على مسافة 200 متر فقط من السفارة الكويتية في بغداد، وبمثل تلك المسافة تقريباً عن السفارة الأميركية وسط المنطقة الخضراء في العاصمة العراقية، يقيم ومنذ أيام المطلوب للقضاءين الكويتي والأميركي وللشرطة الدولية (الانتربول)، أبو مهدي المهندس جمال جعفر إبراهيم، المتهم بتفجير السفارتين الأميركية والفرنسية في الكويت في الثاني عشر من ديسمبر/كانون الأول 1983، ما أسفر حينها عن مقتل ستة أشخاص وإصابة 80 آخرين من بينهم رعايا غربيون.
وأظهر تحقيق مشترك أجرته السلطات الكويتية والأميركية في حينه، تورّط المهندس مع سبعة عشر عضواً آخرين من حزب "الدعوة"، بهذه الهجمات، بعدما نجحت الشرطة في العثور على أدلة مادية تؤكد ذلك.
وحُكم على المهندس ورفاقه بالإعدام لكنه نجح في الفرار من الكويت باستخدام جواز سفر باكستاني متجهاً إلى إيران. كما وُضع اسمه على لائحة المنع في دول الخليج ومصر والمغرب العربي إضافة إلى الدول الأوروبية والأميركتين، ولم يُسجل خروجه من إيران سوى إلى سورية والعراق خلال السنوات العشر الماضية.
اليوم يعود المهندس إلى بغداد بقوة وضمن منصب رفيع وبصلاحيات قد لا تُتاح لنواب رئيس الجمهورية الثلاثة أو لرئيس البرلمان، وهو نائب رئيس هيئة قوات الحشد الشعبي المرتبطة بمجلس الوزراء العراقي، والتي تضم عشرات الآلاف من مقاتلي الميليشيات المحلية.
ويُمارس المهندس دور القائد العسكري والمنسّق مع قوات الحرس الثوري الإيراني، وفقاً لما أعلنه رسمياً خلال مؤتمر صحافي عقده في المنطقة الخضراء أمس الأول الخميس.
ظهور المهندس في أول مؤتمر صحافي له من قلب المنطقة الخضراء، شكّل صدمة في الأوساط السياسية والشعبية بشكل عام، لارتباط اسمه بالإرهاب تارة وبالجرائم ذات البُعد الطائفي تارة أخرى، إذ أظهرت لقطات مصوّرة تنفيذه عمليات إعدام مباشرة لعسكريين عراقيين وقعوا أسرى لدى الجيش الإيراني في العام 1985، وهو ما أشاع القلق والخوف لدى العراقيين الذين يرون في الاسم قرع طبول حرب طائفية في العراق، وإيذاناً بانتكاسة العملية السياسية، ودليلاً على عجز أو ضعف رئيس الحكومة حيدر العبادي.
فمن هو أبو مهدي المهندس، الشخصية المليشيوية الأكثر جدلاً في الساحة العراقية هذه الأيام، وما دوره الحالي في العمليات العسكرية الجارية في العراق؟
بالعودة إلى سجلات وتقارير أمنية عراقية، فهو جمال جعفر إبراهيم، من مواليد مدينة البصرة عام 1954 من أب عراقي وأم إيرانية، أكمل دراسته في كلية الهندسة في العراق عام 1977، وانتمى لحزب "الدعوة" مطلع العام نفسه.
غادر البلاد إلى الكويت في العام 1979 بعد تولي الرئيس الراحل صدام حسين السلطة وقيامه بحظر جميع الأحزاب الدينية.
استقر المهندس في الكويت لعدة سنوات، وتشير التقارير إلى أنه كان يحمل الرقم 2722174 في بطاقة إقامته في منطقة الجابرية الكويتية، حيث مارس نشاطاً سياسياً وأمنياً معادياً لنظام صدام حسين، قبل أن تمنعه الحكومة الكويتية آنذاك من مزاولة أي نشاط على أراضيها.
وبعد وقوف دول الخليج مع العراق في حربه ضد إيران، ومقاطعة بغداد لطهران بشكل شبه كامل مطلع العام 1983، هاجم المهندس مع مجموعة من زملائه رداً على ذلك عدداً من المباني الحساسة في العاصمة الكويت، ومنها السفارتان الأميركية والفرنسية وبعثات أخرى، بواسطة متفجرات تبيّن أنها محلية الصنع وجرى تحضيرها داخل البلاد، ما أسفر عن مقتل ستة أشخاص واصابة 80 آخرين، بينهم رعايا أوروبيون وأميركيون.
هذا الأمر دفع القضاء الكويتي إلى الحكم بالإعدام على المهندس بعد إدانته بالضلوع في تلك التفجيرات بصفة منفذ، لكن المهندس كان قد فر من الكويت بعد ساعات من التفجيرات إلى إيران عبر رحلة بحرية كان قد حجز تذكرة على متنها قبل يوم واحد من تنفيذ التفجيرات. واستقر هناك وتزوج من سيدة إيرانية تكبره بعدة سنوات واكتسب الجنسية الإيرانية، ثم عُيّن مستشاراً عسكرياً لدى قوات القدس التي كانت تتولى مهاجمة القوات العراقية المرابطة حول البصرة، مسقط رأسه.
