لم يواجه أي رئيس أميركي في التاريخ الحديث هذا الكم الهائل من الفضائح والأزمات والجروح الذاتية كالتي يمر بها دونالد ترامب في الأشهر الخمسة الأولى من ولايته. تجاوز الرفض الشعبي لأدائه نسبة الـ 60 في المائة، بحسب استطلاعات الرأي، وهو معدل غير مسبوق في بدايات عهد رئاسي. هوس ترامب بملف التحقيق بالتدخل الروسي في السياسة الأميركية يستنزف إدارته، ويدفعه إلى استعداء كل من يتحداه، والأهم من ذلك يطرح تساؤلات حول قدرته على الحكم.
ويخوض الرئيس الأميركي معارك مفتوحة ومتزامنة مع السلطة القضائية والإعلام ومكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي أي)، والبيروقراطية الأميركية التي تسمّى أحياناً بـ"الدولة العميقة". التسريبات لا تتوقف من داخل الإدارة. كل ما يحصل في دائرة ترامب الضيقة واجتماعاته الخارجية، وفي ملف التحقيق بالتدخل الروسي، يجد طريقه إلى العلن. الزعماء الأوروبيون يسخرون منه وهو يخاطبهم في قمة حلف شمال الأطلسي. رئيس الوزراء الأسترالي، مالكولم تورنبول، يقلّده في سهرة برلمانية، والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يتهكم عليه عارضاً "اللجوء السياسي" على مدير الـ"أف بي آي" المطرود، جيمس كومي. لم تكن قيادة أميركا يوماً على هذا القدر من العزلة والسخرية كما هي اليوم.
القاسم المشترك لكل من في دائرة ترامب الضيقة هو الحرص على توظيف محامٍ خاص، وعدم الاكتفاء بالمستشارين القانونيين في البيت الأبيض. خيوط الملف الروسي تطارد الجميع كالأخطبوط، لا أحد يعرف بشكل قاطع ما إذا كان سيخضع لتحقيق أم لا، وإذا لم يكن مشتبهاً به فهو حتماً شاهد يجب الاستماع إليه. تشتد الضغوط على ترامب بعد اتهامه بمحاولة إعاقة التحقيق، كما يدقق الـ"أف بي آي" في الصفقات التجارية التي عقدها صهره ومستشاره، جاريد كوشنر. الرئيس يرد بالمزيد من التصعيد ضد قيادات وزارة العدل، لكن أي خطوة باتجاه فصل المدعي الخاص، روبرت مولر، من منصبه ستكون بمثابة انتحار سياسي يقوّض ولاية ترامب ويدفع حلفاءه في الكونغرس إلى التخلي عنه. وأعلن ترامب، للمرة الأولى كما ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز"، أنه يخضع للتحقيق في ملف إقالته كومي. وكتب على حسابه على "تويتر"، من البيت الأبيض قبل مغادرته إلى ميامي، "أنا أخضع للتحقيق لإقالة مدير أف بي آي من الشخص الذي أخبرني أن أقيل مدير أف بي آي! هذا تنكيل". ويبدو أن سهام غضب ترامب موجهة نحو نائب وزير العدل، رود روزنستاين، الذي أوصى بإقالة كومي. ووصف، في تغريدة أخرى، التقارير الإعلامية التي قالت إنه يخضع لتحقيقات جنائية بشأن الملف الروسي بأنها "تنكيل" يمارسه ضده "أشرار". وقال "إنكم تشهدون أكبر عملية تنكيل في التاريخ السياسي الأميركي يقوده مجموعة من الأشرار".
