27 سبتمبر 2018
أزمة تركيا.. وحيرتها
أنجز الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، طموحه بتحويل تركيا الى النظام الرئاسي، وبات يتحضّر لأنْ يصبح رئيساً كامل الصلاحيات. ليست المشكلة في النظام الرئاسي، حيث أن جزءاً من النظم الديمقراطية رئاسية، مثل أميركا. لكن للأمر معنى آخر في وضع تركيا، حيث كانت نظمها الدكتاتورية رئاسية، وأن فرض الديمقراطية كان يأتي بنظام برلماني. هذا ما أثار أحزاب المعارضة، لكنه كذلك ليس السبب الوحيد، لأنه لا بدّ من التمييز بين النظم الديمقراطية، حيث يكون الرئيس محاطاً بجملة قيود ومحدِّدات يقرّرها الدستور، وطموح أردوغان الذي أوحى بأنه يسير نحو بناء نظام استبدادي.
في كل الأحوال، كانت هذه الخطوة نتيجة ظروف نشأت خلال السنوات الأخيرة، دفعت أردوغان إلى أن يستعيد خطابه الأصولي (الإخواني)، وأن يشدِّد على ضرورة النظام الرئاسي الذي يظن أنه سيكون نظامه هو. والأمر هنا لا يتعلق بشخص، هو أردوغان، أو حتى حزب، هو العدالة والتنمية، بل يتعلق بأزمة تركيا التي لا تقبل أن تكون دولةً هامشية، ولا أن يجري استبعادها من تحديد مصائر العالم، وهي الدولة التي كانت إمبراطورية كبيرة، ووصلت من "التطور" ما يجعلها تفكّر في أن تكون قوةً عالمية. هي حيرة تركيا بين أن تظلّ تابعاً لأميركا والدول الرأسمالية، وهي المرفوضة في النادي الأوروبي (الاتحاد الأوروبي) على الرغم من أنها الدولة الثانية من حيث القوة في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وأن تتخذ مساراً يعيدها "قوة عظمى" (كما كتب داود أوغلو).
كان هذا الأمر ينعكس على "طبيعة" تركيا الداخلية، وتوجهاتها، وتحالفاتها، حيث وُضعت بين "الغرب" والشرق، وكان رفض الغرب لها يدفعها نحو الشرق. الأمر الذي كان ينعكس على التحالفات والطموحات، ولكن كذلك الأيديولوجيا الحاكمة، والهوية التي تتلفع بها، فالسير نحو الشرق ارتبط بنجاح حزب إسلامي كان قد أعلن ذاته علمانياً إثر الانشقاق عن حزب الرفاه الإسلامي (إخوان مسلمون)، وأقام استراتيجيته على أولوية العلاقة مع الشرق، على الرغم من أنه لم يلغ الطموح الأوروبي، واشتغل على أساس أن تصبح تركيا دولةً عظمى. ولقد ظهر، بعد الحرب الأميركية على العراق واحتلاله، الخلاف مع أميركا التي أخذت تحاصر تركيا، بعد أن كانت "حليفاً موثوقاً"، وهو ما دفع حزب العدالة والتنمية إلى تطوير العلاقة مع روسيا وإيران، وحاول أن يؤسس تحالفاً منها.
طموح دولة عظمى
ما يجب ملاحظته أن الاتجاه نحو الشرق قام على طموح تركي للهيمنة على المنطقة العربية، حيث طوّر الرئيس أردوغان علاقاته مع ليبيا معمر القذافي، ومع الخليج العربي، ومع شمال العراق (مسعود البرازاني). وكانت سورية هي المدخل الضروري لما سيجنيه من هذه العلاقات (مع الخليج خصوصاً)، حيث أقام تحالفاً وثيقاً مع النظام السوري، وباتت سورية مجالاً واسعاً للنشاط الاقتصادي للشركات التركية، ومدخلاً مهماً لتصدير السلع إلى الخليج العربي. وهي المرحلة التي قوّت من سيطرة أردوغان، ومع الأزمة المالية سنة 2008، دفعت البرجوازية التركية التي كانت تدعم الجيش (عكس برجوازية الأطراف والمدن الصغيرة التي دعمت أردوغان) إلى دعمه، حيث فتح لها سوقاً واسعاً.
