لا يمكن النظر للانقسام الفلسطيني الحاصل من رؤية تبسيطية سطحية، تختزل الانقسام في صورة صراع على السلطة أو خلاف حول بعض الاجتهادات السياسية، أو شخصنته على اعتبار أن للانقسام رموزاً وأعلاماً ما فتئت تذكر الفلسطيني وتوقظ وعيه بالانقسام وتفاصيله التي لا تنتهي، ورغم أنه قد يكون لكل ذلك نصيب بطريقة أو أخرى، إلا أن المعضلة الأساسية تتمثل في رؤية كل طرف للمصالحة ومفهوم إنهاء الانقسام، وهو ما انعكس على أدوات الطرفين واستراتيجيتهما في إدارة الانقسام والسعي إلى إنهائه.
تنطلق السلطة الفلسطينية وحركة فتح من رؤية مفادها بأنها قائدة المشروع الوطني، وصاحبة الشرعية المُعترف بها دولياً ولها أحقية التمثيل الخارجي حصراً من دون تجزئته أو تعدد شخوصه، وما جرى في يونيو/حزيران 2007 بعد فوز حماس في الانتخابات الشرعية وما أعقبها من صدامات تدحرجت إلى أن سيطرت "حماس" على غزة، خروجاً عن الشرعية الفلسطينية، وبالتالي فإن المصالحة تعني عودة السلطة إلى قطاع غزة، وعودة الأوضاع إلى ما قبل 2007 مع تجاوز أو تجاهل كل الوقائع التي ترسخت في قطاع غزة على طول سنوات الانقسام، سواء ما تعلق بالمقاومة وبنيتها التحتية، أو بالسلطة ومؤسساتها المدنية والأمنية، بينما ترى حركة حماس في المصالحة تحقيقاً لمبدأ الشراكة الوطنية على أساس برنامج القواسم المشتركة الذي يتفق عليه الكل الفلسطيني، وتحمّل المسؤوليات الوطنية وتوزيع الأعباء، وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بما يضمن تمثيل حقيقي لكل أطياف الشعب الفلسطيني، على ذلك تصرف الطرفان بما ينسجم مع هذه الرؤية المتناقضة ووظفا أدواتهما بما يتناغم مع السعي نحو تحقيق أهدافهما والتي يبدوا أنها لن تتحقق في الأفق المنظور.
فتح وأدواتها
تسلحت السلطة الفلسطينية وحركة فتح بطيف واسع من الأدوات، خاصة بعد انحسار الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي والانقلاب العسكري في مصر عام 2013، والتي كرست فضاءً إقليمياً معادياً أو أكثر عدائية في ظل بيئة دولية إما جزء منها معاد أو على الأقل غير مُرحِب، تميزت أدوات السلطة بأبعادها المحلية أو الذاتية، والإقليمية، والدولية، مع بعد خاص يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل.
تمثلت أدوات السلطة المحلية بما يمكن أن نطلق عليه أدوات اتفاق أوسلو، فقد تأسست السلطة الفلسطينية بمرجعياتها ومؤسساتها الخدماتية والأمنية والاقتصادية كمخرجات لاتفاق أوسلو بصبغة قانونية مُعترف بها دولياً، وعندما شاركت حركة حماس في الانتخابات عام 2006 لم تخرج عن هذا السياق، ولم تؤسس لسلطة بديلة مستقلة، ولم يكن بمقدورها فعل ذلك، بل انخرطت بما هو موجود مع بقاء المؤسسات الخدماتية كالبنوك والهيئات المدنية التي يتعلق عملها بالمعاملات الخارجية، تحت إشراف السلطة التي تحولت إلى جزء من المنظومة الدولية المتعارف عليها، وعندما قررت السلطة فرض عقوبات على غزة أشهرت سيف أدوات أوسلو، فقلصت الرواتب، ومنعت أو وضعت قيوداً صارمة على التحويلات المالية عبر البنوك، ووظفت صلاحياتها في وقف إصدار جوازات السفر لفئات محددة، وقلصت التحويلات العلاجية للخارج.
