ما معنى أن تبحث الذات، ذات الكتابة، لا هُويّتها فحسب، بل غَيْريّتها عن نفسها؟ كيف يتحول فعل الذات عبر نفي التشخْصُن عنها إلى دمغ الحُجّة على واجبيّة الشعر في عالم لاشعري؟
مثل هذين السؤالين النوعيّين يطرحان نفسهما ابتداءً من أول نصوص المجموعة الشعرية "قلب الثلج" للشاعر نورالدين الزويتني، "لسنا بحاجة إلى/ نوافذ نلقي منها/ بالبحر/ لسنا بحاجة إلى/ سقوف/ إلى جدران" (ص9). يُبطِّن الشاعر كلامه الشبيه بـ"مانيفستو شعريٍّ" معنى التهكُّم البودليري من المرجع الرومانسي، باقتصاد لغويّ يائس من المرجعية التي لن تعوّض شرط الحرية بحالٍ (الجدران، السقوف). ومن ثمّة، فلا ضفاف تُسوّر مغامرة الذات وفعلها الشعري إلا الـ"ضفاف يحرثها الخطر"، وهي الذات المحدثة، لا الكانطية، التي لا يد لأحدٍ عليها، ولا دليل: "لسنا بحاجة إلى/ حكمة، إلى/ أحد/ تكفي نقطة مطر/ في سطر الأفق/ كي تكسر/ جام المعنى وتحيله شظايا" (ص12-13).
يحيلنا الملفوظُ هنا، في هذا النصَّ الافتتاحي، إلى أسلوب الشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه، إذ يقطع مع الكلام الخطابي للشاعر فيما يترك المبادرة للكلمات لتختبر تجلّي ذاتها، موقعها، لهجتها وقدرتها على القول شعريًّا في علاقتها بالآخر الذي يخفف من غلواء ضمير المتكلم ويعمل على إزاحته وتمويهه من جهة، وبين الشاعر الأميركي تشارلز بوكوفسكي في علاقة أسلوب الكتابة الشذري التي يضيع معناها فتظلُّ تبحث عنه -لا نهاية- من تلفُّظ إلى آخر.
وعليه، يكون بوسعنا أن نتبيّن هوية الذات فقط في لاوحدتها، ولاتجانسها، أي في غيريّتها حيث يستحيل الندب إلى عواء كما يرد عند الشاعر الأميركي ألن غينسبرغ، ويستوحيه الزويتني هنا: "آتون هكذا/ في هيأة الشطار/ والهكسوس/ والبدائيين/ كي نعلن القيامة.." (ص14).
يُكثِّف الملفوظ الشعري في النص ومنظوره السوداوي للحياة، ففي إحدى صور النصوص نجد في الخلفية عنوان صندوق الشاعر البريدي الذي يبقى يتلقّى الرسالة نفسها كأمثولة لحياة مكرورة بلا أمل، ومنذورة للسقوط، بِختْمٍ لاشخصي للتكنية عن أثر الشاعر أيًّا كان، وعن كينونته مُمثَّلًا بصورة لـ"ساعي بريد أحدب" و"عريف الخسارات"، وباحثًا في الخراب عن "وريثه الوهمي". فالحياة التي تمتحنها الذات وتواجهها ليست أيّ حياة؛ إنها محشورة في عالم مُهتزّ، يقدم نفسه كلعبة مرايا حيث الشيء لا يشبه نفسه، وحيث الأشياء الواضحة هي الأقل شفافية. ولذلك، يتجرّد الأنا من اسمه وينتحل اسمًا آخر. فينتفي الطابع الشخصي له بعد أن يسكن فيه الآخر وتقيم هويّات متجددة تدافع عن وجوده، آنيّته، ورؤياه العمياء لابتكار عالم بديل ولا مرجعيّ: "من الآن/ سأنتحل اسمًا آخر/ كي لا يعرفني/ جمركي النشيد!/ سأمضغ حين أجوع/ زهور الغضب/ وورق الأوكاليبتوس" (ص25-26).
