31 ديسمبر 2020
أسئلة ما بعد تأجيل الانتخابات الجزائرية
بدايةً، لا بدّ من الإقرار بأنّ الاحتجاجات الجزائرية إنجاز، وتراجع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عن الترشح لولاية خامسَة تنازلٌ، ولو ضئيلا، من النظام؛ هذا الأخير الذي استحق هزّة شعبيَة تذكّره أنّ الجماهير لم تنس المطلب الديمقراطي، ولم تفرّط في التداول على السلطَة، وأنّ مجتمعاً شاباً قد سئم من سطوة شيوخ الاستبداد سنًّا وفكراً، وأنّه اختار أنّ يغيّر واقعه، عوض الاستسلام أو ركوب البحر نحو المجهول، لكنّ مدح الاحتجاجات السلمية المُبهرِة وفرحة الإنجاز الشعبِي، العفوي والبريء في غالبيته، لا ينبغي أنّ تنسينا الأسئلة السياسية المهمّة في هذه المرحلَة الحساسّة التّي تعدّ، إلى حدّ الساعة، انتقالاً داخل النظام، وليس انتقالاً ديمقراطياً بالمعنى التعدّدي والواسع.
السؤال الأول الذّي يتبادر إلى الأذهان: بأيّ صفة سيبقى بوتفليقة في السلطة عقب أبريل/ نيسان 2019؟ إذ إنّ موجبات بقائه استثناءً في الدستور الجزائري هي حالَة الحرب؛ والجزائر ليست في حرب. يُمكن لناحية المسموح سياسياً أن يؤجّل الرئيس الانتخابات البلدية والبرلمانية، ما دامت ضمن المجال الزمني لولايته الرئاسية، لكنّ تأجيل الانتخابات الرئاسية يعدّ تمديدا لولايته تحت حجّة المرحلة الانتقالية التّي كان من الواجب أن تنطلق بتنحّي بوتفليقة عن السلطة، وتسليمها لرئيس مجلس تأسيسي، أو أقلّة لرئيس البرلمان الجزائري، مدعوماً بحكومة تسيير أعمال ترعى الشأن العام.
بعد 18 أبريل/ نيسان، سيكون بقاء بوتفليقة في السلطة غير دستورِي وغير أخلاقِي؛ إذ هو تعدٍّ صارخ عن الآجال الانتخابيَة التّي تحدّدها القواعد الدستورية التّي صاغها النظام، واستثنى نفسه من الالتزام بها. انقلب الاستبداد الجزائري على دستوره، ورشّح رئيسَه في آن واحد؛ وبدأ مرحلة بينيَة خطيرَة لا يَحكتم فيها للدستور القائم، بحجّة التحضير لكتابة دستورٍ جديد. كما
انقلب على الهيئة العليا للانتخابات التّي عيّنها، وعلى الحكومة التّي أوجدها، بل اتهمّها ضمنياً بالفساد.
الأمر أشبه بلعب الأطفال الذين يتمسّكون بحقّهم باللعب بتعنت، حتّى بعد انتهاء فترات ذلك؛ يخيّرنا النظام بين أن يبقى بوتفليقة منتخباً شكلاً أو أن يبقى "قائدا انتقاليا" يسلّم السلطة لمن يشاء، وفي الوقت الذي يشاء؛ وهذا هو جوهر السؤال الثاني: إلى متى سيستمر هذا الانتقال، وكم هي المدّة التّي يحتاجها النظام لتسليم الرئاسة لشخصية جديدة؟ حين تتخذّ الأنظمة قراراتٍ في سياقٍ احتجاجي ضاغط، لا بدّ أن تكون قراراتها محدّدة ومضبوطة بميعادِ تطبيقٍ صارم، الأمر الذي يُجانبه النظام الحاكم، فكلّ قرارته سائلةٌ ومبهمَةٌ ومتردّدة، والمعادلة الأكثر تكشفاً، في الوقت الراهن، هي أنّ بوتفليقة في السلطة ما دام على قيدِ الحياة. ولا ينبغي، في أيّ حالٍ، تسخيف هذه الفكرة وتهميشها، إذْ إنّ النظام، بأحزابه وأجهزته وبيروقراطيته ودوائره وشخصياته يعيش حرفياً تحت رحمة البيولوجيا، ويتعامل بهستيريا مع التطوّرات الصحيّة لبوتفليقة.