هذه هي "المرحلة الذهبية" في صعود أردوغان، وقد جعلته قادراً على ضبط الجيش، وترتيب وضع الدولة بما يُبعد أثر المؤسس كمال أتاتورك كما كان يعتقد. وبات يحكم كـأنه "سلطان"، من دون أن يمتلك الصلاحيات التي تخوّله ذلك، حيث كان رئيس الوزراء (وهو داود أغلو) السلطة الرسمية، كونه رئيس الوزراء المنتخب من البرلمان. ونتيجة ذلك، ظل حزب العدالة والتنمية يحكم منذ سنة 2003. وكان الطموح إلى أن تتحوّل تركيا قوة اقتصادية كبيرة، والدولة إلى قوة عظمى، ككل الدول العظمى.
كان العقد الأول من القرن الحادي والعشرين يشير إلى صعود تركي لافت، وإلى نشوء "سياسات مستقلة" غيّرت من تموضع تركيا القديم حليفاً موثوقاً لأميركا في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي. عملت تركيا أردوغان لأن تكون قوة مستقلة، وأن تفرض وجودها العالمي في عالمٍ كان يشهد تحولات كبيرة نتيجة انهيار الاشتراكية وأزمة الرأسمالية. ولدى تركيا قدرات اقتصادية تسمح بأن ينشأ هذا الطموح.
انتكاسة سنة 2011
لكن هذه السيولة التي حدثت خلال العقد الأول هذا واجهت تحولاتٍ كسرتها، فقد خسرت استثماراتها في ليبيا، بعد أن انفجرت الثورة وتدخّل حلف شمال الأطلسي (الناتو). وعلى الرغم من محاولتها إقناع بشار الأسد بأن يحقق إصلاحات تنهي الثورة، وتمنع التدخلات الأميركية (كانت تتوهم أن أميركا تستعد لاستغلال الثورة من أجل التدخل)، فقد انقلب الأمر، وأصلاً فرضت الثورة وعنف النظام إغلاق الأراضي السورية، وبهذا خسرت تركيا استثماراتها وصادراتها في سورية وإليها، وخسرت الطريق الأسهل والأرخص لتصدير السلع إلى دول الخليج العربي (وكانت قد خسرت سنة 2009 العلاقة الاقتصادية مع الدولة الصهيونية). بهذا، فقدت كل المكاسب التي كانت قد حققتها، وأدت إلى انتعاش اقتصادها، وجذب البرجوازية لدعم النظام. وبعد ليبيا وسورية والخليج، خسرت مصر، بعد أن راهنت على نظام الإخوان المسلمين.
وإذا كانت تركيا تستفيد من الحصار المفروض على إيران، حيث كانت "مدخلها الاقتصادي"، وطوّرت علاقتها التجارية مع روسيا لتصبح الشريك التجاري الأول كبلد (فقط الاتحاد الأوروبي كمجموع هو الشريك التجاري الأول)، فقد فرضت التطورات العربية حدوث انتكاسةٍ لتركيا التي كانت تعتبر الشرق سوقها الأساس، و"القاعدة" التي ستقيم عليها قوتها العظمى. حيث أصبحت سورية خارج إطار المصالح التركية، نتيجة الصراع فيها، وخرجت ليبيا ومصر من أن تكون مجال استثمار تركي، وأصبح إرسال السلع إلى الخليج العربي يحتاج إلى طرق صعبة (شمال العراق مروراً بالعراق، أو عبر البحر إلى مصر ثم الخليج). لهذا، ومع تحولات الاقتصاد العالمي وأزماته، دخلت تركيا في مسار أزموي. خسرت أسواقاً أساسية بالنسبة لها، وأخذت تتحمّل أعداداً هائلة من اللاجئين السوريين، ومن التدخل في سورية. وهو الأمر الذي أدخل اقتصادها الذي كان الطموح أن يصبح اقتصاد قوةٍ عظمى، في أزمةٍ أخذت تتصاعد منذ سنة 2013 تقريباً. وباتت تربك سياساتها الخارجية، حيث هي بحاجة إلى استمرار العلاقة مع السوق الأوروبية، على الرغم من الخلافات الكثيرة مع دوله. وهي بحاجة إلى استمرار العلاقة مع إيران وروسيا، وهما ينافسانها على السيطرة في سورية. ولم يكن الوضع مع أميركا يشير إلى التحسّن، وخصوصاً أن هذه رفضت التدخل التركي في سورية، و"باعت" سورية لروسيا، وكانت خلال فترة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، تحاول تطوير العلاقة مع إيران.