تبدو ظاهريًّا رغبة الأنا اللاشخصية "أنا الشاعر المعاصر" في مواجهة عبث العالم بلا مهادنة، منذرة بالزلزال، ومقاومة نزعة الشكّ فيه. حيث إن الالتباس الذي يعتري النصوص يشبه ومضات تحجب عنّا غياب المرجع، بين الداخل والخارج، والوهم والحقيقة، بين الحياة والموت، توجهه ذات الكتابة عبر ضميري المخاطب والغائب، كأنّها تقيم بين الهنا والهناك، على نحو يكشف زيف العالم ويُفجّر وضع نسقه القيمي من الداخل من جهة، لنجد أن روحه باتت "قلب الثلج" من جهة أخرى: لذلك مع القلق والرطوبة/ والقصائد/ تتعفّن روحك/ فتنتهي كالشاعر "بو"/ مخمورًا حتى الموت/ في بالوعة شارع عام،/ أونخّاسًا وتاجر سلاح فاشلًا،/ كالشاعر "رامبو"،/ أو منتحرًا بالمرض، أو العشق/ أو الغرق أو الشنق/ كامرئ القيس، ومارلو،/ والحلاج، وشاترتن، وبايرون،/ وسيلفيا بلاث، والسياب.../ أو في أحسن أحوالك/ مستخدمًا في مصلحة للسقي/ ووسيطًا مغمورًا للعملة/ مثل "كفافي"" (ص45-46).
يستعيد الزويتني في ديوانه هذا، حساسية الشاعر الفرنسي بول فاليري فيما انتبه إليه، قبل قرن، وهو يتحدّث عن "أزمة الروح"، عن موت الحضارة والخوف الذي يتربّص بنا في كل لحظة. ففي زمننا أيضًا، غطت اللوحات ذات الحجم الكبير للوحشيّين الجدد على العصر وتأكّلتْ روحه، وبات من واجب الشاعر، أو هاملت المثقف، الجنون بإرادة الكشف على الدوام.
(شاعر مغربي)
مثل هذين السؤالين النوعيّين يطرحان نفسهما ابتداءً من أول نصوص المجموعة الشعرية "قلب الثلج" للشاعر نورالدين الزويتني، "لسنا بحاجة إلى/ نوافذ نلقي منها/ بالبحر/ لسنا بحاجة إلى/ سقوف/ إلى جدران" (ص9). يُبطِّن الشاعر كلامه الشبيه بـ"مانيفستو شعريٍّ" معنى التهكُّم البودليري من المرجع الرومانسي، باقتصاد لغويّ يائس من المرجعية التي لن تعوّض شرط الحرية بحالٍ (الجدران، السقوف). ومن ثمّة، فلا ضفاف تُسوّر مغامرة الذات وفعلها الشعري إلا الـ"ضفاف يحرثها الخطر"، وهي الذات المحدثة، لا الكانطية، التي لا يد لأحدٍ عليها، ولا دليل: "لسنا بحاجة إلى/ حكمة، إلى/ أحد/ تكفي نقطة مطر/ في سطر الأفق/ كي تكسر/ جام المعنى وتحيله شظايا" (ص12-13).
يحيلنا الملفوظُ هنا، في هذا النصَّ الافتتاحي، إلى أسلوب الشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه، إذ يقطع مع الكلام الخطابي للشاعر فيما يترك المبادرة للكلمات لتختبر تجلّي ذاتها، موقعها، لهجتها وقدرتها على القول شعريًّا في علاقتها بالآخر الذي يخفف من غلواء ضمير المتكلم ويعمل على إزاحته وتمويهه من جهة، وبين الشاعر الأميركي تشارلز بوكوفسكي في علاقة أسلوب الكتابة الشذري التي يضيع معناها فتظلُّ تبحث عنه -لا نهاية- من تلفُّظ إلى آخر.
