"طلعت ريحتكم" قلّصت فضاء التأويل

31 اغسطس 2015
+ الخط -
مهما طال الأمد، ومهما بهظت فواتير الدم والأرواح، فإن الاستبداد الذي يعيد إنتاج نفسه، ويجترّ أحشاءه ليقيأها متكئاً على ثقة عصابية بالنفس، وبقوة أركانه وثباتها، فلا بد أن يدرك نفسه، ويعرف أن إرادة الحياة أقوى.
هي معادلة بسيطة، على الطبقة الحاكمة اللبنانية فهمها، معادلة من الدرجة الأولى، بل عملية حسابية بسيطة، لا تعدو ناتج الجمع بين رقمين: 8 آذار+ 14 آذار= 22 أغسطس/آب. هو الجواب الصحيح الدقيق الرائز الوازن، الجواب المدوّي، هو الشعب الذي نفد صبره، والشعوب حكيمةٌ بصبرها أحياناً، لكن حكمتها بإدراكها ذاتها أكبر وأدلّ. حكمة اختمرت، خلال الزمن، بينما المستبد الجالس على عرش الفساد فاحت رائحة فساده. الشعب عندما يدرك نفسه ينتفض ويمسك الزمام، زمام أفكاره ولغته، أولاً، بعد أن كانت سلطة القرار صاحبة الأفكار تصنع مؤسساتها المنتجة لأفكارها. وعلى الشعب أن يتلقى ويؤمن ويمارس ساكتاً خانعاً مستسلماً. لكن الشعب هو الأقوى، هو مالك الحياة والدليل، كم بذل ويبذل حالياً، وعلى مرّ التاريخ من حياته، من أجل استعادة حقوقه المستلبة، وإمساكه قراره وإدارة حياته، الشعب الذي ينفلت من أسر الخطاب الفوقي، الخطاب النخبوي، سياسياً كان أم ثقافياً، يدوّن خطابه ولغته، ويمسك زمام المبادرة في تغيير الواقع. الاستبداد لا يملك حياة كي يدفع منها، هو يستثمر بحياة غيره، بحياة المحكومين.
رفع الشعب اللبناني يافطة كبيرة مدوّية لتجربته مدفوعة الثمن مسبقاً، فحربه الهمجية الرهيبة لم تخمد نيرانها بعد، والدماء التي سفكت بأيدي الإخوة بعضهم ضد بعض بلعبة سلطة قائمة على المحاصصة وتكريس الطائفية، لم تنشف، ولم تخبُ ذاكرتها. يعيد هذا الشعب إلى اللغة وظيفتها، قبل كل شيء، يباشر ثورته بثورة لغويةٍ أرجعت المعاني إلى مفرداتها. "طلعت ريحتكم" عنوان عريض ينتقل بالوعي من عالم المحسوس إلى عالم التجريد، فيفتح مدوّنته الإنسانية، يسجّل فيها بنود معاناته، بينما ذاته المنهكة المنتهكة تتدفق، مثل بركان أوشك أن يحرق وجدانها، إنها خطاب قانوني يحمل في طيّاته وعيد المحاسبة، هي لغة تقوم بفعل الإبلاغ، وهي صانعة للحدث محددة لحيثيات إنتاجه، وهي لغة واضحة المعالم والمرامي، على الرغم مما تتمتّع به من مجاز بليغ.
الدلالة الأولى هي المفتاح والمدخل إلى بوتقة العمل. لا يتعلق الأمر فقط بمشكلة "الزبالة" التي صارت قضية، على الرغم من أهمية هذا الأمر، بل يتعلق بمسيرة من الفساد الحكومي الذي أوصل البلاد إلى ما هي عليه، فغرقت بيروت التي هي أيقونة الثقافة والفكر والاستنارة، غرقت بفضلاتها. ليست رائحة بيروت هي التي فاحت بعفن البقايا، فبيروت تفوح برائحة الحياة، رائحة البحر، بيروت بفضائها الخاص الذي لا تدركه مدينة أخرى. إنها رائحة النظام المترهل العفن النابت مثل الأشنيات والطحالب على جسد الوطن اللبناني.

