يعدّ الرحالة الأندلسي أبو بكر ابن العربي واحداً من أوائل الرحالة العرب الذي صاغوا تجربتهم الإنسانية الرحلية في نص من الأدب الرفيع، إذ عدّه العلامة الروسي اغناتي كراتشكوفسكي الرحالة العربي الأول الذي يدون رحلته بهذا الأسلوب الذاتي البديع.
ويمكن أن تكون رحلته هذه أحد النصوص التي ألهمت مواطنه ابن جبير بعد قرن كامل في رحلته الكبرى إلى الشرق التي تعد واحدة من عيون الرحلات، ليس في أدب الرحلات العربي فحسب، وإنما في الأدب العالمي أيضاً.
ولد ابن العربي في إشبيلية سنة 468 هـ، 1076 م، وقد غادرها إلى المشرق صُحبَة أبيه الذي كان يشغل منصباً مرموقاً في دولة بني عباد التي أزالها يوسف بن تاشفين صاحب المغرب في مستهل ربيع الأول سنة 485 هـ، 1092 م، ولم يكن عمره يتجاوز آنذاك سبعة عشر عاماً.
وبعد أن أقام في القدس حوالي 3 سنوات سافر إلى دمشق ثم إلى بغداد فوصل إليها في رمضان 489 هـ، 1096 م، واجتمع فيها بالإمام الغزالي، ثم أدى فريضة الحج في السنة نفسها وعاد إلى بغداد. ثم سافر إلى مصر، ومنها عاد إلى وطنه بعد غياب استمر عشرة أعوام.
وسرعان ما ذاع صيته كقاضٍ وفقيه من أكبر فقهاء المالكية في الأندلس، وتوفي أثناء رحلةٍ إلى مدينة فاس سنة 543 هـ، 1148 م، تاركاً كثيراً من الكتب، منها "أحكام القرآن" و"العواصم من القواصم" و"قانون التأويل".
ونص الرحلة إلى الشرق المفصل مفقود، ولكن عمل الدكتور إحسان عباس على مختصر للرحلة مبثوث في كتاب "قانون التأويل" الذي كان مفقوداً، فنشر مختصر الرحلة في مجلة الأبحاث البيروتية عام 1968 تحت عنوان: "رحلة ابن العربي إلى المشرق كما صورها قانون التأويل".
ومهّد ابن العربي لرحلته بحديث عن تحصيله العلمي الذي سبق الرحلة فقال: "كان من حسن قضاء الله تعالى أني كنت في عنفوان الشباب وربان الحداثة وعند ريعان النشأة رتب لي أبي رحمه الله حتى حذقت القرآن في العام التاسع، ثم قرن بي ثلاثة من المعلمين أحدهم لضبط القرآن بأحرفه السبعة التي جمعها الله فيه ونبه الصادق إليها في قوله: أنزل القرآن على سبعة أحرف في تفصيل فيها، والثاني لعلم العربية، والثالث للتدريب في الحسبان.
فلم يأت على ابتداء الأشد في العام السادس عشر من العدد إلا وأنا قد قرأت من أحرف القرآن نحواً من عشرة بما يتبعها من إدغام وإظهار وقصر ومد وتخفيف وشد وتحريك وتسكين وحذف وتتميم وترقيق وتفخيم. وقد جمعت من العربية فنوناً وتصرفت فيها تمريناً".
ويضيف ابن العربي: "قرأت من الأشعار جملة منها الستة وشعر الطائي والجعفي ويسير من أشعار العرب والمحدثين. وقرأت في اللغة كتاب ثعلب و"إصلاح المنطق" و"الأمالي" وغيرها، وسمعت جملة من الحديث على المشيخة، وقرأت من علم الحسبان: المعاملات والجبر والفرائض عملاً. ثم كتاب أقليدس وما يليه إلى الشكل القطاع، وعدلت بالأزياج الثلاثة، ونظرت في الإسطرلاب وفي مسقط النقطة ونحوه.