ومن الأدوات ذات البعد المحلي محاولة إرباك الساحة الداخلية في قطاع غزة وضرب المنظومة الأمنية في القطاع، من خلال تحريض بعض المجموعات على القيام ببعض عمليات الإرباك المحدودة بتفجير عبوات صغيرة في أماكن مفتوحة، أو إحراق بعض الممتلكات لشخصيات محددة، أو تحريض الموظفين ممن يتلقون رواتب من رام الله على التجمهر والتظاهر تحت طائلة قطع رواتبهم أو تقليصها، واختراق بعض المجموعات السلفية أو حتى تنظيم بعضها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وتوجيهها لتنفيذ عمليات تفجير وتخريب لأهداف أمنية أو رسمية تابعة للسلطة في غزة، أو تصفية أو اغتيال شخصيات من حركة حماس أو قيادات في الأجهزة الأمنية، وهو ما تمثل بشكل واضح في محاولة اغتيال قائد الأجهزة الأمنية في قطاع غزة اللواء توفيق أبو نعيم في مخيم النصيرات في 16 تشرين الأول/أكتوبر 2017 والتي أدت إلى إصابته بجروح طفيفة، والتي تبين من تحقيقات الأجهزة الأمنية في غزة أن شخصية أمنية كبيرة من جهاز المخابرات في رام الله وجهت مجموعة سلفية لتنفيذ محاولة الاغتيال، وفي محاولة أخرى لإحداث فوضى شاملة في القطاع أمرت قيادة حركة فتح والسلطة في رام الله وبإصرار أنصار حركة فتح المؤيدين للرئيس عباس في غزة بالخروج إلى ساحة "السرايا" للاحتفال بانطلاقة حركة فتح في 7 كانون الثاني/يناير 2019 رغماً عن قرار وزارة الداخلية في غزة بمنع الفعالية، وكان من الواضح أن الدعوة للتظاهر هو مخطط من قيادة السلطة لإحداث حالة صدام ميداني بين أنصار الحركة والأجهزة الأمنية في غزة يتم استغلالها وتوظيفها لطلب تدخل عربي أو استجلاب قوات دولية تفضي إلى تغيير الواقع السياسي في القطاع، وهو ما كانت واعية له قيادة الحركة في القطاع ورفضت من دون تردد التعاطي معه أو الخضوع لتهديدات بعض قيادات السلطة ضد الحركة وقياداتها في غزة.
البعد الإقليمي لأدوات السلطة يتعلق بطبيعة النظام العربي الإقليمي الرسمي الخاضع للنفوذ الأميركي والذي تربط معظم دوله علاقات سرية وعلنية مع إسرائيل، وقد استغلت السلطة اقتصار اعتراف الإقليم بالسلطة إما لدوافع ذاتية أو خضوعاً للرغبة الأميركية الإسرائيلية في ممارسة ضغوط على هذه الدول متسلحة بالإسناد الأميركي أو برضا أو أمر إسرائيلي في إحكام الحصار على قطاع غزة وعلى حركة حماس خصوصاً، ولطالما تحركت السلطة تجاه النظام المصري لإغلاق معبر رفح أو إحباط أي علاقة اقتصادية تحت شعار أنها صاحبة السلطة الشرعية وأن القرار النهائي المتعلق بالصلاحيات ذات المضمون السيادي يعود للسلطة وحدها، ومن جانب آخر نشطت الدبلوماسية الفلسطينية الرسمية في إحباط أي علاقة رسمية أو غير رسمية بين حركة حماس كسلطة أو حركة مقاومة، وقد نجحت في أحايين متعددة في إفشال لقاءات أو زيارات أو مساعي لنسج أي علاقة رسمية بمضامين سياسية أو غير رسمية بين الإقليم وحركة حماس.