إذا هذه التحديات القانونية لا تكفي، فاللائحة تطول. القرار التنفيذي بحظر سفر رعايا ست دول، ذات أغلبية مسلمة، إلى الولايات المتحدة خسر كل المعارك القضائية، وتم تجميده مرتين، وهو ينتظر مصيره النهائي الآن في المحكمة الدستورية العليا. للمرة الأولى في التاريخ الأميركي، استخدم قضاة فيدراليون تغريدة رئيس أميركي لإثبات حجتهم القانونية. المدعون العامون في ولايات ديمقراطية رفعوا أيضاً دعوى قضائية تقول إن ما تدفعه حكومات أجنبية لأعمال ترامب التجارية ينتهك بنود مكافحة الفساد في الدستور. هذا غير الدعاوى القضائية الموجهة إلى ترامب شخصياً قبل توليه السلطة، ولا تزال عالقة في المحاكم. في الأداء الرئاسي، الأمور ليست في أفضل حالاتها أيضاً. كل النصائح لترامب بأن يختصر استخدام "تويتر" على مخاطبة مناصريه وانتقاد الديمقراطيين لم تنفع. تغريدات منتصف الليل تفاجئ مستشاريه كما متابعيه، كما تكلفه سياسياً وقضائياً. في السياسة الخارجية، الرئيس يناقض الوزارات المعنية ويتخلى عن الثوابت الاستراتيجية الأميركية قبل أن يتراجع تحت ضغوط مستشاريه. أول جلسة حكومية عقدت الأسبوع الماضي ليتها لم تكن. توالى كل مسؤول حول الطاولة، من نائب الرئيس، مايك بنس، إلى كل الوزراء، على تقديم الطاعة للقائد المفدّى وشكره على فرصة خدمته، كأن اميركا تحوّلت إلى "جمهورية موز". وحده وزير الدفاع، جيمس ماتيس، حافظ على شرفه، واكتفى بشكر من يعملون تحت قيادته في البنتاغون.
تبحث الإدارة منذ أسابيع عن يوم واحد من دون دراما لتمرير جدول أعمالها. مشروع قانون تحديث البنى التحتية تهاوى أخيراً تحت ركام شهادة كومي أمام الكونغرس، وليس هناك من يستمع إلى فكرة النظام الضريبي الجديد، ونقض قانون الرعاية الصحية يخرج من نكسة ليدخل في أخرى. ترامب كان رئيساً فعلياً لساعات بعد إطلاق النار على نواب جمهوريين خلال تمرين رياضي، لكن بدل استغلال هذه اللحظة لإحياء رئاسته عاد سريعاً إلى أسلوبه الاعتيادي. وعلى الرغم من هوسه بإلغاء كل مفاعيل إرث سلفه، باراك أوباما، يكتشف ترامب يومياً أن عليه التعايش مع هذا الإرث: الاتفاق النووي مع إيران لا يمكن تمزيقه، واستراتيجية الحرب على تنظيم "داعش" لا تزال كما هي مع تعديلات تكتيكية فرضها الميدان، والسياسة حيال كوبا لم يتمكن من تغييرها، فاكتفى بإجراءات تضر بالمصالح التجارية الأميركية أكثر مما تضر بالسلطات الكوبية.
وبحسب استطلاع "غالوب"، فإن نسبة الجمهوريين الذين يعتقدون أن أميركا تسير على الطريق الصحيح في ظل قيادة ترامب انخفضت من 58 في المائة الشهر الماضي إلى 41 في المائة في يونيو/حزيران الحالي. أمام ترامب أقل من عام لالتقاط الأنفاس وتصويب المسار، وإلا ستأتي الانتخابات النصفية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 لتقدم الكونغرس هدية إلى الديمقراطيين. ويصر ترامب في هذه الأثناء على وضعية عدائية في مواجهة التحديات التي تحيط به، فهو لا يثق بالإدارة التي يقودها، وأغلبية المقار الدبلوماسية الأميركية حول العالم من دون سفراء، والتعيينات الإدارية لم تكتمل بعد وتعطّل قدرة الوزارات على أداء عملها. باختصار واشنطن في حال انتظار، أو ربما ترقب، لهذا السباق بين تبلور التحقيق في الملف الروسي وانتهاء ولاية ترامب المضطربة.