في محاضرة أقيمت نهاية الشهر المنقضي، في بلدية صفاقس، انتقد الأكاديمي التونسي رضا القلال "مشروع صفاقس الجديدة" الذي يجري تنفيذه لـ"تطوير" المدينة التونسية مع تضخّمها السكاني في العقود الاخيرة. القلال ليس استثناء حيث نجد نفس الاستياء عند كثير من المعماريين، وصولاً إلى سكّان المدينة، وإن بدا القلال الأكثر حدّة في انتقاده حيث اعتبر أن هذا المشروع "يجور على المدينة القديمة وتاريخها، ويجافي طابعها إذ لا يحافظ على الروح المعمارية التي عرفتها المدينة منذ عصور وحافظت عليها".
يرى صاحب كتاب "صفاقس.. المدينة البيضاء" (2019)، أن "المعماريين الذين شيدوا مشروع صفاقس الجديدة يفتقدون لما يوحي باحترام هوية المدينة والحفاظ على خصوصيتها التراثية والحضارية".
في حديث إلى "العربي الجديد"، يعلّق الفنان التشكيلي والأكاديمي التونسي خليل قويعة على المشروع، حين يعتبر أن "الموضوع يتجاوز صفاقس ليشمل عديد النّماذج العمرانيّة المستحدثة في العالم العربي، حيث لا يتم الاستناد إلى المرجعيّة المعماريّة الأصيلة ويتم تنصيب عمارات وأبراج عصريّة لا تحتكم إلى أسلوب خصوصي بل تراها تجميعاً لموجات مختلفة لا رابط بينها".
يتساءل قويعة: "مثلاً، لماذا هذا الإصرار على استعمال الواجهات البلّورية الشفيفة والحال أن المناخ المتوسّطي ثريّ بالإضاءة ومعتدل من حيث درجة الحرارة ولا يحتاج إلى الكثير من حرّ الشمس؟". يضيف: "هذا فضلاً عما تحدثه من الاكتظاظ وعدم إيلاء المساحات الخضراء مكانتها في المشهد العمراني، على الأقل لتغذية الهواء بالأوكسجين وتحرير الرّؤية. هكذا راهنت شركة تهيئة صفاقس الجديدة على الرّبح والمردوديّة والاستثمار في الفضاءات المغطاة على حساب متطلّبات الحياة في الكيان الحضري وحاجات الإنسان".
يوضح قويعة أن "مثل هذه المزالق محلّ تفكير نقديّ يشمل عديد النّماذج التحديثيّة في المدن العربيّة، تلك التي لم تضع في الحسبان حاجة الإنسان اليوم إلى ديناميّة عمرانيّة نشيطة تضمن تنشيط الفضاء العمومي الحيّ على نحو طبيعي فورّطت ساكني هذه النماذج المدينيّة في نوع من الاختناق".
كان قويعة قد أشار إلى ذلك في كتاب مشترك مع القلال، صدر في 2017 بعنوان "صفاقس، 12 قرناً من الحضارة". يقول: "كنّا نبحث في شروط تأسيس مدينة متجدّدة غير منبتّة بل تأخذ بعين الاعتبار المكاسب التاريخيّة لهذه المدينة العريقة على المستوى العمراني والتي تتمحور حول منظومة من القيم الفكريّة والهندسيّة الضاربة في القدم، وهي عناصر تميّز مدينة صفاقس عبر التاريخ. فكان يمكن لمهندسي صفاقس الجديدة الاستلهام من التراث حتى يكون هناك انسجام بين مختلف الحقب والملامح الحضاريّة التي مرّت بها المدينة".
وباستثناء بناية "الأروقة" التي اجتهد المهندس أحمد اللّوز في أن تكون امتداداً لسور المدينة العتيقة أواسط ثمانينيات القرن الماضي، لم تشهد صفاقس غير سباق للاعتماد على المعمار الأوروبي. المفارقة أن المهندسين الفرنسيين والإيطاليّين، خلال فترة الكولونيالية، قدّموا تصميمات أخذت بعين الاعتبار خصوصيات المدينة العتيقة الأم وأعادوا تشكيلها ووظفوا مفرداتها وتقنياتها وخاماتها، وهو ما يشير له المصوّر الفوتوغرافي زاهر كمّون.
يقول في حديثه إلى "العربي الجديد": "في زمن الاستعمار، بنت فرنسا مدينة جديدة قرب المدينة العتيقة عُرفت بالمدينة الاستعمارية، وجلبت لها مهندسين معماريين ومختصين لدراسة معمار المدينة العتيقة لبناء المدينة الجديدة بنفس الطراز، ومنذ ذلك اليوم تم استنباط نمط معماري يعرف بالنمط التعريبي فيه كل مقومات المدينة العربية الإسلامية لكن في مدينة استعمارية، حيث جرى استعمال المآذن والقباب والجليز والجبس المنقوش، بمعنى استطاع الفرنسيون فهم المدينة العربية واستنباط مدينة استعمارية بنفس الطراز للمحافظة على شكل المدينة فلا نجد اختلافاً حاداً بين المدينتين".
مقابل ذلك، يعتبر كمّون أن "مشروع صفاقس الجديدة كان كارثة حقيقية، فبعد أن كانت تواجه المدينة العتيقة مساحة واسعة، تم افتتاح مشروع صفاقس الجديدة بعشرات العمارات والمباني متعددة الطوابق فجرى خنق المدينة العتيقة وفقدت رونقها".
مشروع صفاقس الجديدة لم يحترم المقاييس العالمية للمدن الجديدة، وفقاً لكمون، والذي يشير إلى أن "المدينة تستقبل الكثير من الوافدين يومياً ولا توجد فيها محطات للسيارات كافية، كما تمّ التعسف على المناطق الخضراء وكل الشوارع ضيقة لا تليق بمدينة جديدة".
يخلُص كمّون إلى أنه "وبعد حوالي مئة سنة، لا يستطيع المعماري التونسي بناء مدينة صفاقس الجديدة بنفس الطراز، والنتيجة أننا حيال مدينة كل مبنى فيها مختلف عن الآخر، ولا نجد تناغماً في هذه التوليفة". وفي ختام حديثه إلى "العربي الجديد"، يقول: "لقد أصبحت هذه الفوضى تسبّب تلوثاً بصرياً للمار في صفاقس الجديدة".