28 أكتوبر 2024
أسئلة ما بعد "نبع السلام"
حققت عملية "نبع السلام" العسكرية التركية هدفها الرئيس، القضاء على مشروع "الإدارة الذاتية" لحزب الاتحاد الديمقراطي، وفي المقابل أسّست لعملية رسم جديدة لخريطة النفوذ في عموم الشمال والشمال الشرقي من سورية، ولن يكون من السهل تحديد معالمها بدقة على الرغم من انجلاء جزء منها.
ما هو معطى، حتى الآن، أن الوحدات الكردية انهارت بوصفها مكونا عسكريا حاملا مضمونا سياسيا، بعد خسارتها أجزاء لا يستهان بها من الأراضي، وتوقف قوتها بعد انكشاف الغطاء الأميركي عنها جزئيا. وما سيحدث، على الأرجح، هو استيلاء النظام السوري بدعم روسي وتراخ أميركي على أجزاء أخرى من مناطق الوحدات الكردية خارج السياج الحدودي بشكل تدريجي. وتشير تحرّكات قوات النظام في الحسكة إلى محاولة السيطرة على كامل حدودها مع تركيا والعراق في آن، من دون الاقتراب من منابع النفط والغاز في هذه المرحلة. وستجعل هذه السيطرة على حدود الحسكة الدولية مع السيطرة على مناطق في وسط المحافظة النظام قادرا على تأمين طرق إمداد عسكرية، والتحرّك عبرها بسهولة شرقا وشمالا.
الأهمية الكبرى للنظام هي منابع النفط والغاز في الحسكة ودير الزور، ولكن مع بقاء الحضور الأميركي على الأرض، سيصعب عليه السيطرة على هذه النقاط الاقتصادية. ومن خلال
تصريحات الرئيس الأميركي، ترامب، ومسؤولين في إدارته، بعيد الكباش السياسي الأميركي ـ الأميركي، يبدو أن واشنطن قرّرت الاحتفاظ بجزء من قواتها العسكرية في التنف وفي محيط منابع النفط والغاز. وأول ترجمة عملية لذلك كانت مع قصف القوات الأميركية المتمركزة في حقول النفط في ريف دير الزور الشرقي مواقع في ناحية خشام التي تسيطر عليها قوات النظام السوري والمليشيات الإيرانية. وثاني ترجمة تتمثل في ما أعلنه السيناتور الجمهوري، ليندسي غراهام، أن قادة عسكريين أميركيين يعدون خطة من شأنها منع تنظيم الدولة الإسلامية من العودة إلى الظهور في سورية، ومنع وقوع النفط السوري في أيدي إيران أو التنظيم المتشدد، في وقت يقترح فيه المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية، جيمس جيفري، فكرة الفصل بين المقاتلين الأكراد والمقاتلين العرب في قوات سورية الديمقراطية (قسد) لبناء قوة مقاتلة لردع إيران، بعيداً عن الحدود التركية.
في ضوء ذلك، لا يبدو معروفا، في المديين القريب والمتوسط، مصير "قوات سوريا الديمقراطية": الانخراط الكامل في صفوف قوات النظام، أم المحافظة على خصوصيتها قوة عسكرية في بعض المناطق المهمة، وهو ما تريده واشنطن بحسب تصريحاتها، وما لا تريده روسيا وتركيا والنظام السوري. غير أن رسم معالم النفوذ في شرق الفرات لا يقتصر على ذلك، إذ يبدو أن ثمّة نزاعا سيتصدر الواجهة بين روسيا وتركيا ليس في الأجل القريب، محوره إعادة جزء من اللاجئين السوريين إلى المنطقة التي تسيطر عليها تركيا بين تل أبيض ورأس العين. وهذه هي المسألة المضمرة الخطيرة، والهدف الاستراتيجي الثاني لتركيا من عمليتها العسكرية، فمن وجهة نظر صناع القرار في أنقرة، لا تكفي شرعنة الوجود العسكري عبر الموافقة الأميركية ـ الروسية، ذلك أن التجربة السورية علمت الجميع عدم وجود ستاتيكو عسكري مستدام، وأن الأوضاع سرعان ما تتغير بشكل كبير. وعليه، تسعى تركيا إلى الحصول على شرعية أممية لوجودها العسكري، ولا يتم ذلك إلا بوجود أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين في المنطقة الآمنة، لأن وجودهم يتطلب تأمين الحماية لهم، ولا تسمح الوقائع سوى لتركيا بتحقيق هذه الحماية، وهكذا تكون تركيا عبر ورقة اللاجئين قد حققت ثلاثة أهداف:
تخفيف أعداد اللاجئين السوريين في أراضيها، الأمر الذي ينعكس إيجابا في الشارع التركي
سيكون لمصلحة حزب العدالة والتنمية. رسالة إلى المجتمع الدولي أن تركيا هي الدولة الوحيدة من بين الدول الفاعلة في الملف السوري، القادرة على إيجاد حل، ولو جزئي، لمشكلة اللاجئين السوريين المقيمين ليس في أراضيها فحسب، بل أيضا الموجودين في أوروبا. ويبدو أن هذه الرسالة لقيت آذانا صاغية في أوروبا، أولا عبر وزيرة الدفاع الألمانية، كرامب كارنباور، التي دعت إلى جعل المنطقة التي تسيطر عليها تركيا منطقة آمنة دولية، وثانيا عبر توجيه البرلمان الأوروبي طلبا لمجلس الأمن الدولي بإصدار قرار بإنشاء منطقة أمنية في شمال سورية، بموجب تفويض من الأمم المتحدة. وحتى ولو صدر قرار من مجلس الأمن الدولي بشأن هذه المنطقة، فسيكون لتركيا بحكم الجغرافيا الدور الأكبر في هذه المنطقة لو حصلت. وهذا سيؤدي إلى الهدف التركي الثالث، شرعنة وجودها في هذه المنطقة، تحسبا لمواجهة متوقعة مع روسيا في المراحل المقبلة، فموسكو، وإن قبلت بالوجود التركي في الشمال السوري، فإنها فعلت ذلك بحكم الأمر الواقع. ولكن في حال انسحبت الولايات المتحدة نهائيا من سورية، سوف يتغير الموقف الروسي حيال تركيا.
