"منطقة منكوبة"، هكذا وُصف الريف الشرقي لمحافظة درعا بعد أيام من العملية العسكرية الأخيرة التي استهدفت هذه المنطقة السورية وخلّفت دماراً فيها وهجرّت
لم يعرف أهالي الريف الشرقي لمحافظة درعا منذ أيام طعم النوم جرّاء القصف المتواصل الذي يستهدف منطقتهم، وذلك في ظل العملية العسكرية الموسعة التي تشنّها قوات النظام السوري للسيطرة على مناطق المعارضة. بالتزامن، يُسجَّل نزوح جماعي دفع بعشرات آلاف المدنيين إلى البراري، وسط أوضاع إنسانية سيئة يحذّر ناشطون في حال استمرارها من "كارثة" إنسانية.
يخبر أبو جابر المقداد، وهو من سكان ريف درعا الشرقي، أنّه "مذ بدأ القصف قبل نحو أسبوع، لم ننم. وكنّا نقضي معظم الوقت في قبو مبنى يجاور منزلنا مع أبنائي وبناتي وأحفادي. كذلك، كنّا نتقاسم القبو مع عدد من عائلات جيراننا، إلى أن قرّرت مغادرة البلدة قبل ثلاثة أيام. ما كنّا نخزّنه من مواد غذائية كاد أن ينفد، في حين أنّ القصف راح يتزايد يوماً بعد آخر". يضيف لـ"العربي الجديد": "تسللت مع زوجتي إلى منزلنا في بداية الليل، جمعنا بعض الحاجات وما تبقّى من مواد غذائية، واتفقنا مع قريب لي يملك سيارة شحن صغيرة أن نترك البلدة ونتجه إلى الحدود السورية الأردنية. ربّما تكون أكثر أماناً من البلدات. وبالفعل مع بزوغ الشمس، كنّا قد انتهينا من وضع حاجياتنا في السيارة وغادرنا المنطقة بأسرع ما يمكننا وسط أدعية بأن يحمينا الله من الطيران الحربي". ويتابع المقداد أنّ "الطيران إلى جانب قذائف المدفعية والرشاشات الثقيلة كان يستهدف كل ما يتحرك على الأرض، بما في ذلك الدراجات النارية، وأنا كنت أراقب السماء كأنّني سوف أتمكّن من تجنّب قذيفة ما إذا رأيتها تتّجه صوبنا". ويشير إلى أنّ "الطريق كان وعراً بسبب استهدافه بعدد كبير من القذائف طوال الأيام الماضية، وكادت السيارة أن تنقلب بنا".
ويكمل المقداد أنّه "عندما وصلنا إلى الحدود السورية الأردنية، وجدنا أنّ عائلات كثيرة سبقتنا إلى المنطقة ونصبت خيماً واستقرّت فيها وسط غياب الخدمات كلياً". ويلفت إلى أنّ "الخيمة التي نصبناها هي مثل خيم العائلات شوادر وقطع من الخيش والنايلون والبطانيات ترفع على قطع من الخشب وتُشد ببعض الحبال. لكنّها لا تردّ حرارة الشمس الحارقة في المنطقة الصحراوية الجرداء". ويؤكد أنّ "الخدمات لا تتوفّر في المنطقة، الأمر الذي دفع العائلات إلى إنشاء حمامات بدائية من الشوادر للحفاظ على خصوصية النساء، وإلى إحضار المياه عبر صهاريج".
البقاء أو النزوح
من جهته، اختار ياسر العمار وهم من أبناء الريف الشرقي لدرعا، أن يبقى في منزله مع زوجته على الرغم من القصف العنيف على بلدته. يقول لـ"العربي الجديد": "لن أترك منزلي ولو لم يبقَ غيرنا هنا. فقد عشت عمري كله في هذا البيت وسوف أموت فيه"، معرباً عن أمله بألا يدمّر إذ إنّه أمضى عمره وهو يبنيه. يضيف: "كلّي أمل أن أتركه لأبنائي الذين يعيش كل واحد منهم اليوم في دولة وقد حرمتني الحرب منهم". ويؤكد: "أريد أن أموت في بلدتي. إن عاد أبنائي سوف يجدون قبراً لي يزورونه، فأنا أخاف من الموت في البراري من دون أن يدفنني أحد". ويلفت العمار إلى أنّ "ثمّة أشخاصا ما زالوا في البلدة، وإن كانوا بمعظمهم قد أرسلوا النساء والأطفال إلى خارج المنطقة، إمّا عند أقارب في منطقة بعيدة وإمّا إلى الحدود الأردنية حيث الأمان". ويتابع أنّه "في الصباح الباكر أقصد بعض الأشخاص لسؤالهم عن آخر الأخبار، فأنا لا أملك كهرباء. أمّا هاتفي الجوّال فنادراً ما يلتقط إشارة تكون ضعيفة بالعادة. هدفي هو الاطمئنان على الأولاد".