البعد الدولي الذي كان من المُفترض أن تتحرك في إطاره حركة حماس بحرية أكبر مستندةً إلى تأييد أو على الأقل تعاطف أغلب قطاعات الشعوب، وقوى مجتمع مدني، وحركات متعاطفة، خاصة الدول الإسلامية منها، كان أيضاً هدفاً للسلطة الفلسطينية بأدواتها التمثيلية والقنصلية، وتمكنت بشكلٍ كبير من إفشال مخططات الحركة في بناء جسور تواصل، مع بعض الاستثناءات، وما ساعدها على ذلك تناغم تحركاتها مع المساعي الدبلوماسية الأميركية والإسرائيلية والفضاء الغربي الخاضع للنفوذ أو الابتزاز الأميركي والذي لا يرى في حركة حماس إلا حركة إسلامية "إرهابية" متطرفة.
أما البعد الإسرائيلي فهو الأداة الأهم لدى السلطة الفلسطينية في مواجهة حركة حماس، إما بالإملاء أو بالتوافق على أرضية أن الحركة والسلطة التي تديرها في غزة هي عدو للطرفين، فالسلطة في رام الله هي في النهاية تحت الضغط الإسرائيلي، لأن اتفاق أوسلو وواقع السلطة في الضفة الغربية بعد عام 2007 لم يترك هامشاً للسلطة، مما أفقدها استقلالية قرارها السياسي والأمني، لذلك من العبث اعتبار أن ما يصدر عن السلطة في رام الله بعيداً عن قناة التنسيق المفتوحة على مصراعيها مع الطرف الإسرائيلي، وفي أفضل الأحوال فإن إسرائيل تغض الطرف أو راضية، وبالنظر إلى العلاقة مع قطاع غزة وحركة حماس، خاصة موضوع المصالحة، ورزمة عقوبات السلطة بعد مارس/آذار 2017 فإن إسرائيل حاضرة وبقوة وبكافة التفاصيل.
حماس وأدواتها
رغم هامش الخيارات الضيق أمام حركة حماس، والبيئة الإقليمية والدولية المعادية أو غير المكترثة، إلا أن الحركة لم تعدم وسائلها في معركة الانقسام، وفي مواجهة خطوات السلطة العقابية ضد قطاع غزة، ومن أهمها الضغط على إسرائيل، و"الانفتاح" على مصر، وتعزيز الجبهة الداخلية في قطاع غزة.
رأت حماس في إسرائيل الطرف الأكثر مساهمةً في الانقسام وديمومته وإن لم تظهر في الواجهة، بنفوذها وأدواتها على السلطة الفلسطينية ومعظم دول الإقليم، وبالتالي فإن الضغط على إسرائيل يعنى الضغط على الأطراف الأخرى التي تساهم أو تدعم الانقسام أو أحد أطرافه، وقد استغلت حماس عدم رغبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لأسباب خاصة به، أو لأسباب وتحديات إقليمية أكثر أولوية في خوض حرب جديدة وإن كان يتوقعها ويستعد لها، لذلك ابتكرت مع فصائل المقاومة الأخرى مسيرات العودة وكسر الحصار على الحدود الشرقية على قطاع غزة، التي انطلقت في 30 مارس/ آذار 2018 و بلغت ذروتها في ذكرى النكبة، مع بعض فعاليات المقاومة الشعبية المربكة للاحتلال ولسكان مستوطنات غلاف غزة، والتي استمرت أسبوعياً في كل يوم جمعة، واكب ذلك خمس جولات تصعيد لم يرغب أي طرف في أن تتطور إلى حرب ولكنها شكلت ضغطاً سياسياً ومادياً ومعنوياً على إسرائيل.
وبالنسبة إلى مصر فقد توجهت الحركة نحو النظام المصري والذي يتعامل مع السلطة في قطاع غزة بحكم الأمر الواقع على أرضية المصالح المشتركة، فلدى المصريين مصلحة في الحيلولة دون انفجار الأوضاع في القطاع بحيث تصل شظاياه إلى مصر، ورغبة الجيش المصري في ضبط الحدود وعدم تسرب أنصار تنظيم الدولة عبر الأنفاق في الاتجاهين، وقد فتحت الحركة خطوطاً مع تيار القيادي المطرود من "فتح" محمد دحلان، ووصلت إلى تفاهمات معه بوساطة جهاز المخابرات المصرية العامة، لكن التفاهمات اصطدمت برفض محمود عباس لها وتحريض الأميركيين والإسرائيليين لها وهو ما أحبطها وأجهضها في بداياتها.
