مع صعود أطروحات فكرية كثيرة، منذ عقود، نقدت الصور الجاهزة التي وضعها المركز الأوروبي حول بقية حضارات العالم، كأعمال إدوارد سعيد أو تزيفتان تودوروف، قد نعتقد أنه قد تمّ تجاوز هذا النوع من العلاقة الفوقية بالآخر، غير أن ذلك سرعان ما يصطدم بحقيقة مفادها أن الغرب لا يزال يشتغل، في جزء كبير منه، بنفس المقاربة أو يكاد.
ربما نشعر بشيء من ذلك ونحن نتابع فعاليات نظمها "معهد العالم العربي" في باريس، من 11 إلى 14 من الشهر الجاري، ضمن برنامجه الدوري "مواعيد التاريخ"، إذ خصّص هذه الأيام الأربعة لثيمة "الجسد"، وانتظم خلالها عدد من النقاشات والورشات حول مسائل تتعلّق باستعمالات الجسد وتمثلاته في العالم العربي، في مجالات عدة، مثل الفكر والفن التشكيلي والأدب وممارسات الحياة اليومية، وهي مقاربات نكاد نجدها في كل مرة يطرح فيها موضوع الجسد في الفضاءين العربي والإسلامي. من بين من شارك في هذه الفعاليات، الباحث الأنثروبولوجي رشيد مندجالي، والمؤرخة صبرينا مرفين، والكاتبة هالة الوردي.
اختيار الموضوع يبدو في حدّ ذاته إشكالياً، على خلفية أنه يمسّ أكثر من نقطة سجالية، لعلّ أبرزها أن الجسد في الشرق قد وصل إلى الغرب عبر مخيّلة الفنانين والرحّالة بالخصوص، وهو ما أنتج صورة يظهر فيها الجسد الأنثوي عنصراً أساسياً، وكان هذا الجسد يقارب غالباً من زاوية متلصّصة ما ساهم في تطوير نظرة غربية محكومة بالشهوانية حول الشرق كانت رافداً من روافد التسويق الداخلي للاستعمار. ومن جانب آخر، يتقاطع الموضوع مع مقولات شبه قاطعة حول كبت الجسد في العالم العربي اليوم، وكثيراً ما تقدّم هكذا قراءات لبناء دعوة ضمنية بضرورة تحريره بمعايير الحداثة الغربية.
هذا وقد نظّم "المعهد"، بالتوازي مع اللقاءات الفكرية، معرضاً انتقى فيه عدداً من الأعمال الصادرة باللغة الفرنسية (قرابة المئتين)، من مجلات وكتب تنقسم بين دراسات وأعمال أدبية تقاطعت بشكل أو بآخر مع ثيمة الجسد في المجال العربي. وتكفي نظرة عابرة على العناوين لنلمس الطرح الذي يقدّمه المعرض، ومن ورائه الثقافة الفرنسية بشكل عام، فمن بين أبرز العناوين التي تصادفنا: "جنس وأكاذيب" لـ ليلى سليماني، و"في انتظار الجنة" لـ إميلي مريم شلي، و"الجنس، العرق والمستعمرات" لـ باسكال بلانشار وكريستيل تارو، و"جسد أمّي" لـ فوزية الزواري. يُضاف إلى ذلك عدد من أعمال التاريخ العامة مثل "تاريخ سورية: من 1918 إلى أيامنا" لـ إكزافييه بارون، و"الخلافة: تاريخ سياسي للإسلام" لـ نبيل مولين، و"أطلس لبنان" (عمل جماعي). عناوين نتساءل حيال كثير منها، أي تقاطع بينها وبين موضوع التظاهرة؟
ويطالعنا عدد خاص من المجلة التاريخية "إيستوريا" حمل على غلافه عنوان "الجسد في الإسلام: من النبي محمد إلى الربيع العربي"، وفي غلاف مجلة "قنطرة" نجد موضوعاً رئيسياً حول "المحرمات الغذائية". عبر هذه المجلات وعناوينها، ربما نتعرّف على الزوايا التي يجري اختيارها لمقاربة الإسلام في وسائل الإعلام.
لكن بشكل عام، فإن مجموعة العناوين المعروضة تمثّل نافذة يقترحها "معهد العالم العربي" لزائر فرنسي (على الأرجح) كي يرى من خلالها واقع الجسد في الفضاء الشرقي. فهل يمكنه بهكذا عناوين ألا يعيد قراءته من زاوية استشراقية؟
تقدّم السجالات حول الجسد في العالم العربي في الوقت الذي يبدو فيه الجسد موضوعاً مطروحاً للنقاش الهادئ والرصين في الغرب، أو موضوعاً متجاوزاً في كثير من الأحيان. لكن نفس الموضوع حين يُنقل إلى الفضاء العربي تُستحضر معه بشكل جاهز إشكاليات وتناقضات، بعضها محض تهيؤات ثقافية مترسّبة، وكأن الجسد العربي محكوم عليه بأن يكون مأزوماً أو ينظر إليه كمادة غرائبية تثير شهوة الغرب.