يمثّل التأريخ للحضارة القرطاجية إشكالية، باعتبار أن المكتوب منه قديماً وَضعه الرومان كمنتصرين في حروب أفضت إلى تدمير قرطاج وبناء مدينة جديدة (رومانية الملامح) فوقها ما طمس أيضاً جزءاً كبيراً من الأثر الأركيولوجي.
إشكالية أخرى تتعلق بقرطاج، وهي أن البحث في تاريخها لم يبدأ إلا بمجيء الاستعمار الفرنسي في تونس ما منح المؤرخين الفرنسيين احتكار ميدان البحث هذا، إضافة إلى نقل الكثير من القرائن التاريخية إلى متاحفهم وجامعاتهم.
ما الذي تبقّى للباحث الأثري اليوم؟ وخصوصاً كيف يتجاوز الرواية الرومانية حين يتصدّى للتاريخ لقرطاج؟ إنه سؤال يطرحه الأثري التونسي خالد المليتي في كتابه الصادر مؤخراً عن منشورات "بيران" في باريس، حاملاً عنوان "قرطاج: تاريخ مدينة متوسطية" حيث يحاول أن يعيد النظر إليها قبل الحروب التي شهدتها.
يعود المليتي بالخصوص إلى العلاقات الخارجية لقرطاج قبل صعود القوة الرومانية في الضفة الشمالية للمتوسط. هنا يظهر أن قرطاج طرحت نموذجاً لنظام تعايش (قائم على قوى صلبة ناعمة) في فضاء البحر الأبيض المتوسط، يرصد عناصره من خلال متابعته للتنافس السياسي بين الأسر القرطاجية. هذا التنافس يفسّر به هشاشة نموذج التعايش في البحر المتوسط الذي أرادت إرساءه قرطاج، إضافة إلى أسباب خارجية متعلقة بصعود قوى جديدة ستدخل في تنافس لفرض رؤيتها للنظام الذي ينبغي أن يسود في المتوسط.
يصل المليتي في سرده التاريخي إلى الحروب بين روما وقرطاج، والتي عُرفت بالحروب البونية، متابعاً رصد الأحداث من خلال مقاربة جيوسياسية للتاريخ القديم. حروب انتهت بتدمير قرطاج، وهو تدمير يمتد إلى ذكرها في العصور الحديثة حيث يجد الباحث صعوبات جمة في الربط بين حلقات تاريخ قرطاج.