كان ذلك كله يضع النظام والاقتصاد في وضعٍ مربك، ويؤشّر إلى تفاقم صراعات داخلية، وخصوصا حول السياسات المتبعة، والتي فرضت سير تركيا نحو الحصار متعدّد الأطراف، فقد فرض الصراع حول سورية (باتت مركز كل الاستراتيجية التركية، ومدخلها لتحوّل تركيا إلى دولة عظمى) تناقضات مع دول "حليفة"، وأدى إلى خسارات اقتصادية كبيرة (مع إيران، ومع روسيا). وكذلك إلى خوف من مصير مجهول.
أردوغان الأصولي
أول ما انعكس هذا الأمر كان على أردوغان نفسه، حيث بدأ يتلمس ضعف نظامه، ويتحسّس خسارة دعم البرجوازية التركية التي كان قد عبّر عن مصالحها، وهو يطمح في تحويل الشرق إلى إمبراطورية تركية خاصة. وكذلك فقدان الدعم الشعبي الذي جعله يحكم أكثر من عقد (أولاً عبر الرئيس السابق عبدالله غُلّ، ثم عبر أوغلو)، وبالتالي انهيار طموحاته الإمبراطورية.
لهذا أخذ أردوغان يعود إلى "أصوليته"، وهو ما ظهر في خطاباته، وميله إلى تعميم التديّن، والضغط من أجل فرض "قيم إسلامية". بمعنى أنه أخذ يُظهر وجه الأسلمة الذي كان حزبه قد "أخفاه"، وهو يتأسس على أساس علماني. ربما لم يكن القصد هو الإخفاء، حيث كان يبدو أن تركيا المتجهة نحو الشرق تتضمن قيم الغرب كذلك، من دون أن تتجاهل تراثها الإسلامي. عاد أردوغان يكرّر في خطاباته "قيما إسلامية"، ويزيد من الخطاب الديني، ويدفع إلى التمسك بقيم الإسلام. ولا شك في أن الأزمة التي دخلتها تركيا، سواء في الاقتصاد أو في علاقاتها الإقليمية والدولية، والشعور بالوهن الداخلي الذي يمكن أن يفضي إلى سقوط الحزب وأردوغان، هو الذي كان يفرض الإعلاء من خطابٍ أصولي، يحثّ على قيمٍ باتت من الماضي، وسلوكات تجاوزها الواقع، وذلك كله باسم الدين، بمعنى أن الأزمة باتت تُغطى بخطاب ديني.
أخذ أردوغان، في هذه المرحلة، يدعو إلى الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، وهو الأمر الذي كان يثير التخوّف، ويشي بأنه سائر نحو فرض سيطرة "الإخوان المسلمين" على النظام، والحكم بمنظورات هذه الجماعة. هذا هو المعنى الذي تسرَّب إلى قطاعات كبيرة من الشعب، وفي الجيش، ولدى الأحزاب المعارضة. وهنا، بات النظام الرئاسي يعني عودة الدكتاتورية، كما شهدتها تركيا في مراحل النظام الرئاسي المختلفة. ويعني أكثر انتصار دكتاتورية دينية أصولية. وقفت أحزاب المعارضة ضد محاولة الانقلاب العسكري لأنها ترفض الدكتاتورية، وخرج الشعب إلى الشوارع لمواجهة الانقلاب، لأنه لا يريد الدكتاتورية. وربما نتيجة التصويت على النظام الرئاسي، قد أوضحت ذلك، على الرغم من نجاح التصويت بنسبة ضئيلة.
ردود بنية الدولة "العميقة"
حدثت في ليلة 15/ 16 تموز/ يوليو سنة 2016 محاولة انقلاب عسكري فاشلة. وكانت تركيا قد دخلت في حصار شديد، حيث اصطدمت مع روسيا، وكان الوضع يُنذر بتطور الصدام إلى حربٍ بين البلدين، وظهر أن حلف الناتو ليس معنياً بالدفاع عن تركيا، وأصلاً كانت أميركا تحاصرها. وبذلك فقدت "آخر سند" لها، وظهرت محاصرةً "من كل الجهات". وقد أدى هذا الصدام إلى وقف التبادل التجاري بين البلدين كذلك، ما زاد من صعوبة وضع الاقتصاد التركي الذي كان قد خسر أسواقاً عديدة قبلئذ.