وتلوّح "حماس" سراً وعلانية بورقة تيار دحلان في وجه عباس والسلطة وحركة "فتح"، لكن هذه الأداة حين تستخدمها "حماس" فإنها تغضب بعض حلفائها في المنطقة، ولذلك فإنها ليست أداة مثالية بشكل كامل.
ومن الوسائل الأخرى التي وظفتها حركة حماس؛ الاهتمام بالجبهة الداخلية في القطاع والعمل على تماسكها وتحصينها من الاختراق الأمني، ورفع الروح المعنوية للجماهير، والتي راهنت القيادة الصهيونية وقيادة السلطة في رام الله على تفجيرها وتمردها على السلطة في غزة بفعل العقوبات الاقتصادية التصاعدية، وسياسة قطع الرواتب أو تقليصها، والمس بالطبقات الفقيرة، وناورت حماس إعلامياً وتعبوياً وتربوياً وسياسياً لتعزيز شرعيتها والمحافظة على الالتفاف الجماهيري من خلال ترسيخ مفهوم تمسكها بالثوابت الفلسطينية وعدم التفريط تلميحاً وتصريحاً، وإصرارها على خيار المقاومة بالقول والفعل من خلال تطوير القدرات الذاتية العسكرية وبناء بنية تحتية للمقاومة شبه علنية التي لا تخفى على أي مواطن في القطاع، كما وظفت الحركة الخطاب الديني التعبوي الحماسي الذي يجد قبولاً في مجتمع محافظ مثل قطاع غزة، واستندت في ذلك إلى شبكة واسعة من المساجد والمؤسسات الملحقة بها والتي تنتشر في كل حي في القطاع، والمخيمات الصيفية للأطفال، والمهرجانات، وحتى الأفراح.
معركة إنهاء الانقسام حسب رؤية كل طرف لن تنتهي حسب المعطيات على أرض الواقع إلا بالفصل الكامل، وهو جوهر مخطط صفقة القرن، والذي تطبقه إسرائيل والولايات المتحدة بخطوات عملية على أرض الواقع بتوظيف أدواتها على السلطة الفلسطينية في رام الله وبعض الأطراف العربية المشاركة أو المتواطئة، إلا إذا حدثت مفاجآت غير متوقعة.
تنطلق السلطة الفلسطينية وحركة فتح من رؤية مفادها بأنها قائدة المشروع الوطني، وصاحبة الشرعية المُعترف بها دولياً ولها أحقية التمثيل الخارجي حصراً من دون تجزئته أو تعدد شخوصه، وما جرى في يونيو/حزيران 2007 بعد فوز حماس في الانتخابات الشرعية وما أعقبها من صدامات تدحرجت إلى أن سيطرت "حماس" على غزة، خروجاً عن الشرعية الفلسطينية، وبالتالي فإن المصالحة تعني عودة السلطة إلى قطاع غزة، وعودة الأوضاع إلى ما قبل 2007 مع تجاوز أو تجاهل كل الوقائع التي ترسخت في قطاع غزة على طول سنوات الانقسام، سواء ما تعلق بالمقاومة وبنيتها التحتية، أو بالسلطة ومؤسساتها المدنية والأمنية، بينما ترى حركة حماس في المصالحة تحقيقاً لمبدأ الشراكة الوطنية على أساس برنامج القواسم المشتركة الذي يتفق عليه الكل الفلسطيني، وتحمّل المسؤوليات الوطنية وتوزيع الأعباء، وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بما يضمن تمثيل حقيقي لكل أطياف الشعب الفلسطيني، على ذلك تصرف الطرفان بما ينسجم مع هذه الرؤية المتناقضة ووظفا أدواتهما بما يتناغم مع السعي نحو تحقيق أهدافهما والتي يبدوا أنها لن تتحقق في الأفق المنظور.
