15 مايو 2024
"وعّاظ السلاطين" والنخب العراقية
تدأب الطبقة العراقية المثقفة على استذكار رؤى أشهر عالم اجتماع في العراق، الراحل علي الوردي (1913-1995)، وأفكاره وعباراته. ذاك أن ما جرى، وما زال يجري، يؤكد أن العراق، شأن أي بلد، تتحول فيه النخب الدينية والثقافية والفنية إلى أبواق لترويج القابضين على حكم البلاد وشؤون العباد، سيكون متطابقاً من حيث التقييم الاجتماعي والسياسي مع الحالة التي ربما سطَرها وقدَم لها الوردي في كتابه "وعاظ السلاطين" المنشور عام 1954.
وعلى الرغم من مضيّ 16 عاماً على سقوط النظام السياسي والبنيوي في العراق، وقيام النظام الحالي، وفق هندسة الولايات المتحدة التي سعت خلال أكثر من أربع سنوات (2003- 2007)، إلى وسمه بالنموذج الموعود للأنظمة الديمقراطية والتعدّدية في الشرق الأوسط، إلا أن واقع الحال أجبرَ واشنطن، قبل سواها، على أن تعترف بأن العملية السياسية في العراق خرجت عن السيطرة، وأن النموذج (الحلم) بات وهما ليس إلا؛ ذلك بعد أن دخلت كل الأوضاع في هذا البلد، سياسيا وأمنيا واجتماعيا، وحتى تربويا، خارج نطاق السيطرة، وبات كل شيء تقريبا تحت مظلة الوجود الإيراني القوي هناك. وأيضا داخل دائرة الجهل والتجهيل والفساد الكبير الذي تقوده وتنفذه الزعامات الدينية الطائفية وقادة الكتل السياسية المتنفذة. وباستخدام ممنهج، وغير ممنهج، للنخب الثقافية والعلمية، وحتى الدينية، وكانت هذه، إلى فترات ليست بعيدة، تمثل جزءا من آمال المستضعفين من أبناء العراق كافة.
وجود سلاطين عدة، وليس سلطانا واحدا، جعل من معالجة الفساد في العراق، أو إخراجه من
نفق العملية السياسية الفاشلة فيه، أمرا بالغ التعقيد؛ فقد أحدث ميزان العنف، وفقدان هيبة الدولة والقانون، إضافة إلى تدهور الحالة الاقتصادية وانتشار البطالة، طبقةً من العاملين تحت عباءات القوى النافذة في السياسة والأمن العراقيين؛ وبدا ظهور الولاءات الخاصة والمتعدّدة للطوائف أمراً طبيعيا، بل ومقبولا اجتماعيا، على أساس المنفعة المتبادلة لكل السلسلة الفاسدة، على الرغم من اختلاف طبيعة كل طواقم هذه السلسلة ومستواها، إلا أن الكل يعمل لتحقيق مصالحه، من دون أن يكون للشرطة أو القوى الأمنية الأخرى أي تدخّل؛ لأنها أولاً جزء من هذه السلاسل، ثم لأن تحرّكها يكون ضمن آليات الجهات المتنفذة عليها من قادة الأحزاب والكتل السياسية ورجال "الدين".
لم تتّخذ النخب العراقية، والكلام هنا عن التي توجد داخل العراق، مواقف تعبّر عن حقيقة رفضهم مظاهر الفساد، وتحريف العقائد والتغيير الديمغرافي وتكريس الطائفية، بل قبلت نخب جامعية وعلمية أموراً كانت تبدو، إلى فترةٍ قريبةٍ، ضربا من الخيال، كمسألة إدخال قصصٍ تدخل في صميم المعتقدات التي يروّجها بعض الزعامات المستفيدة من غطاء الدين والطائفية، إلى مناهج التعليم بكل مراحله من رياض الأطفال وحتى الجامعية، أو كمحاولة وزير التربية ودعوته الصريحة إلى إدخال موضوع تعلم اللغة الفارسية إلى مناهج التعليم العراقية. كتب علي الوردي في (وعاظ السلاطين): "لم يكن الشيعة "روافض" في أول أمرهم، وكذلك السنة "نواصب". إنما هو التطرّف، أو ما أسميناه بالتراكم الفكري الذي أدى بهما إلى هذه النتيجة المحزنة. وإذا أراد الشيعة وأهل السنة، في هذا العصر، أن يتحدوا، فليرجعوا إلى شعارهم القديم الذي اتخذه زيد بن علي وأبو حنيفة، أي شعار الثورة على الظلم في شتى صوره.. لا فرق في ذلك بين الظالم الشيعي أو الظالم السني. إن هدف الدين هو العدل الاجتماعي. وما الرجال فيه إلا وسائل لذلك الهدف العظيم".
