تعرض الصالات الفرنسية، حالياً، "لا نينا دو فويغو" (الفتاة النارية) ثاني الأفلام الروائية الطويلة للمخرج الإسباني كارلوس فيرموت، والذي سبق أن حاز العديد من الجوائز منذ خروجه في إسبانيا، ومنها جائزة "الصدفة الذهبية" لأفضل فيلم في مهرجان "سان سيباستيان الدولي" عام 2014.
من خلال مقاربة لوحة "البازيل" التي يتكرّر ظهورها في الفيلم، يقترح علينا المخرج قراءة عمله. مسارات الشخصيات والأحداث تبدو بلا رابط في البداية، ثم تتقاطع وتجتمع كقطع لوحة "البازيل".
إلا أنه ومع إضافة كل قطعة جديدة، يُعاد تركيب اللوحة بكاملها في مخيلة المشاهد، ويتم اعتماد مقاربة الإشارة والتلميح؛ بحيث تبقى أنظار هذا الأخير مسلّطة على الجانب المخفي من اللوحة، ويجد نفسه مدعواً باستمرار إلى ملء القطع الناقصة.
المسارات الحدثية لا تجري في الحاضر نفسه، كما أنها لا تتوالى بحسب تسلسلها الزمني، بل تقع على عاتق المشاهد مهمّة جمعها وترتيبها في سياق زمني واحد.
في المشهد الأول، نرى طفلة في بداية مراهقتها، تُدعى باربرا، تتلاعب بأستاذها وتُحرجه أمام رفاقها. لاحقاً، نراها وقد صارت امرأة مضطربة تعيش تحت رقابة زوجها الذي هو، في الوقت نفسه، طبيبها النفسي، والذي يعاملها كما لو كانت طفلة، ساعياً بالعقاب والأدوية إلى ترويض طبيعتها الجامحة والمتفلّتة.
في مسار آخر، نرى أستاذ تاريخ مولعاً بطفلته المحتضرة بسبب سرطان الدم، ومستعدّاً لارتكاب أيّ شيء، كي يحقق رغبتها في شراء رداء باهظ الثمن لبطلة "مانغا" يابانية.
في مسار ثالث، نرى عجوزاً يركّب لوحة "بازيل"، ويتبيّن لنا أنه سجين يرغب في البقاء في السجن بعد انتهاء عقوبته خوفاً من الالتقاء بـ باربرا، ويتّضح لاحقاً أنه أستاذها السابق الذي رأيناه في المشهد الأول، والذي دخل السجن بسببها.
يلتقي الأب اليائس بـ باربرا ثملة وفي حالة مزرية بعد أن أوهمها زوجها بأنه هجرها، فتدعوه إلى بيتها وتنام معه، ثم يقوم هذا الأخير بابتزازها، مهدّداً إياها بإطلاع زوجها على ما جرى، إن لم تؤمّن له المبالغ التي يطلبها، كونها تعيش على حساب زوجها ولا تملك حتى حساباً بنكياً خاصاً بها، فتلجأ إلى شياطين ماضيها المظلم في مؤسّسة سرية تؤمّن الخدمات لأثرياء منحرفين ومولعين بالممارسات الجنسية السادية والمفرطة في العنف.
إذا كان الفيلم يحفل بإحالات مباشرة إلى أعمال معلّمي السينما الكورية الجنوبية الصاعدة؛ مثل بارك شان - وُوك وبونغ يونغ ـ هو والكاتب الياباني إيديغاوا رامبو، فهو يبقى عملاً إسبانياً نموذجياً.
الواقع أنه لا يستعير من السينما الآسيوية إلا عناصر لها ما يرادفها في السينما الإسبانية التي تكاد تكون، في معظم نتاجها، أشبه بعمليات تعزيم لطرد شيطان الفاشية والحرب الأهلية من الذاكرة التي لم تُهضم بعد.
يجهل كثيرون أنه، وحتّى اليوم، لم تندمل بعد في إسبانيا جروح الحرب الأهلية والفظائع التي ارتكبها الفاشيون خلالها وبعدها؛ الأمر الذي يعود إلى كون النظام الفاشي لم يُهزم أو يُسقط بثورة شعبية، بل ارتأى القائمون عليه مصلحة في التحول الديمقراطي والاندماج في السوق الأوروبي بعد أن ضمنوا عدم تعرّضهم إلى المحاسبة.
بالتوازي مع هذه المحصّلة، غدت المعالجة الرمزية لذكرى الحرب لازمة وعلامة فارقة للسينما الإسبانية، حتى بعدما كفّت المعالجة المباشرة عن كونها تابوهاً. المفتاح الفعلي لفك شيفرة "لا نينا دو فويغا" قد يكمن، بالضبط، في هذه المقاربة الرمزية و"أفتاراتها" (تجسيداتها) النمطية.
مثلاً، في فيلم "موشّح غنائي حزين" لـ ألكس دو لا لغليسيا، يتمّ تجسيد الأمة الإسبانية في لاعبة سيرك ممزّقة ومتنازعة بين المهرّج السعيد المتنمّر والسادي ("أفاتار" الفاشية)، والمهرّج الحزين ("أفاتار" الشيوعية) الذي يريد إنقاذها، وإن رغماً عنها، من الأوّل. في فيلم "الخبز الأسود" لـ أغوستي فيلّارونجا، نجد ابنة المقاتل الشيوعي اليتيمة التي شوّهتها الحرب والتي ترتبط بعلاقة بيدوفيلية مع أستاذ التاريخ الفاشي في مدرستها.
إن كان لا يُؤتى على ذكر الحرب في "لا نينا دو فويغا"، فشخصية باربرا تنضوي تحت "أفاتار" المرأة النمطية التي تجسّد الأمّة في السينما الإسبانية. الندوب على جسمها وماضيها في المؤسّسة الشيطانية يحيلان إلى تواطؤها الماضي مع الفاشي المغتصب وميولها المازوخية.
أستاذها السابق، الذي دخل السجن لأنه حاول مساعدتها، يحيل إلى الفارس الشيوعي العائد من سجون فرانكو لإنقاذها من الرأسمالية المتوحّشة. كما في رواية "مئة عام من العزلة" لماركيز، يلعب المخرج هنا على العلاقة بين الولع البيدوفيلي والإيديولوجيا الطوباوية.
الزوج الطبيب قد يحيل إلى الاتحاد الأوروبي وسياسة التقشّف التي يفرضها عليها. أستاذ التاريخ إلى البنوك واللوبيات المالية التي تبتزّها لإنعاش نظام اقتصادي محكوم بالهلاك.
اقرأ أيضاً: انتقائية الذاكرة الأوروبية: الغجر بين محرقتين