تمكّن الكاتب المغربي محمد الأشعري في عمله الروائي الأخير "علبة الأسماء" (المركز الثقافي العربي، 2014) من التغلّب على صعوبة تحويل الجمل الشعرية إلى جمل نثرية في نص سردي طويل وقابل للتفكيك كما الدمية الروسية "بابوشكا"، تتداخل ولا تنفصل.
المحور الذي بنى الأشعري محكياته حوله هو محور تاريخي يتناول مرحلة الأحداث السياسية التي شهدتها المغرب بداية الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات. لكن التاريخ ينصهر في المتخيل، متخيل يقف فيه الراوي على ماضيه ويستفيد بعمق من تجربته السياسية بعد انخراطه في "حزب الاتحاد الاشتراكي" وصولاً إلى منصب وزير الثقافة. ويستفيد أيضاً من تجربته الشعرية في بناء عوالم وقوالب روايته.
"علبة الأسماء"، المؤلفة من 448 صفحة، تروي زمناً أندلسياً مهدّداً بالانقراض، يعيش فيه آخر الموريسكيين في قصبة الرباط (الوداية) المسورة، وآخر سلالتهم العجوز شميرات، التي تحمل إرثهم وتحافظ على ثقافتهم، وتسكن إلى جانب حفيدها عماد في بيتها الأندلسي الذي يصبح فيما بعد مطمعاً لأصحاب الأموال الأجانب.
بيدرو، المغني الأندلسي الذي يصون غرناطة بغنائه المنفرد. ثُريّا، العنقود الأخير من عائلة بركاش الأندلسية التي هجرت حبها كي تتزوج من البريطاني ريتشارد، لتجد نفسها في السجن متهمة بقتل طفلها مصطفى الذي تبع النوارس محلقاً. أما الشاب مالك، فيسجن على خلفية مقال صحافي، ويلتقي هناك بثُريا التي يبدأ بالتواصل معها خلف الأسوار مستخدمين علبة الثقاب.
"الوضعية الكمية" للرواية، كما قال الناقد محمد الهرادي أمس في ندوة نظمتها "مؤسسة محمد شكري" بالتعاون مع"مكتبة فاصلة" في طنجة حول الرواية، هي دلالة على المجهود المكثف الذي استخدمه الراوي في الكتابة، بالتالي "الكلمات العصيرية لا يمكن زحزحتها وإلا اختل بناء المحكيات، ودلالة أيضاً على الاستحقاقية؛ بمعنى أن السارد صاحب رواية متفردة بذاتها، وتكمن خيانتها في التصفح السريع لها، إنها تحتاج قراءة ووقتاً من المحبة".
العمل المتكامل جاء نتيجة أحداث ظلت داخل الكاتب، وانبثقت كعمل "غاضب، جريء، يعبر عن مرحلة قذرة، ولكنه مستحم بذاكرة الموسيقى والغناء الأندلسي والنقش والمعمار الغرناطي عبر لغة شعرية أنيقة، لم يتخلّ فيها الكاتب عن رأفته الشعرية والتزامه الجمالي تجاه النص، ومسؤوليته أيضاً تجاه أناس عاشوا فترات كفاح ونضال ضد الظلم" وفقاً للناقد المغربي حسن نجمي، (قرأ ورقته نيابةً عنه أحمد عبّو، مدير "مكتبة فاصلة") "فالجملة الشعرية المقياس الوحيد للجملة النثرية في النصوص".
الرواية المليئة بالأصوات والأحداث والشخوص، وأنين الزمان الأندلسي مقابل واقع قاسٍ يطلّ فيها السارد من فوق، متملكاً لناصية الحكي، مستفيداً "من مونولجياته الرحبة التي أعطت مساحة كافية لقصص الأشخاص التي خلقت عوالم لا تُحكى تواترياً أو خطياً بل حلزونياً، عالم تتوالد فيه المحكيات وتنقطع لتبدأ من جديد بحثاً عن نهاية، ويتحكّم في هذا المبدأ خاصية التقاطع الذي ينظم الأجزاء ويدل على صفة الشخصيات المهيمنة على الفضاء الذي تتقاطع في مساحات الحكي المشتركة والأحداث ببنيوية متفاعلة وحيوية.
الفضاءان المتقاطعان (الوداية والسجن) تجري بينهما عملية مستمرة تبدأ من أحدهما وتنتهي بآخر، ودلالة ذلك التجاوب السلسل بين النصوص، والوصول إلى نهاية محتومة"، كما يرى الهرادي.
وتنطلق "علبة الأسماء"، وفق الهرادي، من "لغز سردي، مفاتحه العنوان الذي يدل على علبة الثقاب المتنقلة بين سجن الرجال وسجن النساء، تنقل القصص وتتكلم نيابة عن أصحابها وعن شهاداتهم في السجن، قبل أن تتحول تلك الشهادات إلى سرد يتأرجح بين الشعر والنثر، ويعبر عن الحياة مقابل الموت، الرغبة مقابل التحقق. والسر في الإيقاع الموسيقي الداخلي للسرد هو النزعة بتقلد زمن غير تقليدي وغير خطي في مواصلة الأحداث".
مزج الأشعري كل ما يملك من أدوات إبداعية في رواية واحدة، لها تأويلات مباشرة. ففي الفصل الأول "الطفل الذي تبع النوارس"، إشارة إلى طفل ثريا، مصطفى، الذي مات بعد أن حاول الطيران، كان حافزاً حكائياً لإدخال أمه السجن، لتتوالد بعدها مباشرة أحداث الفصل الثاني عن السجن وأغاني ناس الغيوان "الكورال" الحارقة والمنتفضة ضد السلطة حينها.
تؤرّخ الرواية بنبرة شعرية لشريحة من العائلات الموريسكية في الرباط التي كانت مستقلة في تفاعلها جارتها سلا وهو أمر مقصود، يشير إلى سمة شبكة علاقات السلطة وزبائنها في فترة ما سميت بالتقويم الهيكلي في فترة الثمانييات.
هكذا، جسّدت "علبة الأسماء" معاناة الإنسان المغربي، تحديداً بعد أحداث سنة 1984 التي بدأت بمدن الشمال والتي قوبلت بالاعتقالات والتعذيب والقتل والنفي، وأجهضت محاولاته في الحصول على حريته وكيانه السياسي بعد مرحلة التقويم الهيكلي 1985 التي فرضت قطع النفقات وتقليل الأجور، ولكنها سنة نادى فيها خطاب ملكي جمع التبرعات لبناء مسجد الحسن الثاني (أبرز معلمة سياحية في الدار البيضاء)، وقد اختزلها الكاتب في العلبة اللولوبية، روايته، لعب فيها على حبل التوازن بين حياته السياسية وحياته الثقافية.