ويتعلق السؤال الثالث بتعيين نور الدّين بدوي وزيراً أوّل، ووزير الخارجية السابق رمطان لعمامرة نائباً له. من ناحية الشكل، لا تحتاج الوزارة الأولى في الحالة الجزائرية فعلاً إلى نائب؛ ثمّ إنّ هذا الشكل الإداري ليس شائعا في الممارسة السياسية الجزائرية، المبنية على شخصنة السلطة التنفيذية. وكأنّ أحدهما (بدوي أو لعمامرة)، يتم تحضيره لينسحب لاحقاً تاركا المكان ليشغل منصباً آخر. وقد شاع في الأوساط الجزائرية أنّ لعمامرة سيكون بديلاً "نظيفاً" لبوتفليقة؛ هذه الفرضية مقبولة لجهة أنّ لعمامرة ظلّ خارج الحسابات الحزبيَة، وفي منأىً عن أن يُحرق إعلامياً أو يهاجم شخصياً، على الرغم من أنّه استمّر في نهج السياسة الخارجية التّي تعاملت بصفة طبيعية مع الأنظمة المستبدة والدموية، كنظامي بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي؛ ونقطَة قوّة لعمامرة هي علاقاته الدوّلية التّي من شأنها تلطيف عملية انتقال السلطة، سواء له أو لغيره.
يُحَكِّم النظام الحاكم نفسه في خصومته مع الشارع والمعارضة، عبر تعيينهِ بدوي الذي خدم النظام، وقاد الداخلية التي تضيّق على الأحزاب والصحافة، وتنحاز عَقدياً ومبدئياً لأحزاب النظام وشركائه، وعبر التوظيف السياسي لما بقي من سمعةِ للعمامرة، ومعه الأخضر الابراهيمي الذّي يتذكّر الجزائريون "شهادته الطبيّة" فيما يخصّ صحّة الرئيس بوتفليقة، حين ترشح الأخير للولاية الرابعة سنة 2014. إنّه بهذا يُطيل عمره في ثوب الرعاية السياسية لمشروع الانتقال نحو الديمقراطية، والأمر لا يغدو عن كونه ترتيبا للبيت الداخلّي للنظام، تمهيداً لتسليم الرئاسة لواحدٍ من رجالات النظام الذين لن يغيّروا شيئاً، وكلّ من بدوي ولعمامرة والإبراهيمي هم من نخب النظام التي لا تحمل قطعاً ثقافةً سياسيةً ديمقراطية.
السؤال الأخير، في هذا المقام: لماذا هذا التركيز على الانتخابات الرئاسية؟ أيّ انتخابات رئاسية تحت وصاية النظام الحاكم في الجزائر ستؤدّي حصرًا إلى إحدى نتيجتين رئيسيتين؛ إماَ رجل من رجالات النظام مدرّب على رداءة التسيير، ومثقف ثقافة استبدادية، وقادر على مغازلة الغرب وإعطائه ما يحبّ أن يأخذ، وإسماعه ما يريد أن يسمع. أو شخصية جديدة من خارج النظام يتّم تمريرها شكلاً، وتخيّر إما أن "تتطبّع" طوعاً، أو تُعزل عبر امتناع بيرقراطية الدولة من البلديات إلى البرلمان التي تتغلغل فيها جبهة التحرير وحلفاؤها عن التعاون معها، فيصبح هذا الرئيس بذلك في وضعٍ، مثل وضع الرئيس محمد مرسي في مصر. حين يكون مسعى
الانتقال الديمقراطي جادّاً، وعن قناعه، يبدأ المسار من الأسفل. يجب تنظيف المستوى المحلّي من المزوّرين والفاسدين الذين يشكّلون القاعدة الصلبة التّي يثبّت الاستبداد جذوره فيها مرتفعاً نحو الأعلى. ومن ثمّ إصلاح المجالس الولائية (مجالس المحافظات)، وصولاً إلى المجالس الوطنية (البرلمان بغرفتيه). إذْ لا يمكن للديمقراطية أنّ تنجح بوجود رؤساء بلدّياتٍ، حوّلوا بلدياتهم إلى وكرٍ لتزوير الانتخابات، والدعاية لبوتفليقة وأحزابه، ولا ببرلمانٍ مهندسٍ ليكون محلّ سخريةٍ وتنكيت.