أم محمد شعيب، النازحة من منطقة اللجاة جرّاء العمليات العسكرية الأخيرة، تقول لـ"العربي الجديد": "لا أعلم ما ذنبنا حتى نُقصف. لم يكن في منزلي مقاتلون، لكنّ جزءاً منه دمّر بعد إصابته بقذيفة مدفعية. لذا قررنا الخروج من البلدة، لكنّ أحد أبنائي وزوجي بقيا في المنزل". تضيف: "خرجت مع زوجات أبنائي الثلاثة وبناتي واثنَين من أبنائي وأحفادي، وقصدنا إخوتي في الريف الغربي. لكنّ الاتصالات شبه مقطوعة ولم نطمئن على وضعهم". وتشير أم محمد إلى أنها تقيم اليوم في منزل شقيقها مع عائلة أختها وأقارب زوجة أخيها الذين نزحوا جميعاً من الريف الشرقي. وتوضح أنّ "المنزل صار مكتظاً، والدخول إلى الحمام مداورة، والطعام يقدّم على دفعات. لا أعلم إلى متى يمكن لأخي أن يحتمل هذا العدد، خصوصاً أنّ مدة العمليات العسكرية طالت. وفي حال تقدّم النظام وسيطر على بلداتنا، فهذا يعني أنّنا قد نحرم من منازلنا وأراضينا".
أبو عبد الله العمر، نازح من بلدة بصرى الحرير، يقول لـ"العربي الجديد": "خرجنا من البلدة تحت القصف، بعدما اشتدت حدّته وصار الطيران يستهدف المنازل". ويشرح أنّ "المنازل في ريف درعا منازل عربية لا تتضمّن أقبية ولا ملاجئ، كذلك فإنّ المنازل تتباعد عن بعضها البعض في البلدات عموماً، وهو ما يجعل المدنيين عرضة للإصابة المباشرة. جدران منازلهم لا يمكن أن تحميهم من قذائف المدفعية". يضيف أبو عبد الله أنّه "بالتالي، لا خيار أمام العائلات سوى النزوح من بلداتها، لا سيّما وسط الصمت الدولي".
ويخبر أبو عبد الله أنّه نزح مع إخوته وأبنائهم إلى بلدة قريبة من الحدود السورية الأردنية، وأبلغوا المجلس المحلي بوصولهم إلى البلدة، موضحاً أنّه "يتوجّب على العائلات النازحة تسجيل أسماء أفرادها في المجالس المحلية فور وصولها وتحديد مكان وجودها، بهدف توزيع مساعدات إنسانية عليها. يأتي ذلك في حين تغيب المنظمات الإنسانية الدولية عن المنطقة، ما عدا واحدة لا تستطيع تغطية الاحتياجات". ويتابع أبو عبد الله أنّ "العائلات النازحة خرجت من بلداتها وهي تحمل مواد غذائية قليلة، في حين تركت محاصيلها من دون حصاد. ومن شأن ذلك أن يترك أثراً اقتصادياً سيئاً عليها. فتلك العائلات تعاني بسبب الصراع الدائر منذ نحو سبعة أعوام من تردّي الوضع الاقتصادي والمعيشي، وبالكاد تؤمّن قوت يومها، معتمدة على ما توفّره الأرض وما تبقّى لديها من الماشية". ويؤكد أبو عبد الله أنّ "المجتمع مترابط بعلاقات عشائرية وعائلية ومتكافل ومتضامن، إلا أنّه لا يستطيع تحمّل الأعباء الاقتصادية للنازحين، خصوصاً أنّ الأرقام إلى ازدياد. وما يُقدّر اليوم بعشرات الألاف، فإنّه سوف يكون غداً مئات الآلاف".
دور المتفرّج
ويتّخذ المجتمع الدولي دور المتفرّج، إذ إنّه يكتفي بالإعراب عن قلقه، ومنظمة الأمم المتحدة من ضمنه. فهي عبّرت عن قلقها في بيان، جاء فيه أنّها تشعر بقلق عميق على نحو 750 ألف شخص، في جنوبي غرب سورية حيث تسبب هجوم عسكري في نزوح أشخاص بمحافظة درعا صوب الحدود الأردنية. أضافت: "اليوم تتواتر التقارير عن استمرار القتال والقصف في كثير من البلدات على الطرفَين الشرقي والغربي لمحافظة درعا".
من جهته، لفت "المرصد السوري لحقوق الإنسان" المعارض إلى نزوح نحو 12 ألفاً و500 شخص من قرى وبلدات ناحتة وبصر الحرير والمليحة الشرقية والمليحة الغربية والحراك ومسيكة وعاسم والشومرة والشياح والبستان في القطاع الشرقي من ريف درعا، وسط مخاوف من تصاعد حركة النزوح نتيجة العمليات العسكرية في شرقي درعا.
في السياق، يقول نائب رئيس مجلس محافظة درعا، عماد البطين، لـ"العربي الجديد" إنّ "عدد سكان المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة في درعا يقدّر بنحو مليون و100 ألف شخص. وقد بلغ عدد النازحين منذ بداية الأسبوع الماضي أكثر من 80 ألف نازح، في وقت تحاول المجالس المحلية تقديم المساعدة للنازحين عبر تأمين مأوى لهم إن لجؤوا إلى البلدات والمدن، بالإضافة إلى المساعدات الغذائية، بحسب الإمكانيات المتوفرة. كذلك، تعمل كل النقاط الطبية والمستشفيات بكامل طاقتها".
ويحذر ناشطون من كارثة إنسانية في حال استمرّ استهداف المناطق السكنية بشتى أنواع الأسلحة، ويدفعون الأهالي إلى النزوح منها في ظل الأوضاع الإنسانية صعبة. إلى ذلك، تمتنع الدول المجاورة عن استقبال المهجّرين الهاربين من القصف، في حين لا تضطلع المنظمات الإنسانية بدورها. يأتي ذلك وسط صمت دولي مستهجن، في حين يواجه هؤلاء السوريون مصيرهم، إمّا الموت من جرّاء القصف وإمّا اللجوء إلى البراري مع ما يعني ذلك من معاناة.