وعليه، يكون بوسعنا أن نتبيّن هوية الذات فقط في لاوحدتها، ولاتجانسها، أي في غيريّتها حيث يستحيل الندب إلى عواء كما يرد عند الشاعر الأميركي ألن غينسبرغ، ويستوحيه الزويتني هنا: "آتون هكذا/ في هيأة الشطار/ والهكسوس/ والبدائيين/ كي نعلن القيامة.." (ص14).
يُكثِّف الملفوظ الشعري في النص ومنظوره السوداوي للحياة، ففي إحدى صور النصوص نجد في الخلفية عنوان صندوق الشاعر البريدي الذي يبقى يتلقّى الرسالة نفسها كأمثولة لحياة مكرورة بلا أمل، ومنذورة للسقوط، بِختْمٍ لاشخصي للتكنية عن أثر الشاعر أيًّا كان، وعن كينونته مُمثَّلًا بصورة لـ"ساعي بريد أحدب" و"عريف الخسارات"، وباحثًا في الخراب عن "وريثه الوهمي". فالحياة التي تمتحنها الذات وتواجهها ليست أيّ حياة؛ إنها محشورة في عالم مُهتزّ، يقدم نفسه كلعبة مرايا حيث الشيء لا يشبه نفسه، وحيث الأشياء الواضحة هي الأقل شفافية. ولذلك، يتجرّد الأنا من اسمه وينتحل اسمًا آخر. فينتفي الطابع الشخصي له بعد أن يسكن فيه الآخر وتقيم هويّات متجددة تدافع عن وجوده، آنيّته، ورؤياه العمياء لابتكار عالم بديل ولا مرجعيّ: "من الآن/ سأنتحل اسمًا آخر/ كي لا يعرفني/ جمركي النشيد!/ سأمضغ حين أجوع/ زهور الغضب/ وورق الأوكاليبتوس" (ص25-26).
تبدو ظاهريًّا رغبة الأنا اللاشخصية "أنا الشاعر المعاصر" في مواجهة عبث العالم بلا مهادنة، منذرة بالزلزال، ومقاومة نزعة الشكّ فيه. حيث إن الالتباس الذي يعتري النصوص يشبه ومضات تحجب عنّا غياب المرجع، بين الداخل والخارج، والوهم والحقيقة، بين الحياة والموت، توجهه ذات الكتابة عبر ضميري المخاطب والغائب، كأنّها تقيم بين الهنا والهناك، على نحو يكشف زيف العالم ويُفجّر وضع نسقه القيمي من الداخل من جهة، لنجد أن روحه باتت "قلب الثلج" من جهة أخرى: لذلك مع القلق والرطوبة/ والقصائد/ تتعفّن روحك/ فتنتهي كالشاعر "بو"/ مخمورًا حتى الموت/ في بالوعة شارع عام،/ أونخّاسًا وتاجر سلاح فاشلًا،/ كالشاعر "رامبو"،/ أو منتحرًا بالمرض، أو العشق/ أو الغرق أو الشنق/ كامرئ القيس، ومارلو،/ والحلاج، وشاترتن، وبايرون،/ وسيلفيا بلاث، والسياب.../ أو في أحسن أحوالك/ مستخدمًا في مصلحة للسقي/ ووسيطًا مغمورًا للعملة/ مثل "كفافي"" (ص45-46).
يستعيد الزويتني في ديوانه هذا، حساسية الشاعر الفرنسي بول فاليري فيما انتبه إليه، قبل قرن، وهو يتحدّث عن "أزمة الروح"، عن موت الحضارة والخوف الذي يتربّص بنا في كل لحظة. ففي زمننا أيضًا، غطت اللوحات ذات الحجم الكبير للوحشيّين الجدد على العصر وتأكّلتْ روحه، وبات من واجب الشاعر، أو هاملت المثقف، الجنون بإرادة الكشف على الدوام.
(شاعر مغربي)