"بدا الطريق أمام دكان السيّد - كعادته - مكتظاً بالسابلة والمركبات ورواد الدكاكين المتراصة على الجانبين إلا أن هامته ازدانت بشفافية مقطرة من جو نوفمبر اللطيف الذي حجبت شمسه وراء سحائب رقاق ناصعة البياض فوق مآذن قلاوون وبرقوق كأنها بحيرات من نور. كل شيء يواصل حياته المعهودة كأن شيئاً لم يحدث، كأن مصر لم تنقلب رأساً على عقب، كأن الرصاص لا يزحف باحثاً عن الصدور والرؤوس.. كأن الدم الزكي لا يخضب الأرض والجدران".
عبر هذا المقطع من رواية "بين القصرين" لنجيب محفوظ، الذي يصف الأحداث المتزامنة مع ثورة 1919، ويتماس تماماً مع ما حدث في "ثورة 25 يناير" (2011)، يمكننا الولوج إلى معرض "قربوش .. أصداء نجيب محفوظ" للفنان الإيطالي المقيم في مصر قارم قارت، والذي يختتم اليوم في "غاليري المشربية" وسط القاهرة.
يختار قارم قارت، واسمه الحقيقي كارمينيه كارتولانو، ثلاثين مقطعاً من الثلاثية: "بين القصرين"، و"قصر الشوق" و"السكرية"، (والتي تسمّى في الغرب بـ"ثلاثية القاهرة") ترسم صوراً حية للقاهرة في النصف الأول من القرن العشرين، هذه الصور التي يراها الفنان الإيطالي ما تزال صالحة للتعبير عن واقع القاهرة المعاصر، مشيراً إلى أنه كلما قرأ الثلاثية، يشعر كأن التاريخ يُعيد نفسه، مثل هذه العبارة التي تقول "الخبر والحرية: هذا شعار الشعب الجديد" من رواية "السكرية".
أكثر ما يميّز المعرض أنه لا يُقدم محاكاة بصرية للروايات الثلاث، بقدر ما يصنع حواراً معها، انطلاقًا من اللحظة الآنية، وليس من الماضي. حوار لا يُقدّم إجابات مطلقة ولا نهائية، وإنما يفتح الباب للجمهور للمشاركة والتفاعل والتساؤل، عن الماضي والحاضر، الهزيمة والبعث الجديد، عن ماهية الحب والفن والحرية.
يقول قارم قارت في حديث إلى "العربي الجديد": "وجدت في الثلاثية كثيراً من الأسئلة التي تشغلني عن مدينة القاهرة وواقعها الاجتماعي والسياسي والثقافي، أشعر أن الروايات الثلاث لا تتحدث عن زمن ماض، بل زمن مستمر، فأنا مقيم في القاهرة منذ عام 1999، ورغم أنني لا أعيش في القاهرة القديمة التي تدور فيها أحداث الرواية إلا أن العلاقات الاجتماعية وطريقة الحياة التي يصفها محفوظ، أجدها مستمرة حتى الآن".
لا تكتفي المقاطع المنتقاة برصد التقاطعات السياسية بين زمنين بل يمتدّ ذلك إلى رصد الذهنيات العامة في مختلف جوانب الحياة، فمثلاً نقرأ في المعرض هذا المقطع من رواية "قصر الشوق": "من يحب منكم امرأة فلا يتزوجها، أجل، لا شيء يقتل الحب كالزواج صدّقيني، إني مجرب، وقد تزوجت مرة أخرى وأعرف مدى صدق ما أقول .. لعلك لم تهتدِ بعد إلى المرأة التي تناسبك .. تناسبني؟ كيف تكون هذه المرأة؟ وبأي حاسة يهتدي إليها؟ وأين تكون هذه المرأة التي لا تمل؟!". وهو ما يشير إلى تحوّلات في تفاعل الفرد مع المجتمع وتقبّله لمسلماته من خلال نموذج العلاقة بين الرجل والمرأة سواء داخل إطار الزواج أو خارجه.
أكثر ما يركّز عليه قارم قارت في معرضه هو "الطربوش" حيث يستخدمه بوصفه مدخلاً لعالم الروايات الثلاث، فقد كان الطربوش رمزاً لصراعات وروئ اجتماعية وثقافية وسياسية مختلفة، منذ ظهوره بعد الحكم العثماني لمصر في القرن السادس عشر، ثم تحوّله إلى قبعة رسمية للرجال في فترة حكم محمد علي وأسرته، وصولاً إلى إلغائه عقب ثورة يوليو 1952، بوصفه رمزاً لعهد الإقطاع والملكية.
أما على المستوى التقني، فيمزج الفنان الإيطالي بين التطريز والكولاج مستخدماً مواد بسيطة من البيئة المحيطة، مما يمنح الطربوش ميلاداً جديداً، ويجعله متعدد الوظائف، فيمكن أن يُستخدم كقبعة جميلة للرجال والنساء، أو قطعة ديكور في المنازل والمحالات التجارية، كما تصنع منه لوحات فنية تعبر عن شخصيات أبطال الروايات الثلاث، وعوالمهم المختلفة.
عن هذه التجربة يقول قارم قارت: "لقد بدأت فكرة المعرض من خلال زياراتي العديدة لمنطقة القاهرة الفاطمية، التي تدور فيها معظم أحداث الروايات الثلاث، وفي إحدى الزيارات اشتريت طربوشاً من المحل الوحيد المتبقي في القاهرة لصناعة الطرابيش، وعندما عدت للبيت، ارتديته على مدار ساعات ومارست به حياتي اليومية".
يضيف: "شعرت أنه ليس رمزاً يعبّر عن الروايات الثلاث وعن تاريخ القاهرة في تلك المرحلة فحسب، ولكنه يصلح أن يكون جزءاً من حياة القاهرة المعاصرة، فهو قبعة جميلة وممتعة، وبدأت أتساءل لماذا لا يعود من جديد كقبعة للرأس، وحاولت أن أقدمه في المعرض بطريقة جديدة وجذابة".
وحول اختيار كلمة "قربوش" وليس "طربوش" لتكون عنواناً للمعرض، يشير إلى أن استبدال حرف "الطاء" بحرف "القاف" وهو الحرف الأول من اسمه المستعار، يعبّر عن روح المعرض القائمة على تقديم قراءة شخصية لثلاثية نجيب محفوظ، وعرض نماذج معاصرة ومتنوعة للطربوش.