وإذا كان أردوغان قد عزا المحاولة إلى جماعة غولن الإسلامي المقيم في أميركا، والذي يمتلك مشاريع كثيرة في تركيا والعالم، وكان قد دعم حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأولى التي وصل فيها إلى الحكم، فإن الأمر يبدو أوسع منذ ذلك. ربما كان لغولن دور، لكن لا يمكن فصله عن رد الفعل الذي اخترق بنية الدولة على ضوء الأزمة الاقتصادية من طرفٍ، والميل "الأصولي" من طرف آخر، فقد تململت البرجوازية من سياسة قادت تركيا إلى العزلة، وأفضى الخطاب الأصولي إلى تخوّف كبير لدى هذه البرجوازية، وفي بنية الدولة، خصوصاً في الجيش الذي ظل يُعتبر "حامي العلمانية التركية". وعلى الرغم من الضربات التي وجهها أردوغان لكبار الضباط، فقد ظلت بنية الجيش أميل إلى أن تظل على قيم المؤسس الأول: أتاتورك.
لهذا، كانت الأزمة الاقتصادية من طرف والأسلمة من طرف آخر تدفعان الى تحرّك في الجيش "دفاعاً عن العلمانية"، لكنه في الواقع محاولة لإخراج تركيا من العزلة التي أوصلها إليها أردوغان، واستعادة موقعها "الطبيعي" مع أميركا وفي أوروبا، وكذلك إعادة تركيا إلى "مشكلات صفر"، الشعار الذي طرحه داود أوغلو لتركيا حزب العدالة والتنمية، وانتهى بمشكلات تحاصر الدولة. لا شك في أن مصالح تركيا كما تصوّرها أوغلو وأردوغان كانت تفرض السيطرة على الشرق، والتقارب مع روسيا وإيران، والتفاهم مع اليونان. وبالتالي، تجاوز كل المشكلات السابقة التي علقت بتركيا منذ عقود، لكن هذه المصالح مع تحولات المنطقة والعالم باتت تقود إلى العكس تماماً، حيث لا بدّ من ضمان ما حققته من مصالح في سورية، وبالتالي، خطوط التصدير إلى الخليج، وما حصلت عليه في مصر وليبيا، وتطوير العلاقة مع روسيا وإيران. لكن سورية كانت مركز تفجير كل تلك المصالح كما كانت مركز تحقيقها.
لكن الانقلاب فشل، بالضبط لأن البرجوازية (أو أقسام منها) لم تفقد الأمل بأردوغان، لكن لأن كل الشعب، وكل الأحزاب المعارضة هي ضد عودة الجيش إلى السلطة، حيث يبدو أن الصراع مع أردوغان أسهل من الصراع مع الجيش. ولأن تركيا تلوعت من حكم العسكر، وباتت معنيةً بانتصار الديمقراطية، الشعب المؤيد والمعارض نزل إلى الشوارع ضد الانقلاب وهزمه. لكن طموح أردوغان دفعه إلى أن يستغلّ ذلك من أجل "تصفية" خصومه في الجيش والقضاء والتعليم ومجمل إدارات الدولة، وأن يفرض "جوَّاً إرهابياً" على تركيا. ومن ثمَّ قرَّر الاستفتاء على تعديل الدستور، بما يجعل تركيا نظاماً رئاسياً.
نجح الاستفتاء بنسبة 51.3%، وهي نسبة ضعيفة لتغيير طابع النظام السياسي. وعلى الرغم من كل التشكّك الذي طاول احتمالات التزوير فيها، فإن الخوف آخذٌ في التسرّب إلى قطاعاتٍ مجتمعية رفضته، الخوف من "نظام ديني". لكن، مَنْ يضمن نجاح أردوغان في انتخابات رئاسية، بعد أن لم يحظ مقترحه إلا على هذه النسبة؟
تركيا في حيرة، بالضبط لأنها عاجزة عن أن تتحوّل دولة عظمى، وأن تبقى حليفاً لأميركا، أو تجد حلفاً مع روسيا، أن تصبح أوروبية أو أن تعود شرقية. وضعها الاقتصادي لا يؤهلها لأن تفرض ذاتها دولة عظمى، على الرغم من طموح برجوازية الأطراف فيها، وكانت برجوازيتها تتوهم أن في مقدورها ذلك، لكنها وجدت أنها تعاني من حصار قوي. وقد استطاع أردوغان أن يفرض طموحه بأن تتحوّل تركيا إلى نظام رئاسي، لكن ربما سيفضي هذا النجاح إلى هزيمته، فتركيا لا تبدو في وارد الانحدار نحو الأصولية، ولا شك في أن الفارق البسيط بين مؤيدي الاستفتاء ومعارضيه يعطي انطباعاً بأن النشاط المقبل سوف يتركز على منع وصول أردوغان إلى سدَّة الرئاسة عبر الانتخابات المباشرة. وبهذا، يكون قد مهَّد الطريق إلى دكتاتور آخر، فربما يكون وضع تركيا القلق، وحيرتها، والأزمات التي تدخلها تمهّد الطريق إلى الدكتاتورية في كل الأحوال. لكن، بالتأكيد ليست دكتاتورية أصولية.
