12 أكتوبر 2024
أحضان أوروبا الباردة
فجأة تمترس الجميع وراء الخوف، فسقطت الأقنعة... لم تكن جحافل المهاجرين الهاربين الذين طلبوا اللجوء في حمى القارة الأوروبية، وخصوصا الجزء الشمالي منها، على رأسه ألمانيا، سوى لفحة الهواء التي أسقطت ورقة التوت في عز برد الشتاء، فبانَت، بجلاء، هشاشة الشعارات والقوانين التي طالما أظهرت الغرب، عموماً، أكثر رحمة والتزاما من كيانات كثيرة أخرى...
بعيداً عن الجدل الذي تثيره مقولة "الأقربون أولى بالمعروف"، والتي تعيقها في ظرف المنطقة الراهن معوّقات جمة، جعلت جل المهاجرين، أنفسهم، يستنكفون عن طلب اللجوء إلى دول المنطقة، ويختارون ركوب المخاطر، بعيداً، حيث كل شيء جديد، في القارة القديمة، ولهم أسبابهم التي يمكن تفهّمها... يبدو أن الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تترنح تحت مفعولها أغلب بلدان القارة جعلت حظ الهاربين من بلدانهم، من جحيم الحرب وتمظهراتها، حظا عاثرا بكل المواصفات... مكاناً وزماناً، وعددا، ومزاجا، ولم يختاروا أيّاً من ذلك، وإنما هي غريزة البقاء التي دفعتهم إلى مصير متلوّن بكل الألوان، ما عدا الوردي...
لم يكن صعود اليمين المتطرف في أوروبا حدثاً مفاجئاً، طازجاً، وإنما شعور تنامى، وتوجّهٌ تفاعل َعلى نار هادئة، خلال أكثر من عقد، قبل أن يظهر إلى العلن بفجاجة وقوة، تزامنتا مع التطورات الدراماتيكية المزلزلة التي تمر بها المنطقة العربية، والأمران مترابطان ولو تعسّفيا، بلا أدنى شك... "الجبهة الوطنية" في فرنسا، وحزب استقلال بريطانيا وحزب الفجر الذهبي في اليونان وحزب من أجل الحرية في هولندا وحزب المصلحة الفلاندرية في بلجيكا و"الحرية" النمساوي … وحركة "يوبيك" في المجر وحزب اليمين الجديد في بولندا وحزب الشعب الدنماركي وحزب الديمقراطيين السويديين وحزب الفنلنديين الحقيقيين… كلها أحزاب وحركات يجمعها عداؤها المهاجرين عموماً، والمسلمين خصوصاً. في ركوبها على السياق الاقتصادي، متخذة شعارا لها، مقولة أن للمواطن "الأصلي" الأولوية في الثروة والموارد بلا منازع، وأنه يكاد يصبح أقلية في أرضه، بسبب سياسات متساهلة، غفلت عن خطر داهم أمداً طويلاً، وتراه الشعوب الأوروبية اليوم ماثلاً أمامها، ولم يتوان السفير السابق للاتحاد الأوروبي لدى تركيا، مارك بياريني، عن الذهاب إلى حد التحذير من احتمال انهيار الاتحاد في غضون أشهر، وليس سنوات. فليس غريبا أن تحصد أحزاب اليمين المتطرف، بهذا الشعار، الأصوات المرتجفة، وتدخل البرلمان الأوروبي الذي يرسم صورة مصغرة، ولكن حقيقية، لمزاج أوروبا بأكمها... وفي الوجه الآخر للعملة عقيدة مخيفة متنامية بأن أوروبا للأوروبيين، عرقاً، ولونا ودينا، أولاً وأخيراً، وأن كل ما مضى تغيرت مفاعيله، وهوَت مبرراته التاريخية والجغرافية، بل تحوّل إلى خطر، لم يُقرع جرسه في أوانه، وتوجبت محاصرته، ولن يكون إلا بجهد جماعي، وصوت واحد تتعالى نبرته الآن بلا مواربة، وتنسجم بشكل متزايد، مع تواتر التقارير والدراسات المنصبّة على الوجود الإسلامي خصوصاً، وعلى تداعياته الآنية والمحتملة، معززة بأرقام "مفزعة"، تقدر بأكثر من خمسين مليوناً، عدد المسلمين الذين يستوطنون بلدان القارة...وقفزت معها إلى واجهة الخطاب السياسي والإعلامي تعبيرات ومسميات تبدأ من "أسلمة أوروبا"، وتذهب إلى حدود "جمهورية فرنسا الإسلامية" (!)، في لعب واضح على وتر الفزع، والخوف من الذوبان وغريزة الانتماء...
