ضد شماتة سوريين بحزب الله

26 سبتمبر 2024

مشهد من تشييع قياديَين في حزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت (22/9/2024 فرانس برس)

+ الخط -

صعبٌ جداً أن يُكتب في موضوع يتداخل فيه البعد النفسي بالأخلاقي، يتطلّب جهداً معرفياً يبحث فيما هو نفسي وفيما هو معياري، فمن شأن إيفاء البعد الأخلاقي وحده حقّه أن ينفي حقيقةَ المشاعرِ ودوافعها الفطرية، وإيفاء المشاعر وحدها حقّها قد يأتي، وهو كذلك، على حساب البعد الأخلاقي.

استنكرت الفلسفة الأخلاقية حالةَ الشماتةِ، فميّز آرتور شوبنهاور، على سبيل المثال، بين الغيرة والشماتة؛ الأولى طبيعية، والثانية شيطانية. وفي الشعر العربي قال الشاعر عبد اللَّه بن أبي عُيَينة: "كلّ المصائب قد تمرّ على الفتى/ فتهون غير شماتة الحسّاد. ... إنّ المصائب تنقضي أيّامُها/ وشماتة الأعداء بالمرصاد". وعلى صعيد الأديان، استنكرت المسيحية الشماتة، فقال يسوع: "أحبّوا أَعداءكُم، بارِكوا لاعنيكُم، أَحسنوا إِلى مُبغضيكم، وصلّوا لأجلِ الذين يُسيئون إِليكم ويطردونكم" (متّى 5: 43، 44). وفي القرآن الكريم: "إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" (الأعراف: 150). رفضت الأديان ظاهرة الشماتة من حيث المبدأ، وإنْ برّرتها في حالات معيّنة كما في الإسلام، فجاءت الشماتة تعبيراً عن حالة موضوعية محدّدة؛ أن يكون الطرف الذي تقع عليه الشماتة من خارج الأمَّة، وأن يكون هذا الطرف قد أوقع قتلاً بالطرف الشامت المظلوم، وأن يكون سببَ القتال بين الطرفَين مُتعلّقا بالإيمان والكفر: "قَٰتِلُوهُمۡ يُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَيۡدِيكُمۡ وَيُخۡزِهِمۡ وَيَنصُرۡكُمۡ عَلَيۡهِمۡ وَيَشۡفِ صُدُورَ قَوۡمٖ مُّؤۡمِنِينَ. وَيُذۡهِبۡ غَيۡظَ قُلُوبِهِمۡ وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" (التوبة: 14، 15).

فعل التشفي مرذول لأنّه قد ينحدر بأصحابه إلى مستويات لا تبدو مفهومة عقلياً وأخلاقياً

نظرياً، الشماتة فعلٌ منافٍ للأخلاق والقيم الإنسانية، لكن عملياً ثمّة صعوبة بالغة جدّاً، إن لم تكن مستحيلةً في مطالبة البشر (ضمن ظروف معينة) بالامتثال للمُثل الأخلاقية والعمل بمقتضاها، ذلك أنّ حضور القيم العُليا، أو الإنسان الأعلى وفق تعبير نيتشه، تبقى وفق الإمكان النظري الذي يصبو إليه الإنسان في إنسانيته، لكنّها تسقط في كثير من الأحيان على مذبح الواقع المُفتقِد للعدالة وللقيم الإنسانية، والممتلئ بالظلم، وما الشماتة إلّا فعل فطري. هنا نحن أمام توتّر معرفي ـ أخلاقي، فأيّهما المعيار؟ هل انفعالات الإنسان هي المعيار، أم المثال/ القيم هي المعيار ومناط السلوك؟ ... إنّ البعد الأخلاقي هو المعيار الأول والرئيس، وهو ما يجعل الإنسان إنساناً.

يظهر التوتّر اليوم خلال السجالات الحادّة في وسائل التواصل الاجتماعي بين جمهرة من السوريين أبناء الثورة، وبين فلسطينيين، حيال عمليات القتل التي يتعرّض لها عناصر حزب الله خلال قتالهم إسرائيل. فرح بعض السوريين وشمتوا بقتلى حزب الله بغضّ النظر عن الجهة القاتلة، وضمن أيّ منظومة سياسية وأخلاقية يجري فيها الصراع، لقد تجاهل هؤلاء إسرائيل عدوّاً وجوديّاً للأمة العربية، وبتجاهلهم هذا ظهروا مؤيدين لإسرائيل في الظاهر، وهو ما يخالف موقفهم الحقيقي، الذي يعدّ القضية الفلسطينية قضيةَ وجود، وجزءاً من الهُويَّة السياسية لهم. وإذا كان سلوك التشفّي هذا قد أثار استياء كثيرين من العرب والفلسطينيين، فإنّه طرح تساؤلاً مهمّاً: هل قتال حزب الله ضدّ إسرائيل يشفع له ولعناصره ما ارتكبوه في سورية؟ وفي المقابل، هل ننفي عن الحزب أيَّ بُعدٍ أخلاقي في قتاله إسرائيل بناءً على ما فعله في سورية قبل سنوات؟

لا أحدَ يُنكر الفعل غير الأخلاقي لحزب الله، ليس فقط حين قرّر الوقوف إلى جانب نظام استبدادي بتأييده سياسياً فحسب، بل أيضاً حين شارك عملياً في قتال السوريين الثائرين، فكان فاعلاً في إجهاض حلمهم في التغيير، بالقضاء على الاستبداد، وفتح الطريق نحو إنسانية اجتماعية واقتصادية وسياسية حلم بها جمهور كبير من الشعب السوري، ثم مضى بتشويه هذا الحلم، والسخرية من هزيمتنا.