في كل الأحوال، كانت هذه الخطوة نتيجة ظروف نشأت خلال السنوات الأخيرة، دفعت أردوغان إلى أن يستعيد خطابه الأصولي (الإخواني)، وأن يشدِّد على ضرورة النظام الرئاسي الذي يظن أنه سيكون نظامه هو. والأمر هنا لا يتعلق بشخص، هو أردوغان، أو حتى حزب، هو العدالة والتنمية، بل يتعلق بأزمة تركيا التي لا تقبل أن تكون دولةً هامشية، ولا أن يجري استبعادها من تحديد مصائر العالم، وهي الدولة التي كانت إمبراطورية كبيرة، ووصلت من "التطور" ما يجعلها تفكّر في أن تكون قوةً عالمية. هي حيرة تركيا بين أن تظلّ تابعاً لأميركا والدول الرأسمالية، وهي المرفوضة في النادي الأوروبي (الاتحاد الأوروبي) على الرغم من أنها الدولة الثانية من حيث القوة في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وأن تتخذ مساراً يعيدها "قوة عظمى" (كما كتب داود أوغلو).
كان هذا الأمر ينعكس على "طبيعة" تركيا الداخلية، وتوجهاتها، وتحالفاتها، حيث وُضعت بين "الغرب" والشرق، وكان رفض الغرب لها يدفعها نحو الشرق. الأمر الذي كان ينعكس على التحالفات والطموحات، ولكن كذلك الأيديولوجيا الحاكمة، والهوية التي تتلفع بها، فالسير نحو الشرق ارتبط بنجاح حزب إسلامي كان قد أعلن ذاته علمانياً إثر الانشقاق عن حزب الرفاه الإسلامي (إخوان مسلمون)، وأقام استراتيجيته على أولوية العلاقة مع الشرق، على الرغم من أنه لم يلغ الطموح الأوروبي، واشتغل على أساس أن تصبح تركيا دولةً عظمى. ولقد ظهر، بعد الحرب الأميركية على العراق واحتلاله، الخلاف مع أميركا التي أخذت تحاصر تركيا، بعد أن كانت "حليفاً موثوقاً"، وهو ما دفع حزب العدالة والتنمية إلى تطوير العلاقة مع روسيا وإيران، وحاول أن يؤسس تحالفاً منها.
طموح دولة عظمى
ما يجب ملاحظته أن الاتجاه نحو الشرق قام على طموح تركي للهيمنة على المنطقة العربية، حيث طوّر الرئيس أردوغان علاقاته مع ليبيا معمر القذافي، ومع الخليج العربي، ومع شمال العراق (مسعود البرازاني). وكانت سورية هي المدخل الضروري لما سيجنيه من هذه العلاقات (مع الخليج خصوصاً)، حيث أقام تحالفاً وثيقاً مع النظام السوري، وباتت سورية مجالاً واسعاً للنشاط الاقتصادي للشركات التركية، ومدخلاً مهماً لتصدير السلع إلى الخليج العربي. وهي المرحلة التي قوّت من سيطرة أردوغان، ومع الأزمة المالية سنة 2008، دفعت البرجوازية التركية التي كانت تدعم الجيش (عكس برجوازية الأطراف والمدن الصغيرة التي دعمت أردوغان) إلى دعمه، حيث فتح لها سوقاً واسعاً.
هذه هي "المرحلة الذهبية" في صعود أردوغان، وقد جعلته قادراً على ضبط الجيش، وترتيب وضع الدولة بما يُبعد أثر المؤسس كمال أتاتورك كما كان يعتقد. وبات يحكم كـأنه "سلطان"، من دون أن يمتلك الصلاحيات التي تخوّله ذلك، حيث كان رئيس الوزراء (وهو داود أغلو) السلطة الرسمية، كونه رئيس الوزراء المنتخب من البرلمان. ونتيجة ذلك، ظل حزب العدالة والتنمية يحكم منذ سنة 2003. وكان الطموح إلى أن تتحوّل تركيا قوة اقتصادية كبيرة، والدولة إلى قوة عظمى، ككل الدول العظمى.