ما زالت أمور مهمة عديدة مبهمَة؛ والنظام الجزائري بارعٌ في المناورة على هوامش المبهم والسائل. والمعارضة والشارع مطالبان، أكثر من أي وقت مضى، بالضغط على النظام الحاكم، ليكون أكثر وضوحاً، وإجباره على تقديم تنازلاتٍ ديمقراطية، وليس تنازلاتٍ ضمن القواعد الاستبدادية ذاتها التي يتم إنتاجها وإعادة تخريجها في شكلٍ جديدٍ كلّ مرّة منذ 1962. يجب أنّ يحصل المجتمع على إجاباتٍ تتعلّق بمصير الترشيحات السابقَة، ومصير الدستور، ومصير الديمقراطية والجزائر عموماً في ظلّ وجود نظامٍ سيطر على الجزائر، عبر السيطرة على رجلٍ مريضٍ، يجب أن يكونَ في الظروف العادية متقاعداً يكتب مذكّراته.
بعد 18 أبريل/ نيسان، سيكون بقاء بوتفليقة في السلطة غير دستورِي وغير أخلاقِي؛ إذ هو تعدٍّ صارخ عن الآجال الانتخابيَة التّي تحدّدها القواعد الدستورية التّي صاغها النظام، واستثنى نفسه من الالتزام بها. انقلب الاستبداد الجزائري على دستوره، ورشّح رئيسَه في آن واحد؛ وبدأ مرحلة بينيَة خطيرَة لا يَحكتم فيها للدستور القائم، بحجّة التحضير لكتابة دستورٍ جديد. كما
الأمر أشبه بلعب الأطفال الذين يتمسّكون بحقّهم باللعب بتعنت، حتّى بعد انتهاء فترات ذلك؛ يخيّرنا النظام بين أن يبقى بوتفليقة منتخباً شكلاً أو أن يبقى "قائدا انتقاليا" يسلّم السلطة لمن يشاء، وفي الوقت الذي يشاء؛ وهذا هو جوهر السؤال الثاني: إلى متى سيستمر هذا الانتقال، وكم هي المدّة التّي يحتاجها النظام لتسليم الرئاسة لشخصية جديدة؟ حين تتخذّ الأنظمة قراراتٍ في سياقٍ احتجاجي ضاغط، لا بدّ أن تكون قراراتها محدّدة ومضبوطة بميعادِ تطبيقٍ صارم، الأمر الذي يُجانبه النظام الحاكم، فكلّ قرارته سائلةٌ ومبهمَةٌ ومتردّدة، والمعادلة الأكثر تكشفاً، في الوقت الراهن، هي أنّ بوتفليقة في السلطة ما دام على قيدِ الحياة. ولا ينبغي، في أيّ حالٍ، تسخيف هذه الفكرة وتهميشها، إذْ إنّ النظام، بأحزابه وأجهزته وبيروقراطيته ودوائره وشخصياته يعيش حرفياً تحت رحمة البيولوجيا، ويتعامل بهستيريا مع التطوّرات الصحيّة لبوتفليقة.