فتح وأدواتها
تسلحت السلطة الفلسطينية وحركة فتح بطيف واسع من الأدوات، خاصة بعد انحسار الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي والانقلاب العسكري في مصر عام 2013، والتي كرست فضاءً إقليمياً معادياً أو أكثر عدائية في ظل بيئة دولية إما جزء منها معاد أو على الأقل غير مُرحِب، تميزت أدوات السلطة بأبعادها المحلية أو الذاتية، والإقليمية، والدولية، مع بعد خاص يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل.
تمثلت أدوات السلطة المحلية بما يمكن أن نطلق عليه أدوات اتفاق أوسلو، فقد تأسست السلطة الفلسطينية بمرجعياتها ومؤسساتها الخدماتية والأمنية والاقتصادية كمخرجات لاتفاق أوسلو بصبغة قانونية مُعترف بها دولياً، وعندما شاركت حركة حماس في الانتخابات عام 2006 لم تخرج عن هذا السياق، ولم تؤسس لسلطة بديلة مستقلة، ولم يكن بمقدورها فعل ذلك، بل انخرطت بما هو موجود مع بقاء المؤسسات الخدماتية كالبنوك والهيئات المدنية التي يتعلق عملها بالمعاملات الخارجية، تحت إشراف السلطة التي تحولت إلى جزء من المنظومة الدولية المتعارف عليها، وعندما قررت السلطة فرض عقوبات على غزة أشهرت سيف أدوات أوسلو، فقلصت الرواتب، ومنعت أو وضعت قيوداً صارمة على التحويلات المالية عبر البنوك، ووظفت صلاحياتها في وقف إصدار جوازات السفر لفئات محددة، وقلصت التحويلات العلاجية للخارج.
ومن الأدوات ذات البعد المحلي محاولة إرباك الساحة الداخلية في قطاع غزة وضرب المنظومة الأمنية في القطاع، من خلال تحريض بعض المجموعات على القيام ببعض عمليات الإرباك المحدودة بتفجير عبوات صغيرة في أماكن مفتوحة، أو إحراق بعض الممتلكات لشخصيات محددة، أو تحريض الموظفين ممن يتلقون رواتب من رام الله على التجمهر والتظاهر تحت طائلة قطع رواتبهم أو تقليصها، واختراق بعض المجموعات السلفية أو حتى تنظيم بعضها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وتوجيهها لتنفيذ عمليات تفجير وتخريب لأهداف أمنية أو رسمية تابعة للسلطة في غزة، أو تصفية أو اغتيال شخصيات من حركة حماس أو قيادات في الأجهزة الأمنية، وهو ما تمثل بشكل واضح في محاولة اغتيال قائد الأجهزة الأمنية في قطاع غزة اللواء توفيق أبو نعيم في مخيم النصيرات في 16 تشرين الأول/أكتوبر 2017 والتي أدت إلى إصابته بجروح طفيفة، والتي تبين من تحقيقات الأجهزة الأمنية في غزة أن شخصية أمنية كبيرة من جهاز المخابرات في رام الله وجهت مجموعة سلفية لتنفيذ محاولة الاغتيال، وفي محاولة أخرى لإحداث فوضى شاملة في القطاع أمرت قيادة حركة فتح والسلطة في رام الله وبإصرار أنصار حركة فتح المؤيدين للرئيس عباس في غزة بالخروج إلى ساحة "السرايا" للاحتفال بانطلاقة حركة فتح في 7 كانون الثاني/يناير 2019 رغماً عن قرار وزارة الداخلية في غزة بمنع الفعالية، وكان من الواضح أن الدعوة للتظاهر هو مخطط من قيادة السلطة لإحداث حالة صدام ميداني بين أنصار الحركة والأجهزة الأمنية في غزة يتم استغلالها وتوظيفها لطلب تدخل عربي أو استجلاب قوات دولية تفضي إلى تغيير الواقع السياسي في القطاع، وهو ما كانت واعية له قيادة الحركة في القطاع ورفضت من دون تردد التعاطي معه أو الخضوع لتهديدات بعض قيادات السلطة ضد الحركة وقياداتها في غزة.