يتعاقب عليّ هؤلاء المعلمون من صلاة الصبح إلى صلاة العصر ثم ينصرفون عني وآخذ في الراحة إلى صبح اليوم الثاني، فلا تتركني نفسي فارغاً من مطالعة أو ذاكرة أو تعليق فائدة، وأنا بغرارة الشباب، أجمع من هذه الجمل ما يجمل والقدر يخبئها عندي للانتفاع بها في الرد على الملحدين والتمهيد لأصول الدين، ثم حالت هذه الحالة الخاصة بالاستحالة العامة عند دخول المرابطين بلدنا سنة أربع وثمانين وأربعمائة، ووقع علينا من تلك الحوادث ما كان مدة أسف فوقنا وصاب بأرضنا شؤبوب فتنة يا طال ما درت سحابة بنا فانصدع الالتئام، وتبدد ذلك النظام، وكان لنا حسرة وللإسلام، ولم يكن بأرضنا المقام".
هروب من جيوش المرابطين
وهذا يعني أن الداعي لهذه الرحلة هو الهروب من الوضع العصيب الذي تسبب به دخول قوات يوسف بن تاشفين إشبيلية ووضعه حداً لدولة بني عباد. ويتابع قائلاً: "خرجنا والأعداء يشمتون بنا، وآيات القرآن تنزع لنا، وفي علم الباري جلت قدرته أنه ما مرّ عليّ يوم من الدهر كان أعجب عندي من يوم خروجي من بلدي ذاهباً إلى ربي.
ولقد كنت مع غزارة السبيبة، ونضارة الشيبة، أحرص على طلب العلم في الآفاق، وأتمنى له حال الصفاق والآفاق، وأرى أن التمكن من ذلك في جنب ذهاب الجاه والمال وبعد الأهل بتغير الحال ربح في التجارة، ونجح في المطلب. وكان الباعث على هذا السبب ـ مع هول الأمر ـ همة لزمت، وعزمة نجمت، ساقتها رحمة سبقت".
سار ابن العربي ووالده من إشبيلية إلى ملقة فغرناطة فالمرية ثم سافر بحراً إلى بجاية على ساحل الجزائر، ومنها إلى بونه (عنابة) فتونس فسوسة فالمهدية، وواصل الرحلة بحراً فانكسرت السفينة على شاطئ برقة فنزل في بيوت بني كعب بن سليم.
وبعد أن تحطمت سفينتهم في برقة سار وصحبه إلى مصر عن طريق البر حتى وصلوا إليها فوجدوا بها جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين الذين قال إن "السلطان عليهم جرى"، منتقداً خمولهم وهجران الخلق لهم. ويصف حالتهم بقول: "لا ينبسون من العلم ببنت شفة، ولا ينتسب أحد منهم في فن إلى معرفة".
ويضيف: "فنظرنا فيه مع قوم منهم أبو عبد الله محمد بن قاسم العثماني والسالمي وشعيب العبدري وآخرون سواهم ذكرناهم في موضعهم وسميناهم. وترددت في لقاء الناس بين أسفل وفوق، بما كنت فيه من المعارف من التوق، وناظرت الشيعة والقدرية، وتدربت في جمل من الجدل، ونظرت في نبذ علم الكلام، وتفطّنت من سخافة هذه الطائفة بنفسي إلى معانٍ تممها في النظر في المعارف والتمرس بالمشايخ: أمة غلب عليها سوء الاعتقاد، ونشأت من غير فطم بلبن العناد، واستولى اليأس منهم بما هم فيه من الفساد".
دخول بيت المقدس
وصل أبو بكر إلى القدس في سنة 486 هـ، 1093 م. وإذ كان هدفه الأول من رحلته هو تحصيل علوم الشرق فقد وجد الكثير مما كان يبتغيه في بيت المقدس من حياة علمية خصبة زاخرة أَسهم فيها علماء كثيرون بعضهم من أهل القدس وفلسطين، وبعضهم من مختلف أنحاء العالم الإسلامي: من علماء القدس كان هناك الإمام الحافظ أبو الفضل علي بن محمد بن طاهر المقدسي المعروف بابن القيسراني والمتوفى سنة 507 هـ، 1113 م، ومنهم عطاء المقدسي فقيه الشافعية.
ومن علماء المسلمين الذين نزلوا القدس في هذه الفترة الإمام أبو حامد الغزالي الذي اجتمع به ابن العربي في بغداد، والذي عاش في القدس مجتهداً في العبادة والتأليف، ومنهم أبو الغنائم محمد بن علي بن ميمون النّرسي الحافظ الكوفي المتوفى سنة 510 هـ، 1116 م، والإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عيسى المقدسي العثماني المعروف بالديباجي، أصله من مكة وأقام ببيت المقدس وكتب الأحاديث بها، وقد توفي سنة 529 هـ، 1134- 1135 م.