لعل الغريب اللافت في موضوعة العراق ونخبه المتعدّدة دخول الأغلبية من هذه النخب في حومة التدين والانحياز الطائفي. ولكن من دون الأخذ بروح الدين والتدين اللذيْن جاء بهما كل الأنبياء والتابعين، وهذه الروح كما يراها الوردي هي: "يرى البعض في هذا العصر أن الدين يدعو الشعوب إلى الخضوع والاستسلام لحكامهم الظالمين. وهذا الرأي ينطبق على الدين المستأجر الذي يستخدمه الطغاة، أما الدين الذي يأتي به الأنبياء المنذرون فهو دين الثورة. يحاول الوعاظ أن يصلحوا أخلاق الناس بالكلام والنصيحة المجرّدة، وما دروا أن الأخلاق هي نتيجة للظروف النفسية والاجتماعية. إنهم يحسبون الأخلاق سبباً لتلك الظروف، لا نتيجة لها. ولذا نراهم يقولون: غيروا أخلاقكم تتغير بذلك ظروفكم. ..ولو أنصفوا لقالوا عكس ذلك، فلو غيّرنا ظروف الناس لتغيرت أخلاقهم طبعاً".
ما يراه العراقيون هو تغيّر أحوال النخب التي كانت إلى ماضٍ قريب تمثل جذوة الفكر والنشاط
العلمي والفني العراقي، ساهمت في إيجاد حالةٍ من الإحباط والاكتئاب العميق لدى نسبة كبيرة من أبناء هذا الشعب. ومن العجيب أن بعض هذه النخب كانت تجرؤ على كتابة مقالاتها منتقدة بعض مظاهر السلوك الرسمي لوزارات ولدوائر وللشرطة العراقية في صحف محلية مهمة خلال فترة حكم صدام حسين، من دون أن تتغير مناصبهم الإدارية أو أدوارهم في الحركة الفنية في العراق. والعجيب أن هؤلاء ذاتهم يتمرّغون الآن في التمتع بمناصب إدارية وجامعية وبمكاسب مالية يعلمون أكثر من غيرهم مصدرها. وهذا كله بالطبع، ووفق رؤية علي الوردي، نتيجة تحول أصوات الوعاظ إلى "مهنة تدرّ على صاحبها الأموال، وتمنحه مركزاً اجتماعياً لا بأس به، وأخذ يحترف مهنة الوعظ كل من فشل في الحصول على مهنة أخرى".
المسرح العراقي العريق، ومطربو العراق وشعراؤه، وكل الكتاب وأساتذة الجامعات ومعلمو المدارس في كل المستويات، مطالبون بنهضةٍ جامعةٍ تعيد لملمة الشعب العراقي، وتكشف، كما يفترض بأي نخبة حرة في العالم، ما يعرّي الطبقة الفاسدة في وطنهم، مهما كانت توجهاتها، فالمناخ العام السائد في هذا البلد، الرائد في حضارته ومثقفيه، هو مناخ الرعاة والمرعيين، والساعين إلى الحصول على الحظوة لدى هذا الرأس أو ذاك، نفاقا وتعميةً ضد شعبٍ كامل.
لا يتم توجيه هذا النداء هنا إلى من هم في داخل العراق وحسب، بل إلى كل المثقفين والفنانين والكتاب في خارج العراق، حيث هامش الحرية أكبر، وقول الحق واجبٌ لا يردّه أي عذرٍ يقال هنا أو هناك. وحسبنا في الثورات العالمية، وطرق دعم النخب الوطنية لها، نموذج يزخر التاريخ به.
وعلى الرغم من مضيّ 16 عاماً على سقوط النظام السياسي والبنيوي في العراق، وقيام النظام الحالي، وفق هندسة الولايات المتحدة التي سعت خلال أكثر من أربع سنوات (2003- 2007)، إلى وسمه بالنموذج الموعود للأنظمة الديمقراطية والتعدّدية في الشرق الأوسط، إلا أن واقع الحال أجبرَ واشنطن، قبل سواها، على أن تعترف بأن العملية السياسية في العراق خرجت عن السيطرة، وأن النموذج (الحلم) بات وهما ليس إلا؛ ذلك بعد أن دخلت كل الأوضاع في هذا البلد، سياسيا وأمنيا واجتماعيا، وحتى تربويا، خارج نطاق السيطرة، وبات كل شيء تقريبا تحت مظلة الوجود الإيراني القوي هناك. وأيضا داخل دائرة الجهل والتجهيل والفساد الكبير الذي تقوده وتنفذه الزعامات الدينية الطائفية وقادة الكتل السياسية المتنفذة. وباستخدام ممنهج، وغير ممنهج، للنخب الثقافية والعلمية، وحتى الدينية، وكانت هذه، إلى فترات ليست بعيدة، تمثل جزءا من آمال المستضعفين من أبناء العراق كافة.
