وتضمنت المطبوعة مفارقة ساخرة عن تحوّل صورة الجامعة في السينما المصرية. فبعدما برزت الجامعة المصرية- إبان عصور ما بعد الاستعمار ونشوء الدولة القومية- كساحة للممارسة السياسية والانفتاح على الأفكار الجديدة، إذ بها بعد هزيمة يونيو/ حزيران 67 تُقدّم على أنها حيز للرومانسية وانطلاق فتوّة الشباب، على خلاف الغليان الذي كان يفور وقتها بين طلبتها لمطالبة النظام المصري بالحرب واستعادة الأرض.
على خطى الصورة السينمائية السابقة، يفصّل العدد علاقة الجامعة بالمدينة ومساحات التأثير والتأثّر بينهما في الزمان والمكان.
ورغم كثرة المشاركات في العدد وتنوعها لجهة زاوية النظر والتناول، فإنه من الممكن جمع الموضوعات في خيط ناظم يربطها تحت بعض العناوين العامة، كإصلاح التعليم العالي في مصر، والعلاقة الإشكالية بالسلطة، والعلاقة بين الجامعات والأحياء التي تحتضنها، والتعليم المعماري وتعليم الفنون الجميلة، والتعليم الجامعي الموازي في مصر، وأخيراً سيرة ذاتية عن الجامعة وأساتذتها.
المطبوعة تتيح لطلبة جامعيين كتابة مقالاتهم بجوار مقالات أساتذة متخصّصين، وقد بات من النادر أن تتاح الفرصة لهؤلاء الطلبة لإبداء رأي مخالف لأساتذتهم داخل قاعات الدرس.
في مقاله "الجامعة والمدينة" يشير مهاب عصام، طالب الهندسة المعمارية، لشيء من هذه العلاقة الدونية بين الطالب والأستاذ، حيث يدرك الطلبة عدم جدوى الابتكار والتفكير الإبداعي في بيئة فقيرة جمالياً، ويضيف أن "المجتمع المعماري في مصر تحوّل دوره لمجرد ردة فعل أو انعكاس لاحتياجات المجتمع الاستهلاكية" وبالتالي "تضاءلت الحاجة إلى المصمّمين بصورة كبيرة وازدادت الحاجة إلى منفّذين".
ما يقرره عصام كتعظيم لمبادئ السوق يضيف إليه أستاذ العمارة عمرو عبد القوي، في مقاله "حوار المدينة مع الجامعة والعكس"، إذ يلاحظ تعظيماً لقيم السطحية والتباهي الفارغ وما يسميه ببراعة "البهتان العمراني" في أحياء القاهرة الجديدة. ويربط عبد القوي بين المدن الجديدة المسوّرة بأسمائها الأجنبية، وأقسام العمارة في الجامعات الخاصة المنتسبة لمنظومات تعليم أجنبية هي الأخرى، حيث الاكتفاء بالإعلان عن الاختلاف لناحية المكان الجغرافي، أو غياب المضمون لجهة التميّز التعليمي.
لكنه يجيب على سؤال اختلاف مخرجات أقسام الهندسة المعمارية بأنه "لا يمكن تصنيفه كتباين جوهري إلا إذا انعكس في تباين فكري" وهو ما ينفيه نظرًا لسيادة نفس اللغة المعمارية الباهتة "التي تظهر في الإسكان الاقتصادي والمتوسط والمرتفع، كانت في شكل تجمع سكني أو فيلا خاصة".
في مقالها "الجامعة الأميركية في المخيلة الثقافية العربية" تتتبّع الأكاديمية سامية محرز، صورة الجامعة في الفضاء العام لمدينة القاهرة خلال هذه السنين. من خلال تقديم قراءتها لعدد من الكتب والأفلام المتنوعة تخلص لنتيجة مفادها رسوخ قَدم الجامعة وطلّابها كصنّاع للخيال والتاريخ الوطنييْن".
تدعم محرز رؤيتها لهذا التحول الإيجابي بلحظة خروج بعض طلاب الجامعة من مقرها القديم المتاخم لميدان التحرير متظاهرين ضد العدوان الأميركي على العراق العام 2003 في الميدان نفسه، قبل أن يلحق بهم طلاب جامعة القاهرة وبعض الأهالي والمواطنين. تؤكد بيقين لا يقبل شكًّا "هي اللحظة التي غيّرت تماماً وإلى الأبد صورة طالب الجامعة الأميركية في المخيلة المصرية".
لكن يبدو أن طالب "الأميركية" نفسه يقدّم نفسه الآن بصورة مغايرة لصورة البطولة السابقة، وعلى النقيض من لحظة "محرز" شديدة اليقينية. هذا ما نلمسه بوضوح في مقال "حارة الجامعة الأميركية: تصوّرات سياحية داخل أسوار الجامعة" للباحثة نهال نور، إذ نظم نادي المسرح والفيلم يوماً سمّوه "الحارة في الجامعة الأميركية"، وقام منتسبو النادي ببناء ما اعتبروه حارة مصرية كلاسيكية، مستعينين في ذلك بأداء أدوار الحرفيين ولبس الطرابيش التركية والجلابيب، كما قاموا بمحاكاة فرح شعبي بكل طقوسه.
ما تكتبه نور يكشف ربما عن مأساة انتقال الجامعة من مبناها القديم بجيرته النابضة والحية المتمثّلة في قلب العاصمة، إلى مقرها الجديد في "القاهرة الجديدة" حيث الموات الاجتماعي والسياسي لجيرة "الكومباوند"، الأمر الذي ساهم في تكوين حالة قطيعة مع المجتمع الأكبر وأنتج صورة استشراقية عن الذات.
يمكن الإشارة أيضاً إلى عدد من المقالات الهامة حول علاقة الجامعات بالأحياء التي نشأت فيها، فحيّ "بين السرايات" المتاخم لجامعة القاهرة- كما في مقال "بينيات بين السرايات" لـ آية نصار وأحمد برهام- يعتبر فضاءً تعليمياً موازياً للجامعة نفسها، حيث بيع الملازم المختصرة للمناهج التعليمية تجارة رائجة في الحي العتيق، إضافة إلى تصوير المستندات وطباعة اللوحات.
وجامعة الأزهر اقترن تدشينها كجامعة حديثة في أوائل الستيينات، كما في مقال "العمامة والقبعة في طريق الأوتوستراد"، بمبانيها الجديدة في حي "مدينة نصر" الذي كان مخططاً له من البداية أن يكون عاصمة حكم "جمال عبد الناصر" الجديدة، لكن المشروع باء بالفشل، ومعه للمفارقة تأرجحت جامعة الأزهر على حبل التحديث، فلا هي أصبحت حديثة بالكلية ولا هي بقت في إطارها ومكانها القديم كجامعة للعلوم الشرعية.
اقرأ أيضاً: منحوتات سيئة السمعة