البعد الإقليمي لأدوات السلطة يتعلق بطبيعة النظام العربي الإقليمي الرسمي الخاضع للنفوذ الأميركي والذي تربط معظم دوله علاقات سرية وعلنية مع إسرائيل، وقد استغلت السلطة اقتصار اعتراف الإقليم بالسلطة إما لدوافع ذاتية أو خضوعاً للرغبة الأميركية الإسرائيلية في ممارسة ضغوط على هذه الدول متسلحة بالإسناد الأميركي أو برضا أو أمر إسرائيلي في إحكام الحصار على قطاع غزة وعلى حركة حماس خصوصاً، ولطالما تحركت السلطة تجاه النظام المصري لإغلاق معبر رفح أو إحباط أي علاقة اقتصادية تحت شعار أنها صاحبة السلطة الشرعية وأن القرار النهائي المتعلق بالصلاحيات ذات المضمون السيادي يعود للسلطة وحدها، ومن جانب آخر نشطت الدبلوماسية الفلسطينية الرسمية في إحباط أي علاقة رسمية أو غير رسمية بين حركة حماس كسلطة أو حركة مقاومة، وقد نجحت في أحايين متعددة في إفشال لقاءات أو زيارات أو مساعي لنسج أي علاقة رسمية بمضامين سياسية أو غير رسمية بين الإقليم وحركة حماس.
البعد الدولي الذي كان من المُفترض أن تتحرك في إطاره حركة حماس بحرية أكبر مستندةً إلى تأييد أو على الأقل تعاطف أغلب قطاعات الشعوب، وقوى مجتمع مدني، وحركات متعاطفة، خاصة الدول الإسلامية منها، كان أيضاً هدفاً للسلطة الفلسطينية بأدواتها التمثيلية والقنصلية، وتمكنت بشكلٍ كبير من إفشال مخططات الحركة في بناء جسور تواصل، مع بعض الاستثناءات، وما ساعدها على ذلك تناغم تحركاتها مع المساعي الدبلوماسية الأميركية والإسرائيلية والفضاء الغربي الخاضع للنفوذ أو الابتزاز الأميركي والذي لا يرى في حركة حماس إلا حركة إسلامية "إرهابية" متطرفة.
أما البعد الإسرائيلي فهو الأداة الأهم لدى السلطة الفلسطينية في مواجهة حركة حماس، إما بالإملاء أو بالتوافق على أرضية أن الحركة والسلطة التي تديرها في غزة هي عدو للطرفين، فالسلطة في رام الله هي في النهاية تحت الضغط الإسرائيلي، لأن اتفاق أوسلو وواقع السلطة في الضفة الغربية بعد عام 2007 لم يترك هامشاً للسلطة، مما أفقدها استقلالية قرارها السياسي والأمني، لذلك من العبث اعتبار أن ما يصدر عن السلطة في رام الله بعيداً عن قناة التنسيق المفتوحة على مصراعيها مع الطرف الإسرائيلي، وفي أفضل الأحوال فإن إسرائيل تغض الطرف أو راضية، وبالنظر إلى العلاقة مع قطاع غزة وحركة حماس، خاصة موضوع المصالحة، ورزمة عقوبات السلطة بعد مارس/آذار 2017 فإن إسرائيل حاضرة وبقوة وبكافة التفاصيل.
حماس وأدواتها
رغم هامش الخيارات الضيق أمام حركة حماس، والبيئة الإقليمية والدولية المعادية أو غير المكترثة، إلا أن الحركة لم تعدم وسائلها في معركة الانقسام، وفي مواجهة خطوات السلطة العقابية ضد قطاع غزة، ومن أهمها الضغط على إسرائيل، و"الانفتاح" على مصر، وتعزيز الجبهة الداخلية في قطاع غزة.