سبق وأطلق حزب الله العنان لإعلاميّيه للشماتة بالمقتلة السورية

ثمّة غضب على حزب الله، ليس بسبب قتله سوريين إلى جانب النظام فحسب، بل لأنّ سوريين كثيرين في المناطق الحدودية مع لبنان فتحوا بيوتهم عام 2006 أمام آلاف اللبنانيين من جمهور حزب الله، وهو الحزب الذي قتل وهجّر عشرات آلاف من سكّان القلمون السوري، من القصير شمالاً وحتّى الزبداني جنوباً. لم يكتف بذلك، بل ذهب إلى أبعد، حين اعتبر الثورة السورية معاديةً للقضية الفلسطينية، قال أمين عام الحزب، حسن نصرالله، إنّ "طريق القدس يمر بالقلمون والزبداني والسويداء والحسكة" (10/7/2015)، وما إلى ذلك من أقوال شيطنت الثورة السورية، ووضعتها في مصاف الخيانة للأمّة العربية وقضيتها الوجودية الأولى، قضية فلسطين. ويمكن القول أكثر من ذلك، لقد أطلق الحزب العنان لإعلاميّيه للشماتة بالمقتلة السورية، وهناك مقاطع فيديو كثيرة في "يوتيوب" توثّق هذه الشماتة، وتكشف المستوى المتدنّي جدّاً فيها عبر الاستهانة بالدم السوري.

الأمثلة لا تُعدُّ، وقد بلغت شماتة جمهور النظام السوري وحزب الله بأهالي الثورة السورية مبلغاً دفع صحيفة إندبندنت إلى نشر مقال عام 2016 بعنوان "مُؤيّدو الأسد وحزب الله يشمتون من جوع أهل مضايا"، تحدثّت فيه عن وسم "متضامن مع مضايا"، أنشئ في مواقع التواصل الاجتماعي من مُؤيّدي الأسد وحزب الله، ليس للمطالبة برفع الحصار عن البلدة، بل بغرض الشماتة من حصار أهل المنطقة، التي احتضنتهم مسبقاً في 2006. وقد أثار الوسم آنذاك موجةً من الغضب، ووصفت الحملة بالسادية وبالمثيرة للاشمئزاز بشكل لا يُصدَّق.

أخيرا، في نعيه قائد كتيبة الرضوان، إبراهيم عقيل، كتب حزب الله: "كان من القادة المجاهدين الكبار الذين خطّطوا وأداروا العمليات ضدّ الجماعات التكفيرية على حدود لبنان الشرقية، وفي القصير والقلمون، وبقيّة المناطق السورية". لا ينبغي تجاهل ما جاء في هذه النعوة، لأنّها تساوي السوريين بالإسرائيليين، وما عبارته "الجماعات التكفيرية" إلا تضليل أيديولوجي، فلم يكن القلمون الغربي ساحةً للجماعات التكفيرية (على ما في هذا التعبير من تضليل حين يُعمَّم)، بل ساحةً رئيسة للجيش السوري الحر.

ظهرت الحدّية بقوّة في العقل السوري بمجمله منذ بدء الثورة، وأعمت السوريين نظاماً ومعارضةً عن رؤية الواقع وتنوّعاته

مع ذلك كلّه، من المهم التأكيد على نقطتين: الأولى أنّ فعل التشفّي مرفوض في ذاته من حيث هو فعل غرائزي وليس فعلاً عقلياً أخلاقياً. ثانياً، ضرورة إجراء فصل حدّي بين الظالم، الذي وقع عليه الأذى، والطريقة التي وقع فيها الأذى، وأيضاً الجهة التي صدر منها الأذى، وهذا تمييز جوهري، فلا يُعقل أن يتناسى السوريين أنّ عناصر الحزب يُقتَلون الآن وهم في مهمّة عظيمة في نصرة غزّة، التي خذلتها الأنظمة العربية والشعوب العربية وتركتها تلاقي مصيرها. فعل التشفي مرذول لأنّه قد ينحدر بأصحابه إلى مستويات لا تبدو مفهومة عقلياً وأخلاقياً. على سبيل المثال، شماتة بعض السوريين باغتيال إسماعيل هنيّة لأنّه عبر فقط عن شكره لإيران في دعمها المقاومة الفلسطينية في غزّة.

مشكلة هذا النمط من التفكير أنّه صادر عن عقل حدّي، إما أبيض أو أسود، إما وطني أو عميل، إمّا علماني أو إسلامي، إمّا تراثي أو حداثي، إمّا وطني أو قومي... إلخ، وهذه الحدّية ظهرت بقوّة في العقل السوري بمجمله منذ بدء الثورة، وأعمت السوريين (نظاماً ومعارضةً) عن رؤية الواقع وتنوّعاته، وكانت النتائج كارثيةً. عذرا ممّن استاء من زلّات بعض السوريين، فوجعهم أليم ومصابهم كبير، كما هو مصاب أهلنا في فلسطين.