يضمّ معرض "وقفات عند ذاكرات" أعمال فنانين مغاربة وفرنسيين؛ جعفر عاقيل (1966) وعبد الغني بيبط (1967) وبدر الحمامي (1979) والفرنسيتين فيرونيك شانتو وأكاتي سيمون (1977).
القاسم المشترك بين الأعمال المعروضة هو ذلك الاحتفاء الواضح بالذاكرة، سواء تعلّق الأمر بذكرى أشخاص تربطهم علاقة قرابة بالفنانين، أو ببعض الفضاءات الطبيعية، التي تحيل إلى زمن مضى، أو ببعض اللقطات التي سعى المشاركون إلى توليفها بالشكل الذي يجعلها تنطق بأسرار خبيئة.
في أعمال الفنان جعفر عاقيل، تبدو هذه النزعات جلية؛ إذ يتناول العزاء بطريقة فنية تستحضر ذكرى شقيقه الأكبر محفوظ الذي توفي وهو في سن الثالثة، منذ أكثر من أربعين سنة، أي قبل ولادة الفنان بتسعة أشهر. هذا الحدث الذي يستعيده عاقيل في أعماله الأخيرة، يعتبر مرحلة من مراحل انكبابه على مساءلة ذاكرة صور أسرته وإعادة قراءة تاريخها الخاص، والتي تعقّب خلالها، خصوصاً في معرضه ما قبل الأخير "الدار البيضاء – باريس: تجوالات"، آثار أسفار والده، التي قادته من مدينة الدار البيضاء إلى باريس، باحثاً عن فضاء لطموحاته الحالمة.
من جهته، يعتبر الفنان عبد الغني بيبط أن "الأشياء ليس لها دلالة، وإنما وجود"، فينطلق هو الآخر مما يتيحُه له محيطه الأسري من أفكار ومن دلالات، بحثاً عمّا يضمن لأفراد هذه الأسرة وجوداً دائماً ومتواصلاً يتجاوز فكرة الهش والزائل والعرضي، سواء في الحياة أو في الصور.
وهو إلى ذلك يحاول، في مسار تهيئة فكرته الفوتوغرافية، استثمار بعض المواد مثل الملح والحجارة والسواك وبعض النباتات التي كانت تستعمل قديماً للحفاظ على المواد المعرّضة للتعفن، إلى جانب بعض الكتابات السحرية التي تشهد على حياة منقضية، بما يحقق من خلال تجميعها في قالب فني فكرة الدوام والاستمرارية؛ استمرارية الكائنات والأشياء على حد سواء، وهو ما يقوم بمعالجته فوتوغرافياً، في ما يشبه عملية إيقاف عامل الزمن.
أما الفنانة التشكيلية والفوتوغرافية الفرنسية ومصممة الديكور الداخلي فيرونيك شانتو، فهي توّظف مجموع خبراتها هذه للاشتغال على عنصري الزمن والضوء في ارتباطهما بلحظات عبورهما في الماضي.
قامت شانتو باستثمار صور فوتوغرافية قديمة، حصلت عليها مصادفة، ويعود مكانها وتاريخها إلى أحياء باريس الريفية خلال القرن التاسع عشر.
ومن خلال توظيفها - في لعبة المرآة العاكسة - لحيوات ماضية، تقوم الفنانة بإعادة تصويرها وفق رؤية تراهن على إعادة اكتشاف أسرار تنتمي إلى زمن ولّى، زمن تحيل بعض ملامحه إلى عوالم الفنانين التشكيليين الفرنسيين إدوار مانيه وجان رينوار. كما أن المصورة الفوتوغرافية الفرنسية تعمد إلى تناول هذه الصور/ اللقطات من خلال اعتماد تقنية قلب الصفحة أثناء عملية التصوير، ما يحدث ظلاً يقوم بحجب أو إهمال بعض تفاصيل الصور الأصلية موضوع الاشتغال، فيما تعتبره الفنانة "قيمة تضيف مسافة وغموضاً إلى عملها الفني".
جعفر عاقيل |
من جانبه، يقوم الفنان بدر الحمامي بتوجيه آلته نحو تصوير مناظر طبيعية مفكّر فيها سلفاً، بعدما يقوم بالتدخل في وضعيتها الأصلية عبر رسم حدود ورقية (أي من أوراق بيضاء)، تضفي معنى جديداً على الفضاء موضوع التصوير، كما يستحضر بعض الكلمات المتضادة التي يحفل بها واقعنا اليومي، مثل الإغراء مقابل الخوف واليقين في مواجهة الشك.
وفي ذلك يقوم بالتعامل مع الصورة الملتقطة بخلفية إظهار حمولتها الزمنية، التي تشير إلى زمنين قصيرين مفارقين، زمن التقاط الصورة وزمن التصرّف في فكرتها. هذا التناول هو ما يحاول الفنان إعطاءه حقيقة فعلية تعكس تحوّل ما هو طبيعي، باعتباره قيمة مضافة، وعنصر ضبط لحياة كل عمل فني، يخاطب مفاهيم التطوّر والموت والمصادفات والطارئ والفضاء الانتقالي.
أخيراً، تسلك الفنانة أكاتي سيمون مسعى مواطنتها فيرونيك شانتو في التعامل مع الصور القديمة، التي تؤرخ لزمن بعيد منتهٍ، مع تركيز – في أعمال أخرى مجاورة – على تعقب سيرورة الهش والزائل والمهمل، في كل ما يؤرخ لحياة الأشياء ولتاريخها الذي بقي مستمراً في الزمن.
تبقى الإشارة، في الأخير، إلى أن قوة هذا المعرض، لا تكمن وحسب في اشتغال المشاركين فيه على فكرة الزمن، بما هو ماض ولّى وانقضى، أو باعتباره يؤرخ لقيم فانية أو يحكي عما استنفد وظائفه المحتملة، وإنما أيضاً وأساساً، في طبيعة التناول المخصوص الذي أضفاه كل فنان - على حدة - على فكرته وعلى موضوع عمله، وبالتالي على الفكرة الرئيسة للمعرض، بما يعطي حياة ثانية متحوّلة وغير ثابتة لأشياء كانت في عداد الزائل، ذلك الذي استنفد وظيفته العملية، وعمره الافتراضي في حياته الماضية.