وفي العام 1985، وجّهت النيابة العامة الكويتية له رسمياً تهمة التورط في محاولة الاغتيال الفاشلة التي استهدفت أمير البلاد الراحل جابر الأحمد، وبات منذ ذلك الحين ولا يزال المطلوب الأول لدى الكويتيين، وضمن القائمة الأميركية السوداء للمطلوبين بأعمال إرهابية، وسبق زعيم "القاعدة" السابق أسامة بن لادن في هذه القائمة.
وتولى المهندس في العام 1987 رسمياً منصب قائد فيلق بدر، ثم انتقل بعد سنوات للعمل بمفرده ضمن قوة مرتبطة بفيلق القدس أيضاً تُعرف باسم "التجمّع الإسلامي"، وشارك مع القوات الإيرانية في مهاجمة بلدات عراقية مختلفة مطلع العام 1988 ما أسفر عن مقتل المئات من المدنيين والعسكريين العراقيين.
في مارس/آذار من العام 2003 وعقب دخول القوات الأميركية العراق، عاد المهندس مستخدماً اسم جمال الإبراهيمي وترشّح في العام 2005 لانتخابات البرلمان العراقي عن قائمة حزب "الدعوة" بزعامة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وفاز في دائرته الانتخابية عن محافظة بابل.
لكن قوة تابعة لمشاة البحرية الأميركية اقتحمت مقر إقامته شرق بغداد بعد اكتشاف هويته، إلا أنه نجح بالفرار مرة أخرى إلى إيران بعد أشهر من تخفّيه خارج العراق ومطاردة الأميركيين له. ولم يدخل العراق إلا بعد انسحاب القوات الأميركية شتاء العام 2010، إذ كان يقوم بزيارات قصيرة سرعان ما يعود إلى طهران بعدها.
ولم يشفع للمهندس تنفيذه عمليات عسكرية ضد الجيش العراقي عقب غزوه الكويت من خلال ضرب عدد من المخافر والمراكز القريبة من شبه جزيرة الفاو، إذ فشلت وساطات عدة طيلة السنوات الماضية في دفع الكويت لإسقاط الحكم بحقه، كما رفضت الشرطة الدولية (الانتربول) رفع اسمه من قائمة المطلوبين الخطرين لديها على مستوى العالم.
أما في مؤتمره الصحفي الأول الذي عقده مساء الخميس، وقدّمه بصفة نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي التي تضم نحو 70 ألف مقاتل، هاجم المهندس السعودية والولايات المتحدة التي وصفها بالممول والداعم لـ"داعش".
وأضاف خلال المؤتمر الصحافي "يوم أمس قتلنا سعوديين في بلدة المعتصم، والسعوديون حاضرون كمموّلين ومقاتلين وانتحاريين في "داعش"، ولا نعلم إذا كان تواجدهم بعلم السلطات السعودية أم لا".
وأشار إلى أن "المقاتلين الأجانب قليلون في "داعش"، لأن التنظيم لجأ إلى تجنيد شباب المناطق التي يسيطر عليها"، معلناً "السعي لإكمال تطهير محافظة صلاح الدين، في فترة لن تتجاوز مدة الأسبوعين"، مضيفاً "لا علاقة لنا بالغرب وتقديراته التي حددت مهلة ثلاث سنوات لتحرير كامل المدن العراقية".
ويضع المهندس اليوم أرقام هواتف علنية عبر بيانات صحفية وملصقات إعلانية عريضة في شوارع بغداد، ويدعو عبرها من يصفهم بـ"المؤمنين الشيعة" للتطوّع، كما يقوم بزيارات ميدانية إلى القواعد العسكرية ومراكز الشرطة، ووجّه أخيراً بمعاقبة ضباط برتب مختلفة، ما أجّج المخاوف في الشارع العراقي من عودة المهندس مطلع العام الجديد بقوة، متهمين إياه بأنه قارع طبول الحرب الطائفية في العراق.
عودة المهندس اليوم إلى بغداد وفي ظهور مفاجئ من داخل المنطقة الخضراء وبمنصب نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي التي تتألف من 42 ميليشيا تساند القوات الحكومية النظامية في حربها ضد تنظيم "داعش"، وبصلاحيات مطلقة ممنوحة له، أمور قد تؤدي إلى توتر في العلاقات الكويتية العراقية، كما أنها قد تعيد حسابات الولايات المتحدة والغرب بجدية العبادي وتعهداته السابقة بالإصلاح وتغيير نهج حكومة المالكي في إدارة الدولة ضمن السياقات الدستورية والقانونية.