كان العقد الأول من القرن الحادي والعشرين يشير إلى صعود تركي لافت، وإلى نشوء "سياسات مستقلة" غيّرت من تموضع تركيا القديم حليفاً موثوقاً لأميركا في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي. عملت تركيا أردوغان لأن تكون قوة مستقلة، وأن تفرض وجودها العالمي في عالمٍ كان يشهد تحولات كبيرة نتيجة انهيار الاشتراكية وأزمة الرأسمالية. ولدى تركيا قدرات اقتصادية تسمح بأن ينشأ هذا الطموح.
انتكاسة سنة 2011
لكن هذه السيولة التي حدثت خلال العقد الأول هذا واجهت تحولاتٍ كسرتها، فقد خسرت استثماراتها في ليبيا، بعد أن انفجرت الثورة وتدخّل حلف شمال الأطلسي (الناتو). وعلى الرغم من محاولتها إقناع بشار الأسد بأن يحقق إصلاحات تنهي الثورة، وتمنع التدخلات الأميركية (كانت تتوهم أن أميركا تستعد لاستغلال الثورة من أجل التدخل)، فقد انقلب الأمر، وأصلاً فرضت الثورة وعنف النظام إغلاق الأراضي السورية، وبهذا خسرت تركيا استثماراتها وصادراتها في سورية وإليها، وخسرت الطريق الأسهل والأرخص لتصدير السلع إلى دول الخليج العربي (وكانت قد خسرت سنة 2009 العلاقة الاقتصادية مع الدولة الصهيونية). بهذا، فقدت كل المكاسب التي كانت قد حققتها، وأدت إلى انتعاش اقتصادها، وجذب البرجوازية لدعم النظام. وبعد ليبيا وسورية والخليج، خسرت مصر، بعد أن راهنت على نظام الإخوان المسلمين.
وإذا كانت تركيا تستفيد من الحصار المفروض على إيران، حيث كانت "مدخلها الاقتصادي"، وطوّرت علاقتها التجارية مع روسيا لتصبح الشريك التجاري الأول كبلد (فقط الاتحاد الأوروبي كمجموع هو الشريك التجاري الأول)، فقد فرضت التطورات العربية حدوث انتكاسةٍ لتركيا التي كانت تعتبر الشرق سوقها الأساس، و"القاعدة" التي ستقيم عليها قوتها العظمى. حيث أصبحت سورية خارج إطار المصالح التركية، نتيجة الصراع فيها، وخرجت ليبيا ومصر من أن تكون مجال استثمار تركي، وأصبح إرسال السلع إلى الخليج العربي يحتاج إلى طرق صعبة (شمال العراق مروراً بالعراق، أو عبر البحر إلى مصر ثم الخليج). لهذا، ومع تحولات الاقتصاد العالمي وأزماته، دخلت تركيا في مسار أزموي. خسرت أسواقاً أساسية بالنسبة لها، وأخذت تتحمّل أعداداً هائلة من اللاجئين السوريين، ومن التدخل في سورية. وهو الأمر الذي أدخل اقتصادها الذي كان الطموح أن يصبح اقتصاد قوةٍ عظمى، في أزمةٍ أخذت تتصاعد منذ سنة 2013 تقريباً. وباتت تربك سياساتها الخارجية، حيث هي بحاجة إلى استمرار العلاقة مع السوق الأوروبية، على الرغم من الخلافات الكثيرة مع دوله. وهي بحاجة إلى استمرار العلاقة مع إيران وروسيا، وهما ينافسانها على السيطرة في سورية. ولم يكن الوضع مع أميركا يشير إلى التحسّن، وخصوصاً أن هذه رفضت التدخل التركي في سورية، و"باعت" سورية لروسيا، وكانت خلال فترة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، تحاول تطوير العلاقة مع إيران.
كان ذلك كله يضع النظام والاقتصاد في وضعٍ مربك، ويؤشّر إلى تفاقم صراعات داخلية، وخصوصا حول السياسات المتبعة، والتي فرضت سير تركيا نحو الحصار متعدّد الأطراف، فقد فرض الصراع حول سورية (باتت مركز كل الاستراتيجية التركية، ومدخلها لتحوّل تركيا إلى دولة عظمى) تناقضات مع دول "حليفة"، وأدى إلى خسارات اقتصادية كبيرة (مع إيران، ومع روسيا). وكذلك إلى خوف من مصير مجهول.