وكان على رأس العلماء الذين لزمهم ابن العربي وتمتع بلقائهم في المسجد الأقصى الإمام محمد بن الوليد بن محمد بن خلف الطرطرشي الفهري الأندلسي المالكي صاحب (سراج الملوك) وتلميذ أبي محمد علي بن حزم. وكان قد رحل إلى بلاد المشرق سنة 476 هـ، 1083 م وقدم بيت المقدس وتفقّه على يد الإمام أبي بكر الشاشي المستظهري، وسكن القدس ودرس بها.
وفي ذلك يقول ابن العربي: "دخلنا الأرض المقدسة، وبلغنا المسجد الأقصى، فلاح لي بدر المعرفة فاستنرت به أزيد من ثلاثة أعوام، وحين صلّيت بالمسجد الأقصى فاتحة دخولي بها، عمدت إلى مدرسة الشافية بباب الأسباط فألفيت بها جماعة علمائهم يوم اجتماعهم للمناظرة عند شيخهم القاضي الرشيد يحيى الذي كان استخلفه عليهم شيخنا الإمام الزاهد نصر بن إبراهيم النابلسي المقدسي وهم يتناظرون على عادتهم، فكانت أول كلمة سمعتها من شيخ من علمائهم يقال له مجلي: الحرم بقعة لو وقع القتل فيها لاستوفى القصاص بها، وكذلك إذا وقع في غيرها أصله الحل.
فلم أفهم من كلامه حرفاً، ولا تحققت منه نكراً ولا عرفاً. وأقمت حتى انتهى المجلس فكررت راجعاً إلى منزلي وقد تأوبني حرصي القديم، وغلبني على جدي في التحصيل والتعليم، فقلت لأبي رحمة الله عليه: إن كانت لك نية في الحج فامض لعزمك فإني لست برائم عن هذه البلدة حتى أعلم علم من فيها، وأجعل ذلك دستوراً للعلم وسلماً إلى مراقيها، فساعدني حين رأى جدي.
ونظرنا في الإقامة بها، وخذلنا أنفسنا عن صحبة كنا نظمنا بهم في المشي إلى الحجاز، إذ كانوا في غاية الانحفاز، ومشيت إلى شيخنا أبي بكر الفهري رحمة الله عليه، وكان ملتزماً من المسجد الأقصى ـ طهره الله ـ بموضع يقال له الغوير، بين باب أسباط ومحراب زكريا، فلم نلقه به واقتصصنا أثره إلى موضع منه يقال له السكينة فألفيناه بها فشاهدت هديه، وسمعت كلامه، فامتلأت عيني وأذني منه".
الشيخ الفهري
يضيف ابن العربي أن والده أعلم الشيخ الفهري بنية ابنه البقاء في القدس فرحّب به وضمه إلى حلقة تلاميذ فانفتح له به إلى العلم كل باب، ونفعه الله في العلم والعمل، وتيسر له على يديه أعظم أمل، ويقول: "اتخذت بيت المقدس مباءة، والتزمت فيه القراءة، لا أقبل على دنيا ولا أكلم إنسياً، نواصل الليل بالنهار، وخصوصاً بقبة السلسلة منه تطلع الشمس لي على الطور وتغرب على محراب داود فيخلفها البدر طالعاً وغارباً على الموضعين المكرمين، وأدخل إلى مدارس الحنفية والشافعية في كل يوم لحضور التناظر بين الطوائف لا تلهينا تجارة، ولا تشغلنا صلة رحم، ولا تقطعنا مواصلة ولي وتقاة عدو".
ويقول إنه لم تمر به مدة يسيرة حتى حضر عطاء المقدسي إلى أحد المجالس التي كانت تشهد مناظرة فقهية بين المالكية والشافعية، فسمعه وهو يستدل على أن مد عجوة ودرهم بمدي عجوة لا يجوز. وكان رأي ابن العربي أن الصفقة إذا جمعت مالي ربا ومعهما أو مع أحدهما ما يخالفه في القيمة، سواء كان من جنسه أو من غير جنسه، فإن ذلك لا يجوز لما فيه من التفاضل عند تقدير التقسيط والنظر والتقويم في المقابلة بين الأعواض، وهذا أصل عظيم في تحصيل مسائل الربا.
ويقول إن "الشيخ الفهري أعجبه ذلك والتفت إلى عطاء وقال له: قيضت فراخنا، فقال له عطاء: بل طارت، وذلك في الشهر الخامس أو السادس من ابتداء قراءتي".