وأكثر ما تخشاه موسكو إعادة لاجئين سوريين إلى هذه المنطقة، وقد عبرت عن ذلك بشكل غير مباشر مرتين: الأولى، من خلال الفقرة الثامنة ضمن الاتفاق الروسي ـ التركي في سوتشي، وتنص على "بذل جهود مشتركة لتسهيل عودة اللاجئين بطريقة طوعية وآمنة"، وتعني هذه الفقرة أن مسألة إعادة اللاجئين يجب أن تكون طوعية وبإشراف روسي ـ تركي مشترك. الثانية، حين رفضت المقترح الألماني بتشكيل منطقة آمنة دولية، على اعتبار أن الوضع في سورية لا يتطلب إقامة مثل هذه المنطقة.
أمام هذه المعطيات، ستكون منطقة شرق الفرات بكاملها بؤرة الصراع في المرحلة المقبلة، ولكن هذه المرة ستكون بين ثلاثة لاعبين فقط: روسيا، الولايات المتحدة، تركيا.
الأهمية الكبرى للنظام هي منابع النفط والغاز في الحسكة ودير الزور، ولكن مع بقاء الحضور الأميركي على الأرض، سيصعب عليه السيطرة على هذه النقاط الاقتصادية. ومن خلال
في ضوء ذلك، لا يبدو معروفا، في المديين القريب والمتوسط، مصير "قوات سوريا الديمقراطية": الانخراط الكامل في صفوف قوات النظام، أم المحافظة على خصوصيتها قوة عسكرية في بعض المناطق المهمة، وهو ما تريده واشنطن بحسب تصريحاتها، وما لا تريده روسيا وتركيا والنظام السوري. غير أن رسم معالم النفوذ في شرق الفرات لا يقتصر على ذلك، إذ يبدو أن ثمّة نزاعا سيتصدر الواجهة بين روسيا وتركيا ليس في الأجل القريب، محوره إعادة جزء من اللاجئين السوريين إلى المنطقة التي تسيطر عليها تركيا بين تل أبيض ورأس العين. وهذه هي المسألة المضمرة الخطيرة، والهدف الاستراتيجي الثاني لتركيا من عمليتها العسكرية، فمن وجهة نظر صناع القرار في أنقرة، لا تكفي شرعنة الوجود العسكري عبر الموافقة الأميركية ـ الروسية، ذلك أن التجربة السورية علمت الجميع عدم وجود ستاتيكو عسكري مستدام، وأن الأوضاع سرعان ما تتغير بشكل كبير. وعليه، تسعى تركيا إلى الحصول على شرعية أممية لوجودها العسكري، ولا يتم ذلك إلا بوجود أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين في المنطقة الآمنة، لأن وجودهم يتطلب تأمين الحماية لهم، ولا تسمح الوقائع سوى لتركيا بتحقيق هذه الحماية، وهكذا تكون تركيا عبر ورقة اللاجئين قد حققت ثلاثة أهداف:
تخفيف أعداد اللاجئين السوريين في أراضيها، الأمر الذي ينعكس إيجابا في الشارع التركي
وأكثر ما تخشاه موسكو إعادة لاجئين سوريين إلى هذه المنطقة، وقد عبرت عن ذلك بشكل غير مباشر مرتين: الأولى، من خلال الفقرة الثامنة ضمن الاتفاق الروسي ـ التركي في سوتشي، وتنص على "بذل جهود مشتركة لتسهيل عودة اللاجئين بطريقة طوعية وآمنة"، وتعني هذه الفقرة أن مسألة إعادة اللاجئين يجب أن تكون طوعية وبإشراف روسي ـ تركي مشترك. الثانية، حين رفضت المقترح الألماني بتشكيل منطقة آمنة دولية، على اعتبار أن الوضع في سورية لا يتطلب إقامة مثل هذه المنطقة.
أمام هذه المعطيات، ستكون منطقة شرق الفرات بكاملها بؤرة الصراع في المرحلة المقبلة، ولكن هذه المرة ستكون بين ثلاثة لاعبين فقط: روسيا، الولايات المتحدة، تركيا.