أردوغان الأصولي
أول ما انعكس هذا الأمر كان على أردوغان نفسه، حيث بدأ يتلمس ضعف نظامه، ويتحسّس خسارة دعم البرجوازية التركية التي كان قد عبّر عن مصالحها، وهو يطمح في تحويل الشرق إلى إمبراطورية تركية خاصة. وكذلك فقدان الدعم الشعبي الذي جعله يحكم أكثر من عقد (أولاً عبر الرئيس السابق عبدالله غُلّ، ثم عبر أوغلو)، وبالتالي انهيار طموحاته الإمبراطورية.
لهذا أخذ أردوغان يعود إلى "أصوليته"، وهو ما ظهر في خطاباته، وميله إلى تعميم التديّن، والضغط من أجل فرض "قيم إسلامية". بمعنى أنه أخذ يُظهر وجه الأسلمة الذي كان حزبه قد "أخفاه"، وهو يتأسس على أساس علماني. ربما لم يكن القصد هو الإخفاء، حيث كان يبدو أن تركيا المتجهة نحو الشرق تتضمن قيم الغرب كذلك، من دون أن تتجاهل تراثها الإسلامي. عاد أردوغان يكرّر في خطاباته "قيما إسلامية"، ويزيد من الخطاب الديني، ويدفع إلى التمسك بقيم الإسلام. ولا شك في أن الأزمة التي دخلتها تركيا، سواء في الاقتصاد أو في علاقاتها الإقليمية والدولية، والشعور بالوهن الداخلي الذي يمكن أن يفضي إلى سقوط الحزب وأردوغان، هو الذي كان يفرض الإعلاء من خطابٍ أصولي، يحثّ على قيمٍ باتت من الماضي، وسلوكات تجاوزها الواقع، وذلك كله باسم الدين، بمعنى أن الأزمة باتت تُغطى بخطاب ديني.
أخذ أردوغان، في هذه المرحلة، يدعو إلى الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، وهو الأمر الذي كان يثير التخوّف، ويشي بأنه سائر نحو فرض سيطرة "الإخوان المسلمين" على النظام، والحكم بمنظورات هذه الجماعة. هذا هو المعنى الذي تسرَّب إلى قطاعات كبيرة من الشعب، وفي الجيش، ولدى الأحزاب المعارضة. وهنا، بات النظام الرئاسي يعني عودة الدكتاتورية، كما شهدتها تركيا في مراحل النظام الرئاسي المختلفة. ويعني أكثر انتصار دكتاتورية دينية أصولية. وقفت أحزاب المعارضة ضد محاولة الانقلاب العسكري لأنها ترفض الدكتاتورية، وخرج الشعب إلى الشوارع لمواجهة الانقلاب، لأنه لا يريد الدكتاتورية. وربما نتيجة التصويت على النظام الرئاسي، قد أوضحت ذلك، على الرغم من نجاح التصويت بنسبة ضئيلة.
ردود بنية الدولة "العميقة"
حدثت في ليلة 15/ 16 تموز/ يوليو سنة 2016 محاولة انقلاب عسكري فاشلة. وكانت تركيا قد دخلت في حصار شديد، حيث اصطدمت مع روسيا، وكان الوضع يُنذر بتطور الصدام إلى حربٍ بين البلدين، وظهر أن حلف الناتو ليس معنياً بالدفاع عن تركيا، وأصلاً كانت أميركا تحاصرها. وبذلك فقدت "آخر سند" لها، وظهرت محاصرةً "من كل الجهات". وقد أدى هذا الصدام إلى وقف التبادل التجاري بين البلدين كذلك، ما زاد من صعوبة وضع الاقتصاد التركي الذي كان قد خسر أسواقاً عديدة قبلئذ.
وإذا كان أردوغان قد عزا المحاولة إلى جماعة غولن الإسلامي المقيم في أميركا، والذي يمتلك مشاريع كثيرة في تركيا والعالم، وكان قد دعم حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأولى التي وصل فيها إلى الحكم، فإن الأمر يبدو أوسع منذ ذلك. ربما كان لغولن دور، لكن لا يمكن فصله عن رد الفعل الذي اخترق بنية الدولة على ضوء الأزمة الاقتصادية من طرفٍ، والميل "الأصولي" من طرف آخر، فقد تململت البرجوازية من سياسة قادت تركيا إلى العزلة، وأفضى الخطاب الأصولي إلى تخوّف كبير لدى هذه البرجوازية، وفي بنية الدولة، خصوصاً في الجيش الذي ظل يُعتبر "حامي العلمانية التركية". وعلى الرغم من الضربات التي وجهها أردوغان لكبار الضباط، فقد ظلت بنية الجيش أميل إلى أن تظل على قيم المؤسس الأول: أتاتورك.