أكثر زعماء تلك الأحزاب والحركات شجاعة يتحدثون عن خطر "المهاجرين"، بشكل هلامي
مطاط متعمَّد، لكن المستهدف الحقيقي ليس سوى المهاجر المسلم، ولعله من سوء حظ مسلمي أوروبا أن العنف المتزايد في المناطق التي ينحدرون منها، والذي امتد إلى قلب العواصم والمدن التي يعيشون فيها، "مواطنين" أو مهاجرين غير شرعيين، لم يسعفهم للدفاع عن أنفسهم، عن هويتهم وثقافتهم وسلوكهم، على الرغم من حملات مستمرة لإسقاط الشبهة العامة التي يُراد إلصاقها بالـ "مسلم" مطلقاً، أينما وُجد، وأيا كان وضعه ودرجة اندماجه... بقيت تلك الحملات تتحرك داخل فضاء يزداد عدوانية، وأغلبها بجهود فردية أو جماعية محدودة التأثير.. فيما انتظم "أصحاب الأرض" في كيانات تتوالد وتنسق بشكل جيد، وتوحّد شعاراتها، وتتناسى أحقادها التاريخية داخل أوروبا، تقاتلت قرونا... لتلتفّ حول "العدوّ المشترك" راهناً ومستقبلا، وفي نسق تصاعدي مواكب للأحداث، منذ صائفة السنة الماضية تحديداً، فخلعت أوروبا ثوبها الناعم، واستبدلته بآخر خشن الملمس، وكشرت عن أنيابها، بمظاهراتٍ بدت شعبية، "تلقائية" في البداية، ضد وصول الآلاف من المهاجرين، مطعَّمة بمظاهرات مناوئة للأولى، ترحب بالمهاجرين "الإخوة في الإنسانية"، لزوم وجه أوروبا الحضاري وقوة القانون... ثم تدرّج إلى مؤتمرات عاجلة لمواجهة طوفان الهاربين من جحيم العنف والجوع والموت، تخرجُ ببيانات مهادنة متفهمة حينا، مهددة مقرّعة حينا آخر، إلى الضرب في صميم المنظومة القانونية نفسها، عملاً بمقولة "آخر الطب الكيّ"... لـ"تعديلها"، وقد سنحت الفرصة أخيراً، بما يواكب المرحلة، بدأتها ألمانيا، قاطرة أوروبا، والتحقت طائعةً دول أوروبا الشمالية باحتشام، لن يطول على الأرجح، فمن كان يتصور يوماً أن تصل قسوة الواقعية السياسية إلى أن تستحوذ سلطات النرويج مثلاً، أو الدنمارك أو السويد على ما بحوزة المهاجر/ المهجَّر من دُريهمات أو قطع ذهبية، هي كل ما خرج به من بلد وحياة، انتهت في حدودٍ، على أمل أن تبدأ من جديد على حدود أخرى، لم تعد كما كانت، في مخيلة قاصديها...وتتحجج تلك السلطات بأنها ستستعين بتلك "الموجودات" في التكفل بالمهاجرين وتوفير مستلزمات وجودهم المؤقت على أراضيها...
بلغ هذا العرض المتصاعد في إيقاعه ذروته السبت الماضي بمظاهرات عارمة شهدتها 15 عاصمة أوروبية، في استعراض رهيب، للتنديد والتعبير عن رفض استقبال اللاجئين طوعاً أو كرهاً، فيما توعدت حركة "بيغيدا" الألمانية المتطرفة بمظاهرة مليونية، مصابة بعدوى المليونيات، في وجه ما تسميه صراحة "خطر اجتياح المسلمين ألمانيا"، بعد وصول مليون ومائة ألف منهم عام 2015. ولنا أن نتخيل بقية السيناريو ونصّه الواضح، الذي يعيد التذكير بأن تلك دول فيها حكومات، تُنصِت إلى مواطنيها، وتطوّع سياساتها وبرامجها، وتغير قوانينها، إن لزم الأمر، وفقاً لما يطلبه هؤلاء المواطنون... فمن يستمع إلى مواطني دول الضفة الأخرى؟ قبل أن يُلقي من بقي منهم بأنفسهم على شواطئ باردة، بلا رمال... تلفظهم حتى قبل أن يدركوها.
بعيداً عن الجدل الذي تثيره مقولة "الأقربون أولى بالمعروف"، والتي تعيقها في ظرف المنطقة الراهن معوّقات جمة، جعلت جل المهاجرين، أنفسهم، يستنكفون عن طلب اللجوء إلى دول المنطقة، ويختارون ركوب المخاطر، بعيداً، حيث كل شيء جديد، في القارة القديمة، ولهم أسبابهم التي يمكن تفهّمها... يبدو أن الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تترنح تحت مفعولها أغلب بلدان القارة جعلت حظ الهاربين من بلدانهم، من جحيم الحرب وتمظهراتها، حظا عاثرا بكل المواصفات... مكاناً وزماناً، وعددا، ومزاجا، ولم يختاروا أيّاً من ذلك، وإنما هي غريزة البقاء التي دفعتهم إلى مصير متلوّن بكل الألوان، ما عدا الوردي...