ويتعلق السؤال الثالث بتعيين نور الدّين بدوي وزيراً أوّل، ووزير الخارجية السابق رمطان لعمامرة نائباً له. من ناحية الشكل، لا تحتاج الوزارة الأولى في الحالة الجزائرية فعلاً إلى نائب؛ ثمّ إنّ هذا الشكل الإداري ليس شائعا في الممارسة السياسية الجزائرية، المبنية على شخصنة السلطة التنفيذية. وكأنّ أحدهما (بدوي أو لعمامرة)، يتم تحضيره لينسحب لاحقاً تاركا المكان ليشغل منصباً آخر. وقد شاع في الأوساط الجزائرية أنّ لعمامرة سيكون بديلاً "نظيفاً" لبوتفليقة؛ هذه الفرضية مقبولة لجهة أنّ لعمامرة ظلّ خارج الحسابات الحزبيَة، وفي منأىً عن أن يُحرق إعلامياً أو يهاجم شخصياً، على الرغم من أنّه استمّر في نهج السياسة الخارجية التّي تعاملت بصفة طبيعية مع الأنظمة المستبدة والدموية، كنظامي بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي؛ ونقطَة قوّة لعمامرة هي علاقاته الدوّلية التّي من شأنها تلطيف عملية انتقال السلطة، سواء له أو لغيره.
يُحَكِّم النظام الحاكم نفسه في خصومته مع الشارع والمعارضة، عبر تعيينهِ بدوي الذي خدم النظام، وقاد الداخلية التي تضيّق على الأحزاب والصحافة، وتنحاز عَقدياً ومبدئياً لأحزاب النظام وشركائه، وعبر التوظيف السياسي لما بقي من سمعةِ للعمامرة، ومعه الأخضر الابراهيمي الذّي يتذكّر الجزائريون "شهادته الطبيّة" فيما يخصّ صحّة الرئيس بوتفليقة، حين ترشح الأخير للولاية الرابعة سنة 2014. إنّه بهذا يُطيل عمره في ثوب الرعاية السياسية لمشروع الانتقال نحو الديمقراطية، والأمر لا يغدو عن كونه ترتيبا للبيت الداخلّي للنظام، تمهيداً لتسليم الرئاسة لواحدٍ من رجالات النظام الذين لن يغيّروا شيئاً، وكلّ من بدوي ولعمامرة والإبراهيمي هم من نخب النظام التي لا تحمل قطعاً ثقافةً سياسيةً ديمقراطية.
السؤال الأخير، في هذا المقام: لماذا هذا التركيز على الانتخابات الرئاسية؟ أيّ انتخابات رئاسية تحت وصاية النظام الحاكم في الجزائر ستؤدّي حصرًا إلى إحدى نتيجتين رئيسيتين؛ إماَ رجل من رجالات النظام مدرّب على رداءة التسيير، ومثقف ثقافة استبدادية، وقادر على مغازلة الغرب وإعطائه ما يحبّ أن يأخذ، وإسماعه ما يريد أن يسمع. أو شخصية جديدة من خارج النظام يتّم تمريرها شكلاً، وتخيّر إما أن "تتطبّع" طوعاً، أو تُعزل عبر امتناع بيرقراطية الدولة من البلديات إلى البرلمان التي تتغلغل فيها جبهة التحرير وحلفاؤها عن التعاون معها، فيصبح هذا الرئيس بذلك في وضعٍ، مثل وضع الرئيس محمد مرسي في مصر. حين يكون مسعى
ما زالت أمور مهمة عديدة مبهمَة؛ والنظام الجزائري بارعٌ في المناورة على هوامش المبهم والسائل. والمعارضة والشارع مطالبان، أكثر من أي وقت مضى، بالضغط على النظام الحاكم، ليكون أكثر وضوحاً، وإجباره على تقديم تنازلاتٍ ديمقراطية، وليس تنازلاتٍ ضمن القواعد الاستبدادية ذاتها التي يتم إنتاجها وإعادة تخريجها في شكلٍ جديدٍ كلّ مرّة منذ 1962. يجب أنّ يحصل المجتمع على إجاباتٍ تتعلّق بمصير الترشيحات السابقَة، ومصير الدستور، ومصير الديمقراطية والجزائر عموماً في ظلّ وجود نظامٍ سيطر على الجزائر، عبر السيطرة على رجلٍ مريضٍ، يجب أن يكونَ في الظروف العادية متقاعداً يكتب مذكّراته.
مقالات أخرى
01 سبتمبر 2020
16 يوليو 2019
04 يوليو 2019