لهذا، كانت الأزمة الاقتصادية من طرف والأسلمة من طرف آخر تدفعان الى تحرّك في الجيش "دفاعاً عن العلمانية"، لكنه في الواقع محاولة لإخراج تركيا من العزلة التي أوصلها إليها أردوغان، واستعادة موقعها "الطبيعي" مع أميركا وفي أوروبا، وكذلك إعادة تركيا إلى "مشكلات صفر"، الشعار الذي طرحه داود أوغلو لتركيا حزب العدالة والتنمية، وانتهى بمشكلات تحاصر الدولة. لا شك في أن مصالح تركيا كما تصوّرها أوغلو وأردوغان كانت تفرض السيطرة على الشرق، والتقارب مع روسيا وإيران، والتفاهم مع اليونان. وبالتالي، تجاوز كل المشكلات السابقة التي علقت بتركيا منذ عقود، لكن هذه المصالح مع تحولات المنطقة والعالم باتت تقود إلى العكس تماماً، حيث لا بدّ من ضمان ما حققته من مصالح في سورية، وبالتالي، خطوط التصدير إلى الخليج، وما حصلت عليه في مصر وليبيا، وتطوير العلاقة مع روسيا وإيران. لكن سورية كانت مركز تفجير كل تلك المصالح كما كانت مركز تحقيقها.
لكن الانقلاب فشل، بالضبط لأن البرجوازية (أو أقسام منها) لم تفقد الأمل بأردوغان، لكن لأن كل الشعب، وكل الأحزاب المعارضة هي ضد عودة الجيش إلى السلطة، حيث يبدو أن الصراع مع أردوغان أسهل من الصراع مع الجيش. ولأن تركيا تلوعت من حكم العسكر، وباتت معنيةً بانتصار الديمقراطية، الشعب المؤيد والمعارض نزل إلى الشوارع ضد الانقلاب وهزمه. لكن طموح أردوغان دفعه إلى أن يستغلّ ذلك من أجل "تصفية" خصومه في الجيش والقضاء والتعليم ومجمل إدارات الدولة، وأن يفرض "جوَّاً إرهابياً" على تركيا. ومن ثمَّ قرَّر الاستفتاء على تعديل الدستور، بما يجعل تركيا نظاماً رئاسياً.
نجح الاستفتاء بنسبة 51.3%، وهي نسبة ضعيفة لتغيير طابع النظام السياسي. وعلى الرغم من كل التشكّك الذي طاول احتمالات التزوير فيها، فإن الخوف آخذٌ في التسرّب إلى قطاعاتٍ مجتمعية رفضته، الخوف من "نظام ديني". لكن، مَنْ يضمن نجاح أردوغان في انتخابات رئاسية، بعد أن لم يحظ مقترحه إلا على هذه النسبة؟
تركيا في حيرة، بالضبط لأنها عاجزة عن أن تتحوّل دولة عظمى، وأن تبقى حليفاً لأميركا، أو تجد حلفاً مع روسيا، أن تصبح أوروبية أو أن تعود شرقية. وضعها الاقتصادي لا يؤهلها لأن تفرض ذاتها دولة عظمى، على الرغم من طموح برجوازية الأطراف فيها، وكانت برجوازيتها تتوهم أن في مقدورها ذلك، لكنها وجدت أنها تعاني من حصار قوي. وقد استطاع أردوغان أن يفرض طموحه بأن تتحوّل تركيا إلى نظام رئاسي، لكن ربما سيفضي هذا النجاح إلى هزيمته، فتركيا لا تبدو في وارد الانحدار نحو الأصولية، ولا شك في أن الفارق البسيط بين مؤيدي الاستفتاء ومعارضيه يعطي انطباعاً بأن النشاط المقبل سوف يتركز على منع وصول أردوغان إلى سدَّة الرئاسة عبر الانتخابات المباشرة. وبهذا، يكون قد مهَّد الطريق إلى دكتاتور آخر، فربما يكون وضع تركيا القلق، وحيرتها، والأزمات التي تدخلها تمهّد الطريق إلى الدكتاتورية في كل الأحوال. لكن، بالتأكيد ليست دكتاتورية أصولية.