لم يكن صعود اليمين المتطرف في أوروبا حدثاً مفاجئاً، طازجاً، وإنما شعور تنامى، وتوجّهٌ تفاعل َعلى نار هادئة، خلال أكثر من عقد، قبل أن يظهر إلى العلن بفجاجة وقوة، تزامنتا مع التطورات الدراماتيكية المزلزلة التي تمر بها المنطقة العربية، والأمران مترابطان ولو تعسّفيا، بلا أدنى شك... "الجبهة الوطنية" في فرنسا، وحزب استقلال بريطانيا وحزب الفجر الذهبي في اليونان وحزب من أجل الحرية في هولندا وحزب المصلحة الفلاندرية في بلجيكا و"الحرية" النمساوي … وحركة "يوبيك" في المجر وحزب اليمين الجديد في بولندا وحزب الشعب الدنماركي وحزب الديمقراطيين السويديين وحزب الفنلنديين الحقيقيين… كلها أحزاب وحركات يجمعها عداؤها المهاجرين عموماً، والمسلمين خصوصاً. في ركوبها على السياق الاقتصادي، متخذة شعارا لها، مقولة أن للمواطن "الأصلي" الأولوية في الثروة والموارد بلا منازع، وأنه يكاد يصبح أقلية في أرضه، بسبب سياسات متساهلة، غفلت عن خطر داهم أمداً طويلاً، وتراه الشعوب الأوروبية اليوم ماثلاً أمامها، ولم يتوان السفير السابق للاتحاد الأوروبي لدى تركيا، مارك بياريني، عن الذهاب إلى حد التحذير من احتمال انهيار الاتحاد في غضون أشهر، وليس سنوات. فليس غريبا أن تحصد أحزاب اليمين المتطرف، بهذا الشعار، الأصوات المرتجفة، وتدخل البرلمان الأوروبي الذي يرسم صورة مصغرة، ولكن حقيقية، لمزاج أوروبا بأكمها... وفي الوجه الآخر للعملة عقيدة مخيفة متنامية بأن أوروبا للأوروبيين، عرقاً، ولونا ودينا، أولاً وأخيراً، وأن كل ما مضى تغيرت مفاعيله، وهوَت مبرراته التاريخية والجغرافية، بل تحوّل إلى خطر، لم يُقرع جرسه في أوانه، وتوجبت محاصرته، ولن يكون إلا بجهد جماعي، وصوت واحد تتعالى نبرته الآن بلا مواربة، وتنسجم بشكل متزايد، مع تواتر التقارير والدراسات المنصبّة على الوجود الإسلامي خصوصاً، وعلى تداعياته الآنية والمحتملة، معززة بأرقام "مفزعة"، تقدر بأكثر من خمسين مليوناً، عدد المسلمين الذين يستوطنون بلدان القارة...وقفزت معها إلى واجهة الخطاب السياسي والإعلامي تعبيرات ومسميات تبدأ من "أسلمة أوروبا"، وتذهب إلى حدود "جمهورية فرنسا الإسلامية" (!)، في لعب واضح على وتر الفزع، والخوف من الذوبان وغريزة الانتماء...
أكثر زعماء تلك الأحزاب والحركات شجاعة يتحدثون عن خطر "المهاجرين"، بشكل هلامي
بلغ هذا العرض المتصاعد في إيقاعه ذروته السبت الماضي بمظاهرات عارمة شهدتها 15 عاصمة أوروبية، في استعراض رهيب، للتنديد والتعبير عن رفض استقبال اللاجئين طوعاً أو كرهاً، فيما توعدت حركة "بيغيدا" الألمانية المتطرفة بمظاهرة مليونية، مصابة بعدوى المليونيات، في وجه ما تسميه صراحة "خطر اجتياح المسلمين ألمانيا"، بعد وصول مليون ومائة ألف منهم عام 2015. ولنا أن نتخيل بقية السيناريو ونصّه الواضح، الذي يعيد التذكير بأن تلك دول فيها حكومات، تُنصِت إلى مواطنيها، وتطوّع سياساتها وبرامجها، وتغير قوانينها، إن لزم الأمر، وفقاً لما يطلبه هؤلاء المواطنون... فمن يستمع إلى مواطني دول الضفة الأخرى؟ قبل أن يُلقي من بقي منهم بأنفسهم على شواطئ باردة، بلا رمال... تلفظهم حتى قبل أن يدركوها.