تتواتر الدراسات في الغرب حول تفسير ظواهر العنف وأسبابها، متفاوتة في طروحاتها بين المباشرة والذهاب نحو اللحظة الراهنة أو الاشتباك معرفياً مع العوامل التاريخية المؤسّسة لها، ومنها كتاب "العنف: تأملات في وجوهه الستة" (2008) للفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك، والذي صدرت ترجمته مؤخّراً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات".
يحاول صاحب "شجاعة اليأس" (2017) في مؤلّفه الذي نقله إلى العربية المترجم السوري فاضل جتكر، الإجابة عن أسئلة، مثل: هل يسبّب تطور الرأسمالية والحضارة ارتفاعاً في وتيرة العنف؟ أم هل يحدّ منه؟ وهل يكمن العنف في فكرة التجاور على بساطتها؟ وهل يقتصر ردّ الفعل تجاه العنف اليوم على التفكّر؟ وذلك عن طريق سبر أغوار الأنظمة التوتاليتارية الدموية التي سادت في القرن الماضي، ومقاربة العنف المسمّى مقدساً، ورسم أجندة جديدة تحدّد السبيل المثلى للتفكير في العنف، والوصول إلى حلول للمشكلات التي يسبّبها، من خلال محاجة ثقافية لأي عنف تنتجه العولمة أو الرأسمالية أو الأصولية أو اللغة.
في المقدمة، التي عنونت بـ"ثوب الطاغية الدامي"، يرى جيجيك أنه إذا كان هناك قاسم مشترك بين الأفكار والتأملات الخاصة بالعنف، فإن مفارقة مشابهة تتطابق مع هذا المفهوم؛ "إذ تبقى في عقولنا، وقبل كل شيء، مؤشرات العنف الصريحة الواضحة متمثلة في أفعال الإجرام والإرهاب والاضطراب الأهلي، والصراع الدولي".
ينقسم الكتاب إلى ستّة فصول؛ الأول "النجدة! ثمَّة عنف!" يبحث في الذاتي والموضوعي في العنف، وفي الجنسانية في العالم اللامتناغم، وفي الشيوعيين الليبراليين، إذ يسأل المؤلّف: "أليس ثمة شيء مثير للريبة في هذا التركيز على العنف الذاتي - ذلك العنف المفَعَّل بعناصر اجتماعية: أفراد أشرار، وأجهزة قمعية مدرّبة، وحشود أعماها التعصُّب؟ أليس في ذلك محاولة يائسة لصرف الأنظار عن بؤرة الشر الحقيقية، من خلال طمس الأشكال الأخرى من العنف، وصولاً إلى المشاركة في ممارستها؟".
في الفصل الثاني، "خفْ جارَك كما تخافُ نفسَك!" يتصدّى المؤلف لسياسة الخوف، ومقولة الجيرة والجار، ولعنف اللغة، ويتناول في الفصل الثالث، "مَدٌّ دَمَوي منفلت"، شريطاً طويلاً من العنف الدموي الذي تتخلّله حالات غريبة من التواصل المجامل والسخط الإرهابي، وآخره العنف الأوروبي ضد اللاجئين، وخصوصاً الأفارقة منهم.
أما الفصل الرابع، "تناقضات العقل المتسامح"، فيدور حول سؤال: ليبرالية أم أصولية؟ قائلاً إن ثمة طاعوناً في هاتين الدارَيْن، كما يسأل: لماذا نحن أكثر حساسية حيال هذا العنف اليوم؟ يجيب: "تحديداً لأن الدول السيادية، في كونٍ عالمي يشرعن نفسه بأخلاق عالمية، ما عادت مستثناة من الأحكام الأخلاقية، بل تُعامل بوصفها كياناً يجب معاقبته على جرائمه، مهما بلغت حدة السجالات الدائرة في شأن هوية من يطبِّق العدالة ومن يُحاكم القاضي".
يقارب الفصل الخامس "التسامح مقولة أيديولوجية" مسألة تثقيف السياسة، فيرد تصوُّر مشكلات كثيرة اليوم أنها مشكلات تعصُّب وعدم تسامح -بدلاً من رؤيتها مشكلات تفاوُت وانعدام مساواة واستغلال وظلم - إلى عملية إضفاء صفة الثقافة على السياسة أو إلباس السياسة ثوباً ثقافياً. وفي الفصل السادس، "العنف السماوي"، يقول المؤلف إن ملكوت العنف السماوي هو ملكوت السيادة الذي لا يكون فيه القتل تعبيراً عن حالة مرضيّة شخصية، ولا عن جريمة، أو قُربانًاً مقدَساً. كما أنه ليس جمالياً، ولا أخلاقياً، أو دينياً. وهو يتقاطع جزئياً مع التحرر الحيوي - السياسي من القرابين البشرية المقدسة. وفي الحالتين، ليس القتل جريمة، وليس المقتولون أضاحي. فأولئك الذين يجهز عليهم العنف السماوي مذنبون. وهذا العنف لا يطهِّر المذنب من ذنبه بل من القانون، لأن القانون محصور في الأحياء: لا يستطيع تجاوز حد الحياة وصولًا إلى المساس بما هو وراء الحياة، بما هو أكثر من الحياة المجردة. وهو تعبير عن دافع محض، عن انعدام الموت، عن فائض الحياة الذي يسدد سهامه إلى الحياة العارية المنظّمة بالقانون.