"من سطوح القاهرة" فيلم وثائقي عُرض أخيراً على قناة "آر تي" الألمانية الفرنسية. فيلم يطلّ من سطوح الأبنية الشاهقة في القاهرة ليعرّي حقيقة هذه المدينة، ومعاناتها، وفساد مسؤوليها. فتطلّ الكاميرا من فوق لتكشف قاع المدينة، وفي شكل مقلوب وغير مألوف، تصوّر حياة المُعدَمين والفقراء الذين يسعون إلى تأمين قوت يومهم، ويشغلون أعلى مكان من المدينة، في مرتفع بعيد عن كلّ ما يجري أسفلها.
من الأعلى إلى الأسفل تكمن حكاية القاهرة. إذ تدور أحداث الفيلم فوق أحد أسطح البنايات، التي يقطنها وافدون من الريف المصري، لم يجدوا في المدينة متّسعاً، فاتخذوا من السطح مكاناً للإقامة يتمنّون أن يكون دائماً. فهم لا يدفعون إلا القليل من البقشيش لقاء سكنهم المتواضع هذا. ولكلّ منهم حكاية وحلم، لكن ما يجمعهم هو البقاء على السطح.
القاهرة حلم كل صعيدي
البوّاب سلمان يمسك بيده خيوط الحكايات كلّها، ليبني سطحاً متألقاً. يكون هو عمدة السطح ومختار البسطاء. يمرّ على الساكنين، يسألهم عن حاجاتهم وشكاويهم، ثم يهبط أسفل البناية إلى غرفته الصغيرة، ليراقب الداخل والخارج، ويتحمّل مرارة الشتيمة والإهانة، كما يقول. وإذا وقعت في العمارة أيّة مشكلة من أيّ نوع قد يضطرّ إلى النوم، محبوساً، في قسم الشرطة ليلة أو ليلتين. فكلّ مشكلة أو مصيبة أو سرقة متعلّقة بشكل أو بآخر بمدى حضوره أو غيابه، ومدى مراقبته وحرصه أو تسيّبه.
في الوقت ذاته تنتاب سلمان بين الحين والآخر مشاعر عامرة بالفخر. فهذه العمارة، على كبرها، تُعتَبَر مسؤوليته الشخصية. وشعوره بالمسؤولية يشحذ همّته ويداوي الألم، ويعينه على إتمام مهمّاته. فهو يصعد بين الحين والآخر إلى سطح العمارة ليشمّ الهواء النقي، وينظر إلى الأسفل ليحكي كم كانت القاهرة حلماً يأسره. تلك القاهرة التي لا يطالها إلا بالبصر، وهي لم تكن حلمه وحده، بل حلم جميع أهل الصعيد. ففي السابق عندما كان أحدهم يزور القاهرة، ويعود، ينتظره الناس عند محطة القطار، يستقبلونه كأنّه عائد من رحلة الحجّ.
المرأة المصرية الرائعة
يرسم الفيلم أيضاً صورة رائعة للمرأة المصرية الصبورة التي لا تعجز عن تدبير شؤون الحياة، على ثقلها. هي رباب الآتية من الصعيد أيضاً، تتحدّث إلى الكاميرا بوجه مليء بالثقة واللطف القروي المحبّب. تنتقل من السطح لتغزو سوق الخضر في المدينة، تسأل عن الأسعار، وتُكاسِر هذا البائع وذاك، تؤمّن حاجاتها وحاجات جيرانها بأقلّ سعر ممكن، ولا تفارق وجهها الابستامة. تقول: أضيّع كثيراً من الوقت عندما أنزل لشراء الحاجيات، ربما لأهرب ولو لوقت من حياة السطح. هكذا ترسم بشخصها الودود القويّ صورة شاملة للمرأة المصرية. تطبخ وتتحرّك وتتحدّث وتضحك وتحزن، تعيش أحوالها كلّها بالصدق كلّه وبالأمانة أمام كاميرا توثيقية، لا تفارقها. قدرة ربّما يتمتع بها فقط هؤلاء الآتون من الأرياف، تتلخّص بالتلقائية والبساطة، في كلّ فعل.
ولنساء السطح حياة وأحلام وإرادة قد تفوق إرادة رجال السطح، فهنّ يجتمعن (جمعة صنايعية) لينجزن أحذية خفيفة، تباع بأسعار زهيدة، تعينهم وتعين أسرهم. عالم النساء فوق السطح غنيّ بالنماذج التي لا تُقهر. إحدى الطالبات الجامعيات مثلاً تحضّر نفسها للتخرج من كلية الأدب الإنجليزي، تتحدّث بالإنجليزية، وتصف كم هو صعب الحصول على وظيفة في مصر، من دون واسطة أو الكثير من المال. لأنّه وبعيداً عن الكفاءات يُدار عالم الأعمال في مصر. لكن رغم هذا الواقع تعزم على العمل بعد التخرّج. أخرى تحلم بأن تعمل في ورشة لتغيّر مجرى حياتها فوق السطح، وتتمكّن من العيش حرّة، إذ لا تريد أن تعيش بقية عمرها أسيرة السطح. فهي تعلم وتقول: إنّ أحلامها أكبر من سطح في القاهرة. ورباب تأكلها المخاوف من الطرد. تخشى هذا اليوم الذي ستصبح مع جارتها، والذين هم بمثابة أهلها، خارج هذا المكان المألوف، وتفقد التعاضد العاطفي والمادي الذي يجمعهم. ثم تتوقّف عن السرد لحظات لتعود إلى معاناتها الشخصية، لتصرّح، لم أتزوّج عن حبّ، لكن قلت لابنتي الصغيرة أن تزوّجي بمن ترغبين. فالحرية تنمو هناك، والنساء ترعاها.
قطط السطوح
وللسطح معاناة فصلية لا تنتهي. ففي الشتاء برد قارس، وسطوح منازل هشّة، يتسرّب من شقوقها المطر، وفي الصيف حرّ لا يُطاق، وفي داخل العمارة يعيش الناس حياة أخرى. يقدّم الفيلم بسرعة نموذجاً منها، داخل بيت محامية تفتح نصف الباب لأخذ رسالة من البوّاب سلمان، ثم تدخل لتدخل الكاميرا وراءها، فتصوّر لنا عالماً آخر تلخّصه تلك الشقة الواسعة، الكاملة الرفاهية. حتّى القطة التي تمتلكها السيدة تطل للحظة أمام الكاميرا لتبدو من سلالة قططية نادرة، مكتنزة وبطيئة الحركة، كقطط الأغنياء، المختلفة عن جموع القطط التي تغزو السطح، الضعيفة الودودة التي تقاسم الناس طعامهم القليل وفراشهم وحزن أيامهم. يُختَتم الفيلم بحفل رائع يجمع النساء والرجال على السطح، يغنون ويرقصون ويتشاركون لحظات سعيدة ومعدودة.