بقدر ما أعادت حادثة قتل المراهق الأميركي الأسود، مايكل براون، على يد شرطي أبيض في مدينة فيرغسون في ولاية ميزوري الأميركية، تسليط الأضواء مجدداً على مسألة العنصرية والتمييز العرقي في الولايات المتحدة، خصوصاً ضد السود، فإنها أثارت انتباه المجتمع الأميركي، بكل فئاته، إلى مسألة "عسكرة" الأمن الداخلي الأميركي، بما في ذلك أجهزة الشرطة البلدية والولائية (شرطة كل ولاية أميركية).
بعد مقتل براون (18 عاماً)، في التاسع من الشهر الجاري، في حادثة لا تزال ملابساتها غير واضحة تماماً، قامت مظاهرات معظمها سلمية، مترافقة مع بعض الشغب، في تلك المدينة الأميركية الصغيرة ذات الغالبية السوداء - (حوالى 22 ألف نسمة، منهم 67.4% سود، و29.3% بيض، وذلك حسب إحصائيات 2010) - فما كان من السلطات المحلية وسلطات الولاية، إلا أن ردّت بنشر عناصر الأمنين المحلي والولائيِّ في محاولة لاحتواء الغضب.
واللافت في هذا السياق، نوعية العتاد العسكري وحجمه الذي ظهرت به قوات الأمن، ما أثار نقاشاً في دوائر الحكومة والكونغرس الفدراليين، فضلاً عن الإعلام والمنظمات المدنية والحقوقية، حول عسكرة الشرطة المدنية في الولايات المتحدة.
قوات الأمن في فيرغسون، نزلت إلى الشوارع مرتدية زياً مموهاً لمكافحة الشغب وبتشكيلات شبه عسكرية، ومسلحة ببنادق "M4"، وقاذفات قنابل، وكواتم صوت، واستخدمت غازات مسيلة للدموع، ورصاصاً مطاطياً، كما أنها نشرت عربات عسكرية مصفحة، وأخرى مدرعة في شوارع المدينة. والملاحظ هنا، أن هذه الأسلحة التي انتشرت في الشوارع، هي من ذات النوع، الذي كانت تستخدمه القوات العسكرية الأميركية في حربي العراق وأفغانستان.
تسليح من المؤسسة العسكرية
هذا المشهد المخيف الذي ظهرت به الشرطة في فيرغسون، سلط الضوء على برنامج يديره البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) واسمه "برنامج 1033"، وبمقتضاه يقوم البنتاغون بنقل عتاد عسكري إلى أجهزة الأمن الأميركي الداخلية. وحسب معطيات هذا البرنامج، فإن عام 2006، مثلاً، شهد تحويل ما قيمته 33 مليون دولار تقريباً، من العتاد العسكري من المؤسسة العسكرية إلى أجهزة الأمن المحلية والولائية، في حين شهد عام 2013 قفزة كبيرة في قيمة العتاد المحول لتتجاوز 420 مليون دولار أميركي. واستناداً إلى ذات معطيات هذا البرنامج، فإنه ومنذ بدء العمل به منذ عقدين، تجاوزت قيمة العتاد العسكري الذي حول إلى أجهزة الأمن الأميركي الداخلية (من غير الفدرالية) الخمسة مليارات دولار.
بداية هذا البرنامج كانت مطلع تسعينيات القرن الماضي، وذلك عندما أقره الكونغرس لتمكين أجهزة الأمن الداخلي من التصدي لعصابات العنف والمخدرات، الذين كانوا أحياناً يتفوقون عليها تسليحياً. ثمّ تضاعفت أهمية هذا البرنامج وتسارعت وتيرته في مرحلة ما بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، وإطلاق إدارة الرئيس السابق، جورج بوش، لما سمّته "الحرب على الإرهاب".
ورغم أن وتيرة العنف في الولايات المتحدة، بما في ذلك الإرهاب المحلي، تقلّصت إلى أدنى درجاتها منذ الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، إلا أن شهية أجهزة الأمن الداخلي المختلفة على التمتع بقوة نارية متفوقة لم تتراجع، خصوصاً في المدن الكبرى. ومنذ تولي باراك أوباما للرئاسة، عام 2009، فإن البنتاغون، نقل إلى إدارات الشرطة المحلية والولائية، عشرات الآلاف من البنادق الآلية وأكثر من 200 ألف مخزن ذخيرة، والآلاف من الزي العسكري ومعدات الرؤية الليلية، فضلاً عن المئات من كواتم الصوت والعربات المصفحة والمدرعات والطائرات.
تلاشي الفواصل بين الشرطي والعسكري
مستوى التسليح هذا ونوعيته، دفعا أعضاءً في الكونغرس إلى التحذير من أن هذه "العسكرة" لأجهزة الأمن الداخلية، المحلية والولائية، أصبحت مشكلة بدل أن تكون حلاً، وهو الأمر الذي وافقهم عليه وزير العدل الأميركي، إيريك هولدر، إذ قال في بيان له في الثالث والعشرين من الشهر الجاري، بأن "إعطاء هذا السلاح لأجهزة الأمن الداخلي كان بغرض مكافحة الإرهاب، غير أنه أصبح يستخدم الآن ضد تظاهرات سلمية أيضاً".
في السياق ذاته، تحدث اتحاد الحريات المدنية الأميركية، محذراً من تحول الأحياء الأميركية إلى ساحات حرب، تعامل أجهزة الشرطة بموجبها المواطنين الأميركيين كأعداء لا مواطنين، خصوصاً من أبناء الأقليات. ولفت الاتحاد إلى تلاشي الفواصل، الآخذة في التعزز منذ هجمات أيلول 2001، ما بين دور رجل الأمن والعسكري، محذراً في ذات الوقت من أن "يتحول دور الشرطة إلى شن حرب على الشعب بدل حمايته".
أوباما يأمر بمراجعة البرنامج
وأمام الصور المروعة التي نقلتها شاشات التلفزة الأميركية من مدينة فيرغسون، التي تظهر تصدي أجهزة أمنية بتشكيلات وعتاد وزي شبه عسكري لمتظاهرين سلميين، وأمام ضغوط أعضاء في الكونغرس ووسائل إعلام ومنظمات مدنية، أمر الرئيس الأميركي، يوم الأحد الفائت، وزارة الدفاع بمراجعة برنامجها لتزويد أجهزة الأمن المحلية والولائية بالمعدات والعتاد العسكري.
وحسب قرار المراجعة، فإن "على وزارة الدفاع أن تتأكد ما إذا كانت تلك الأجهزة الأمنية تتمتع بالتدريب والإشراف الكافيين للتعامل مع هذا العتاد، وما إذا كانت الحكومة الفدرالية تراقب كيفية استخدام تلك المعدات التي تقدمها لهم.
وتبقى المشكلة أن الحكومة الفدرالية لا تملك سلطات مباشرة على أجهزة الأمن المحلية (لا الفدرالية)، والتي تتبع لسلطات بلدية، أو ولائية، وبالتالي فإنه وبدون تشريع جديد من الكونغرس الأميركي، لفرض مزيد من القيود على سلطات الأجهزة الأمنية المحلية والولائية، فإن الولايات المتحدة ستستمر في السير على طريق تعزيز عسكرتها.