في الثاني عشر من شهر آذار/ مارس 2001، قامت "طالبان" بنسف تمثالي بوذا في مقاطعة باميان، أحد أهم مراكز البوذية الواقعة وسط أفغانستان على طريق الحرير؛ همزة الوصل التجارية قديماً ما بين آسيا وأوروبا.
تؤمن طالبان طبعاً بتحريم التشخيص في فنون النحت والتصوير، بل ربما بتحريم جميع أنواع الفنون، من دون أن تناقش أمر التحريم أو جواز غضّ الطرف، فكان التدمير جزءا من ممارسة هذه العقيدة. وإلى جانب التمثالين الكبيرين اللذين يعودان إلى فترة ما بين القرنين الرابع والخامس الميلادي، طاول التخريب الطالباني كلّ القطع الأثرية التي تعود إلى الحقبة البوذية المعروضة في "متحف كابول" تقريباً، في مهمّة تهدف إلى طمس أي أثر لشعوب المنطقة قبل الإسلام.
بعد أشهر قليلة من تدمير هذين التمثالين، قامت القاعدة، بحسب الرواية الرسمية للحكومة الأميركية، بتدمير برجي مركز التجارة الدولي في مانهاتن يوم 11 أيلول/ سبتمبر 2001. أعلن بوش الابن، غداة ذلك الاعتداء، الحرب العالمية على الإرهاب، وكان غزو العراق الذي انتهى بدخول القوات الأميركية وحلفائها بغداد في ربيع 2003 من ضمن هذه الحرب. كانت مبرّرات هذا الغزو الأميركي هي "تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل، ووضع حدّ للدعم الذي يقدّمه صدام حسين إلى الإرهاب وتحرير الشعب العراقي".
دخلت الجيوش الأميركية وحلفاؤها مستبيحين بغداد، إلا وزارة النفط العراقية، فقد كانت خارج نطاق الأماكن المستباحة، فلم تُمسّ فيها أي ورقة، ولو تلك المرمية في سلّة مهملات موجودة في مكتب موظف بسيط فيها على ما نعتقد. أما "المتحف الوطني" في بغداد فقد تُرك إلى مصيره، عرضةً للنهب على مدى ثلاثة أيام متتالية (10 و11 و12 نيسان/ إبريل)، وكان الأمَرُّ من هذا أن بعض اللصوص قد قاموا بتحطيم ما لم يستطيعوا سرقته.
في هذا الشأن، تقول الأخبار إن هناك قائمة أوامر كانت قد صدرت للجيش الأميركي لحماية ستة عشر موقعاً في بغداد وكان المتحف هو الموقع رقم اثنين من حيث الأهمية، أما موقع وزارة النفط فكان ترتيبه السادس عشر، فكانت تلك الدعابة السوداء التي تقول إن الجنود الأميركان قد قرأوا القائمة بالمقلوب.
ولا يمكن لمتابع الأحداث حينها أن ينسى صورة امرأة تتشح بالسواد وهي تسير في أروقة المتحف تحاول لملمة القطع المرمية المهشّمة والمحطّمة قبل أن تستسلم إلى دموعها وتضرب بيدها على رأسها كأمّ فقدت للتو أبناءها. كانت هذه المرأة هي مديرة المتحف.
ربما المشهد الأكثر إيلاماً من المشهد المذكور أعلاه، هو الصور التي بثّتها بعض المواقع الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي في آب/ أغسطس 2015 لعالم الآثار السوري خالد الأسعد، وقد تجاوَز الثانية والثمانين من العمر، وهو معلّق على عمود كهرباء، مقطوع الرأس، في تدمر؛ المدينة التاريخية التي أمضى بين آثارها ما يقارب الخمسين سنة. قامت داعش، الشقيقة الثالثة لطالبان والقاعدة، بإعدام الأسعد لأنه مرتدّ وعميل للنظام، بحسب روايتها.
في هذه الفترة أيضاً، قامت داعش بأعمال تدمير طاولت الكثير من الأوابد الهامة هناك مثل: معبد بعل شمين الشهير، وخشبة المسرح الروماني القديم الذي يعود إلى القرن الثاني، وقوس النصر الذي يعود إلى عهد الدولة الرومانية وغيرها الكثير.
إن ما لم تهمله الحكومات العربية، وما نجا من حروبنا الأخيرة أو الحالية، من بغداد إلى الموصل إلى بيروت مروراً بحلب شمالاً، أو ما لم تتمّ سرقته من قبل الحملات والجيوش الاستعمارية سابقاً، صار عرضة لسهام المتطرّفين المنطلقة من قوس ووتر مشدود موجود في بلاد الحضارة. هناك، حيث يبكي الناس على هذه الجرائم التي لا تغتفر والتي ترتكب بحقّ الحضارة، أو بحقّ الإرث الإنساني.
ومن العجيب أن المسلمين خلال مئات السنوات التي عرفوا فيها المجد كما الضعف، لم يقتربوا مما تركته الحضارات والشعوب التي سكنت قبلهم في مناطق نفوذهم، لتأتي تلك المجموعات المتطرّفة المفبركة فتقدّم للغرب فرصة ثمينة تبيّن كم نحن متخلفون ولا نؤتمن حتى على أملاكنا الخاصة.
وتأتي دول الغرب، المتحضّرة، لتتابع بدورها عملَها القديم والمستمر فـ"تُنقذ" ما تبقّى لدينا من كنوز وتضعه في متاحفها، فأهل هذه البلاد كما يرون، وبشهادة أهل هذه البلاد أيضاً (!)، لا يستحقّون ما لديهم من آثار ولا يعرفون كيف يتعاملون معها، لذلك يجب أن تشجّع السارقين على سرقتها وإخراجها خارج البلاد.
نتكلّم عن آثارنا، وكيف أن وجودها في المتاحف الأوروبية والأميركية هو خير لها، تُحاط بما تستحقّه من عناية واهتمام، كما نرتاح لأنها أيضاً في مأمن من حروبنا، ويتناسى الكثير، منّا ومنهم، أن من أهم أسباب ما نحن فيه من تخلّف هو هذا العالم المتحضّر الذي يفتح خزائنه لحفظ كنوزنا... لا نلومه إن كنا نحن ضالعين، كأنظمة وحكومات وضعاف النفوس من عامّة الشعب، على مرّ السنوات في هذه السرقات وفي هذا التخريب، لكن لنكفّ على الأقلّ عن تبييض صفحته كمنقذ حنون لآثارنا.