وجود سلاطين عدة، وليس سلطانا واحدا، جعل من معالجة الفساد في العراق، أو إخراجه من
لم تتّخذ النخب العراقية، والكلام هنا عن التي توجد داخل العراق، مواقف تعبّر عن حقيقة رفضهم مظاهر الفساد، وتحريف العقائد والتغيير الديمغرافي وتكريس الطائفية، بل قبلت نخب جامعية وعلمية أموراً كانت تبدو، إلى فترةٍ قريبةٍ، ضربا من الخيال، كمسألة إدخال قصصٍ تدخل في صميم المعتقدات التي يروّجها بعض الزعامات المستفيدة من غطاء الدين والطائفية، إلى مناهج التعليم بكل مراحله من رياض الأطفال وحتى الجامعية، أو كمحاولة وزير التربية ودعوته الصريحة إلى إدخال موضوع تعلم اللغة الفارسية إلى مناهج التعليم العراقية. كتب علي الوردي في (وعاظ السلاطين): "لم يكن الشيعة "روافض" في أول أمرهم، وكذلك السنة "نواصب". إنما هو التطرّف، أو ما أسميناه بالتراكم الفكري الذي أدى بهما إلى هذه النتيجة المحزنة. وإذا أراد الشيعة وأهل السنة، في هذا العصر، أن يتحدوا، فليرجعوا إلى شعارهم القديم الذي اتخذه زيد بن علي وأبو حنيفة، أي شعار الثورة على الظلم في شتى صوره.. لا فرق في ذلك بين الظالم الشيعي أو الظالم السني. إن هدف الدين هو العدل الاجتماعي. وما الرجال فيه إلا وسائل لذلك الهدف العظيم".
لعل الغريب اللافت في موضوعة العراق ونخبه المتعدّدة دخول الأغلبية من هذه النخب في حومة التدين والانحياز الطائفي. ولكن من دون الأخذ بروح الدين والتدين اللذيْن جاء بهما كل الأنبياء والتابعين، وهذه الروح كما يراها الوردي هي: "يرى البعض في هذا العصر أن الدين يدعو الشعوب إلى الخضوع والاستسلام لحكامهم الظالمين. وهذا الرأي ينطبق على الدين المستأجر الذي يستخدمه الطغاة، أما الدين الذي يأتي به الأنبياء المنذرون فهو دين الثورة. يحاول الوعاظ أن يصلحوا أخلاق الناس بالكلام والنصيحة المجرّدة، وما دروا أن الأخلاق هي نتيجة للظروف النفسية والاجتماعية. إنهم يحسبون الأخلاق سبباً لتلك الظروف، لا نتيجة لها. ولذا نراهم يقولون: غيروا أخلاقكم تتغير بذلك ظروفكم. ..ولو أنصفوا لقالوا عكس ذلك، فلو غيّرنا ظروف الناس لتغيرت أخلاقهم طبعاً".
ما يراه العراقيون هو تغيّر أحوال النخب التي كانت إلى ماضٍ قريب تمثل جذوة الفكر والنشاط
المسرح العراقي العريق، ومطربو العراق وشعراؤه، وكل الكتاب وأساتذة الجامعات ومعلمو المدارس في كل المستويات، مطالبون بنهضةٍ جامعةٍ تعيد لملمة الشعب العراقي، وتكشف، كما يفترض بأي نخبة حرة في العالم، ما يعرّي الطبقة الفاسدة في وطنهم، مهما كانت توجهاتها، فالمناخ العام السائد في هذا البلد، الرائد في حضارته ومثقفيه، هو مناخ الرعاة والمرعيين، والساعين إلى الحصول على الحظوة لدى هذا الرأس أو ذاك، نفاقا وتعميةً ضد شعبٍ كامل.
لا يتم توجيه هذا النداء هنا إلى من هم في داخل العراق وحسب، بل إلى كل المثقفين والفنانين والكتاب في خارج العراق، حيث هامش الحرية أكبر، وقول الحق واجبٌ لا يردّه أي عذرٍ يقال هنا أو هناك. وحسبنا في الثورات العالمية، وطرق دعم النخب الوطنية لها، نموذج يزخر التاريخ به.