، تلك التي تأبدت في بنى اللغة ودلالاتها التقليدية على رغم محاولات تيار الحداثة تغييرها، وأصبحت جملاً متداولة راسخة أبدية، يستطيع استخدامها خاصة الكتاب وعامتهم، جملاً "ندعوها "استهلالية"، نفتتح بها الحديث أو الخطاب بالفصحى، سواء كان مكتوباً أو شفاهياً". ومع تأبد هذه الصيغ تكشف، كما تقول "عن تعارضها مع ما نسعى إليه، إذا كنا حقاً نسعى إلى إقرار حق الآخر في الاختلاف، والتأكيد على حرية الإنسان وحقه الطبيعي في إبداء رأيه.. واختياراته.. رفضاً أو قبولاً".
هذه الجمل الاستهلالية الشائعة التي يبدأ بها الخطيب أو الكاتب خطابه، مثل "لا ريب أن.." أو "لا جدال في أن.." أو "من المؤكد.." أو "لا يمكن إلا أن يكون.."، تحمل معنى جائراً يسلب حق "الآخر"، المعارض أو المختلف، حقه في الاختلاف مع الخطيب أو الكاتب. وبهذه الصيغ الجاهزة يكون هذان قد أحالا المستمع أو القارئ من دون وعي منه إلى حالتين متلازمتين؛ التصديق التام لما يقولان، والكف عن التفكير في صحته أو عدم صحته، أو نقده وتحليله.
على أن صيغ المرتبة الرابعة التي تحللها، مرتبة الدلالة والإيحاء، هي الأكثر أهمية لأنها تكشف عن ما تسميه "الروح الخفية" التي يتضمنها الخطاب، والساعية إلى مصادرة حق الآخر مسبقاً، ورفض الاختلاف مع الخطاب المطروح، كما تفرض على "الآخر" ضمنياً ونفسياً الأخذ بالخطاب وتمثله، بلا انتقاء أو اختيار أو مجادلة. مثل هذه الصيغ، التي تكثر حتى على ألسنة وأقلام دعاة الحرية والتجديد وحق الآخر، مثل "مما لا يختلف فيه اثنان.." أو "مما لا غبار عليه.." أو "لا محالة.." أو "من المسلّم به.."، هي عبارات دالة على التأكيد والجزم، أما ما توحي به، وهو الأخطر، فهو منع الجدل والنقاش والنقد والتحليل لما قيل أو يقال.
وتلاحظ الكاتبة أمراً بالغ الأهمية؛ أن في هذه الصيغ وأمثالها يكمن مجهولٌ ما، ضمير مستتر تقديره "هم"، و"هم" هذه، كائنات خفية أعطت موافقتها ويقينها لكل ما يقوله الخطيب والكاتب والباحث "وقدمت البراهين والأدلة على استحالة أن تكون الأمور على غير ما يرون"، ولأن الخطاب موجه إلى حشود أو جماهير، فقد تكون هذه الكائنات الخفية هي الحشود أو الجماهير، فتبدو وكأنها أعطت موافقتها مسبقاً.. لهذا لا يحق لها أن تنتقد أو تجادل.
إن هذه الصيغ الاستهلالية، بأساليبها ووظيفتها الاجتماعية، ليست بريئة، يتداولها الناس بحكم العادة، لأن اعتقاداً من هذا النوع سيلغي الترابط بين اللغة والتاريخ والوظيفة الاجتماعية للغة والأسلوب. صحيح أنها تصبح بالتكرار "عادة" أو مجرد شقشقة "ببغائية" لدى بعض الناس، إلا أنها تؤدي في العمق وظيفة اجتماعية؛ ترسخ قيماً وتقاليد دالة على قدرة على الترويض والتدجين، وتفقد الناس في مرتبة من مراتبها الحس التحليلي، وتكبح القدرة على التمحيص والنقد.
يتضاعف هذا الأثر حين تفقد اللغة في مرحلة تاريخية، كالمرحلة التي نعيشها، القدرة على الإنتاج المعرفي، وليس بسبب "جمود الخطاب القياسي العربي" كما تقول الكاتبة في إشارتها إلى فشل "الحداثة في مشروعها الثقافي والإبداعي في كشط الجلد المتيبس عن جلد اللغة العربية ومدها بدفق دم جديد.. الحداثة التي جوبهت بمتاريس السلفية ورماح السخرية واللمز والشبهة". حين لا تعود اللغة أداة إنتاج معرفي لا تتكلس فقط، بل تخرج من التاريخ أيضاً، ولا تنفع معها حداثة وتفجير وتجديد على أي صعيد.