حملة "طلعت ريحتكم" مدوّنة لا زالت قيد الإعلان والكتابة، من يسمع طلبات المعتصمين يرَى الكارثة تتجلّى بأسطع صورة لها. هي انتفاضة على سلسلة هندسية من المظالم، هي، قبل كل شيء، استعادة المجال المسلوب، المكان المنهوب، الشعب المغيّب عن مكان استرجعه، أخيراً، وهذا أوّلاً، ثم علا صراخه، فضاء ينذر بثورة واعية على النظام القديم بكل أركانه، بدءاً من المحاصصة الطائفية، مروراً بنكران الأحزاب والتحزبات والتحالفات السياسية. الشعب اللبناني ينادي نحن لسنا 8 آذار ولسنا 14 آذار. لنا ساعة صفرنا ولنا بداية تاريخنا، لنا 22 آب منطلقنا نحو أحلامنا وطموحاتنا ومشروعنا فـ"قحّطوا"، كما صرخ أحد المعتصمين، منذراً السياسيين، وفعل "قحّطوا" بصيغة الأمر تحمل مدلولاً كثيف المعنى، فقحَطَ الشيء يعني أزاله بأداة جديرة بنزعه، مهما التصق بالقعر، والـ"القحاطة" هي ما يلتصق بقعر القدر من طبخة جارت عليها النار، ولم تعد صالحة للأكل فتُرمى، لكن القِدْر لا يُرمى، بل "يقحط" من حثالته وسواده، ويُعاد إليه لمعانه ونظافته.
أعادنا الشعب اللبناني إلى البدايات، نحن السوريين الهائمين على وجوهنا وأرواحنا، إلى المشاهد المطبوعة على شبكية العين والقلب، مثل وشم بلون الوجع، نبش أحزاننا، عادت إلى وعينا تلك الصورة التي أبكتنا ببلاغتها وشجنها: هرمنا.. لكن، لسنا نحن الآباء من هرمنا فقط، جيل بكامله هرم من أهوال الحرب ومن الطعنات في صدر أحلامه، ومن انقضاض المسعورين عليه، منهمرين مثل الوابل الحاقد بنيرانه وسمومه.
أملنا في بيروت، أملنا أن تكون البوصلة الضائعة موجودةً بين أيدي هذا الشعب العارف بالحياة، الطامح بوطن معافى ودولة مدنية هي حلم هذه الشعوب. وننتظر بقلوب متلهفة الانتفاضة العراقية الحالية، بعد سقوط نظام ديكتاتوري على يد محتل أجنبي، وبتواطؤ من هللوا للدبابة الأميركية، ودفعوا العراق بأهوائهم الضّالة إلى جحيمه الخاص. الشعب العراقي الذي بدأ يدرك أن الطبقة السياسية التي احتكرت مقادير البلاد ومصيرها في المرحلة الماضية "طلعت ريحتها". وها هي محافظات العراق ومدنه تهبّ في وجه الروائح الفاسدة، من بغداد وحتى تلك التي كانت هادئة، وها هو الخطاب الرسمي لبعض الضالعين في القرار السياسي في العراق، يردد صداه على شاكلة "عيشها غير" في سورية، فيعيد الكرة إلى الملعب الشعبي المتهاوي، ليتحمل الشعب كل أشكال الأزمات، مهما بلغ حجمها، ومهما كان بؤس الحياة التي يعيشها، بدلاً من السعي إلى إيجاد الحلول الجذرية والنهوض بالبلاد، مرة أخرى، فينعم الجميع بخيرات بلادٍ، كان يمكن أن تكون جنة لمواطنيها.
هل تصدق الوعود بالإصلاح؟ هل يمكن لنظام ترسّخ، خلال عقود وأكثر، أن يفرط في مكتسباته التي حصدها من نسغ الشعب وحياته، مستنداً إلى الفساد بأبشع صوره، وإلى دعم خارجي طامع بأوطاننا؟ أم أن الرصاص ينتظر الصدور العارية والأفواه المنادية بالحرية والكرامة، فيغتال اللغة قبل أن تخرج منها؟ اللغة التي تعيد المعاني إلى مفرداتها، وتفضح قبح الخطاب السياسي، وعفن الممارسات السياسية، وسموم الأفكار التي كانت الأنظمة تحقنها في عقول الشعوب وضمائرها؟