ويتابع ابن العربي واصفاً جو المناظرات بين الفرق الإسلامية التي كان يتدخل فيها النصارى واليهود أيضاً: "كنا نفاوض الكرامية والمعتزلة والمشبهة واليهود.
وكان لليهود بها حبر منهم يقال له التستري ذكياً بطريقهم. وخاصمنا النصارى بها، وكانت البلاد لهم يأكرون ضياعها ويلتزمون أديارها ويعمرون كنائسها. وقد حضرنا يوماً مجلساً عظيماً فيه الطوائف، وتكلم التستري الحبر اليهودي على دينه فقال: اتفقنا على أن موسى نبي مؤيد بالمعجزات معلم بالكلمات فمن ادعى أن غيره نبي فعليه الدليل، وأراد من طريق الجدال أن يرد الدليل في جهتنا حتى يطرد له المرام، وتمتد أطناب الكلام.
فقال له الفهري: إن أردت بموسى الذي أيّد بالمعجزات وعلم الكلمات وبشر بأحمد فقد اتفقنا عليه معكم وآمنا به وصدقناه، وإن أردت به موسى آخر فلا نعلم ما هو، فاستحسن ذلك الحاضرون وأطنبوا في الثناء عليه، وكانت نكتةً جدلية عقلية قوية، فبهت الخصم وانقضى الحكم".
ويقول: "لم نزل على تلك السجية حتى اطلعت بفضل الله على أغراض العلوم الثلاثة: علم الكلام وأصول الفقه ومسائل الخلاف، التي هي عمدة الدين والطريق المهيع إلى التدرب في معرفة أحكام المكلفين الحاوية للمسألة والدليل، والجامعة للتفريغ والتعليل. وقرأنا "المدونة" بالطريقين: القيروانية في التنظير والتمثيل والعراقية على ما تقدم في معرفة الدليل".
علماء من خراسان في بيت المقدس
ويشير ابن العربي إلى لقائه في بيت المقدس جماعة من علماء خراسان كالزوزني والصاغاني والزنجاني والقاضي الريحاني، ومن الطلبة جماعة كالبسكري وساتكين التركي. ويضيف: "فلما سمعت كلامهم رأيت أنها درجة عالية، ومزية ثانية، وبز من المعارف أغلى، ومنزلة في العلوم أعلى وكأني إذ سمعت كلامهم ما قرأت ما يقني، ولا يكفي في المطلوب ولا يغني.
وكان من غريب الاتفاق الإلهي أن المسألة التي سمعت أول دخولي بيت المقدس، ولم أفهم كلام القوم فيها، هي التي سمعت الصاغاني يتكلم عليها، فرأيت أنه أغوص على جواب كتاب الله واستنباط لا يدركه إلا من اصطفاه الله، وكذلك سمعت كلام الزوزني في مسائل منها قتل المسلم الذمي، فرأيته يقرطس على غرض الصاغاني، وينظرون إلى المطلوب من حقدة واحدة، فاستخرت الله تعالى على المشي إلى العراق، وصورة المسألة وتسطير الكلامين يكشف لنا قناع الطريقتين".
وبعد أن يروي كثيراً من القصص عن المساجلات الفقهية يقول ابن العربي: "خرجت حينئذ إلى عسقلان متساحلاً، فألفيت بها بحر أدب يعب عبابه ويغب ميزابه، فأقمت بها لا أرتوي منه نحواً من ستة أشهر. فلما كان في بعض الأوان، كنت منقلباً عن بعض الإخوان إلى أن جئت لفم طريق وقد امتلأت بالناس وهم منقصفون على جارية تغني في طاق، فوقفت أطلب أو أفكر في المشي على غيره وهي تترنم للتهامي: "أقول لها والعيس تحدج للنوى أعدّي لفقدي ما استطعت من الصبر، أليس من الخسران أن لياليا، تمر بلا نفع وتحسب من عمري".
ويقول إنه اعتبر هذه الأبيات وحياً صوفياً وهاتفاً دينياً، فقرر الرحيل وقال لوالده: "الرحيل، الرحيل، فليس هذا المنزل بمقيل، فسر بذلك إذا كان قبل يراودني عليه وأنا أمانعه عليه". ويضيف أنه ركب البحر من عسقلان إلى عكا ومنها إلى طبرية وحوران ثم دمشق التي صادف فيها جماعة من العلماء، على رأسهم شيخ الوقت سناء وسناً وعلماً وديناً نصر بن إبراهيم المقدسي النابلسي، كما وصفه، مشيراً إلى أنه لازم الشيخ نصر بن إبراهيم في السماع وانتهى إلى سماع كتاب البخاري.
