قِلاعٌ من الورق المقوّى تستقبل الداخلين إلى العرض. قرع أجراس. إنّه خوليو كورتازر، يفتح لنا أبواب عقله على إيقاع موسيقى جاز كلاسيكية. هنا لوحة مفتوحة، هناك قصةٌ مكتوبة لكنها لم تكتمل بعد. وبين اللوحة والقصة، لا يوجد إلّا الشظايا؛ تلك الكتابات الأُخرى على الجدران، على الأوراق البيضاء، في اللاوعي، وفي خبايا الخيال.
ليس من السهل نقل عالم الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتازر (1914 - 1984) إلى المسرح، لكن كُلّاً من الكاتبَين والمسرحيّين الإسبانيين خوسيه سانشيس سينيسترا وكلارا سانشيس يُصرّان على أنّ كورتازر الحقيقي لا يمكن فهم عوالمه السردية حقاً إلا إذا نُقل إلى عالم المسرح. وتحديداً من هذا التحدي، من تحدّي فهم الروائي مسرحيّاً، تنهض مسرحية "كورتازر في خطر"، التي يُقدّمانها حاليّاً على خشبة مسرح "آباديا" بمدريد، وتتواصل حتى غدٍ الخميس.
ليس ثمّة حبكة واضحة في المسرحية، بل حبكات. تماماً مثل كتابات كورتازر كلّها، إذ ينهض العمل استناداً على خمسة نصوص كتبها صاحب رواية "الحجلة"، ودمجها المسرحيان الإسبانيان كي تتحاور بعضها مع بعض، ويصير البطل الوحيد فيها الخيال أو القارئ الخلّاق أو المتفرّج.
هكذا يبدأ كورتازر حكاياته، وستكون القصة الأولى "وداعاً يا روبنسون"، ليبدأ معها المتفرّج برحلة مسرحية تشقّ طريقها عبر عوالم القوى التعبيرية وجاذبية القصص وغموض شخصياتها. من روبنسون كروزو، المنعزل والوحيد، المستوحى من رواية كتبها دانيال ديفو (1660 - 1731)، سننتقل إلى اشتباكات غامضة مع رواية "الحجلة" وطريقة قراءاتها المتعددة هنا سيشعر المتفرّج أنها فعلياً في عقل كورتازر، حيث لا شيء آخر إلّا الفوضى المرتّبة. ثم بعد ذلك سندخل مباشرة في قصة "البيت المأخوذ" ونتعرّف على حكاية الأخوين اللذين سخَّرا حياتيهما من أجل الحفاظ على ذلك المنزل والعناية به لأنّ ذكريات الأُسرة كلّها فيه.
ليس ثمّة حبكة واحدة في العرض بل حبكات، ولا بطل واحد بل أبطال
وما إن يشعر المتفرّج أنّه يمسك بزمام المسرحية، حتّى يدخل في قصة جديدة متشابكة، على غرار لعبة الدُّمى الروسية، فيجد نفسه في حقبة السبعينيات، ومع طائرات مزيّفة، وفي بلدان مزيفة أيضاً. إنها غرافيتي أو ومضات تُحيلنا إلى قصة "غرافيتي".
ضمن هذا العالم المزيف، وتلك الصور والومضات، سيتلقى المتفرّج تعليمات من أجل البكاء، الضحك، الخوف، الرسم، القراءة. إننا في قصة "دليل التعليمات". وفي هذا الدليل ثمّة شيء حقيقي فقط: الدكتاتوريات التي تكشف في نهاية المطاف، بفكاهة عالية، عن شخصيّة الكاتب، وعوالمه السريالية، وعقله، والواقع الذي يعيش فيه أثناء عملية التأليف.
كل شيء في المسرحية يقود نحو الغموض ونحو اللا شيء. إنّها مسرحية عن الاحتفاء بالإبداع والخيال، مسرحية تحتفي بقدرة الإنسان على تحقيق أبعاد جديدة لما هو معروف بالفعل. هذا هو التحدي الذي يواجه المتفرّج، والذي يجب أن يقبل هذا الهروب من الواقعية المسرحية التي أصبحت رائجة للغاية للوصول إلى تجربة الآخر، لأنّ الآخر هنا هو الكاتب، هو كورتازر نفسه، والوصول إليه، هو بشكل من الأشكال، وسيلة لإلقاء الضوء على الذات.