رأت حماس في إسرائيل الطرف الأكثر مساهمةً في الانقسام وديمومته وإن لم تظهر في الواجهة، بنفوذها وأدواتها على السلطة الفلسطينية ومعظم دول الإقليم، وبالتالي فإن الضغط على إسرائيل يعنى الضغط على الأطراف الأخرى التي تساهم أو تدعم الانقسام أو أحد أطرافه، وقد استغلت حماس عدم رغبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لأسباب خاصة به، أو لأسباب وتحديات إقليمية أكثر أولوية في خوض حرب جديدة وإن كان يتوقعها ويستعد لها، لذلك ابتكرت مع فصائل المقاومة الأخرى مسيرات العودة وكسر الحصار على الحدود الشرقية على قطاع غزة، التي انطلقت في 30 مارس/ آذار 2018 و بلغت ذروتها في ذكرى النكبة، مع بعض فعاليات المقاومة الشعبية المربكة للاحتلال ولسكان مستوطنات غلاف غزة، والتي استمرت أسبوعياً في كل يوم جمعة، واكب ذلك خمس جولات تصعيد لم يرغب أي طرف في أن تتطور إلى حرب ولكنها شكلت ضغطاً سياسياً ومادياً ومعنوياً على إسرائيل.
وبالنسبة إلى مصر فقد توجهت الحركة نحو النظام المصري والذي يتعامل مع السلطة في قطاع غزة بحكم الأمر الواقع على أرضية المصالح المشتركة، فلدى المصريين مصلحة في الحيلولة دون انفجار الأوضاع في القطاع بحيث تصل شظاياه إلى مصر، ورغبة الجيش المصري في ضبط الحدود وعدم تسرب أنصار تنظيم الدولة عبر الأنفاق في الاتجاهين، وقد فتحت الحركة خطوطاً مع تيار القيادي المطرود من "فتح" محمد دحلان، ووصلت إلى تفاهمات معه بوساطة جهاز المخابرات المصرية العامة، لكن التفاهمات اصطدمت برفض محمود عباس لها وتحريض الأميركيين والإسرائيليين لها وهو ما أحبطها وأجهضها في بداياتها.
وتلوّح "حماس" سراً وعلانية بورقة تيار دحلان في وجه عباس والسلطة وحركة "فتح"، لكن هذه الأداة حين تستخدمها "حماس" فإنها تغضب بعض حلفائها في المنطقة، ولذلك فإنها ليست أداة مثالية بشكل كامل.
ومن الوسائل الأخرى التي وظفتها حركة حماس؛ الاهتمام بالجبهة الداخلية في القطاع والعمل على تماسكها وتحصينها من الاختراق الأمني، ورفع الروح المعنوية للجماهير، والتي راهنت القيادة الصهيونية وقيادة السلطة في رام الله على تفجيرها وتمردها على السلطة في غزة بفعل العقوبات الاقتصادية التصاعدية، وسياسة قطع الرواتب أو تقليصها، والمس بالطبقات الفقيرة، وناورت حماس إعلامياً وتعبوياً وتربوياً وسياسياً لتعزيز شرعيتها والمحافظة على الالتفاف الجماهيري من خلال ترسيخ مفهوم تمسكها بالثوابت الفلسطينية وعدم التفريط تلميحاً وتصريحاً، وإصرارها على خيار المقاومة بالقول والفعل من خلال تطوير القدرات الذاتية العسكرية وبناء بنية تحتية للمقاومة شبه علنية التي لا تخفى على أي مواطن في القطاع، كما وظفت الحركة الخطاب الديني التعبوي الحماسي الذي يجد قبولاً في مجتمع محافظ مثل قطاع غزة، واستندت في ذلك إلى شبكة واسعة من المساجد والمؤسسات الملحقة بها والتي تنتشر في كل حي في القطاع، والمخيمات الصيفية للأطفال، والمهرجانات، وحتى الأفراح.
معركة إنهاء الانقسام حسب رؤية كل طرف لن تنتهي حسب المعطيات على أرض الواقع إلا بالفصل الكامل، وهو جوهر مخطط صفقة القرن، والذي تطبقه إسرائيل والولايات المتحدة بخطوات عملية على أرض الواقع بتوظيف أدواتها على السلطة الفلسطينية في رام الله وبعض الأطراف العربية المشاركة أو المتواطئة، إلا إذا حدثت مفاجآت غير متوقعة.