وقد وصف ابن العربي ببعض التفصيل مشهدين من مشاهد القدس هما محراب داود بباب الخليل والمائدة التي بطور زيتا. أما محراب داود فهو الاسم الذي أطلقه المسلمون على برج من أبراج قلعة القدس عند باب الخليل. يقول ابن العربي: "شاهدت محراب داود عليه السلام في بيت المقدس بناء عظيماً من حجارة صلدة لا تؤثر فيها المعاول ويُرى له ثلاثة أسوار لأنه في السحاب أيام الشتاء كلها لا يظهر لارتفاع موضعه وارتفاعه في نفسه، له باب صغير ومدرجة عريضة، وفيه الدور والمساكن، وفي أعلاه المسجد، وفيه كوة شرقيَّة إلى المسجد الأقصى في قدر الباب".
شاهد على الاحتلال الصليبي
ويبدو أن ابن العربي عاد بعد سنوات إلى القدس فروى شيئاً عن احتلال الفرنجة لها سنة 492 هـ، 1099 م، فقد أشار إلى التجاء بعض جنود الفاطميين إلى القلعة وإعطاء الفرنجة لهم الأمان على أن يتوجهوا إلى مصر فقال: "وفيه نجا من نجا من المسلمين حين دخلها الروم حتى صالحوا على أنفسهم بأن أسلموه إليهم على أن يسلموا في رقابهم وأموالهم فكان ذلك وتخلوا لهم عنه".
وروى ابن العربي بعد ذلك حادثةً شهدها في محراب داود بقوله: "ورأيت فيه غربية الدهر وذلك أن ثائراً ثار به على واليه وامتنع فيه بالقوت، فحاصره وحاول قتاله بالنشاب مدة، والبلد على صغره مستمر في حاله، ما أغلقت لهذه الفتنة سوق، ولا سار إليها من العامة بشر، ولا برز للحال من المسجد الأقصى معتكف ولا انقطعت مناظرة ولا بطل التدريس، وإنما كانت العسكرية قد تفرقت فرقتين يقتتلون، وليس عند سائر الناس لذلك حركة، ولو كان بعض هذا في بلادنا لاضطرمت نار الحرب في البعيد والقريب ولانقطعت المعايش وغلقت الدكاكين وبطل التعامل، لكثرة فضولنا وقلة فضولهم".
أما المائدة التي بطور زيتا، وهو جبل الطور أو الزيتون، فقد نقل وصفه لها المقري في "نفح الطيب" إذ قال: "شاهدت المائدة بطور زيتا وذكرت الله سبحانه وتعالى فيها سراً وجهاراً. وكان ارتفاعها أسفل من القامة بنحو شبر، وكان لها درجتان قبليّاً، وكانت صخرة صلداء لا تؤثر فيها المعاول.
فكان الناس يَقولون: مسخت صخرة إذ مسخ أربابها قردة وخنازير، والذي عندي أنّها كانت صخرة في الأصل قطعت من الأرض محلّاً للمائدة النازلة من السماء، وكان ما حولها حجارة مثلها، وكان ما حولها محفوفاً بقصور، وقد نُحتت في ذلك الحجر الصلد بيوت أبوابها منها ومجالسها منها، مقطوعة فيها، وحناياها في جوانبها، وبيوت خدمتها قد صُوّرت من الحجر كما تُصوّر من الطين والخشب.
فإذا دخلت في قصر من قصورهم ورددت الباب وجعلت من ورائه صخرة كثمن درهم لم يفتحه أهل الأرض للصوقه بالأرض، فإذا هَبّت الريحُ وحثَتَ تحته التراب لم يُفتح إلا بعد صب الماء تحته والإكثار منه حتى يسيل بالتراب، وينفرج مُنْفَرَجُ الباب، وقد مات بها قومٌ بهذه العلة. وقد كنت أخلو فيها كثيراً للدرس، ولكنّي كنت في كل حين أكنس حول الباب، مخافة ممّا جرى لغيري فيها، وقد شرحت أمرها في كتاب (ترتيب الرحلة) بأكثر من هذا أيضاً".