"المركز العربي ..." في عشر سنوات
شهدت جغرافية العَرب المتراصّة من المحيط إلى الخليج، طوال السنوات العشر الماضية، مزيجًا من لحظات الألم والسعادة، والخيبة والانتصار؛ لكنّها كانت ربيعًا طويلاً مزهرًا على العلوم الاجتماعية والإنسانية في عالمنا العربِي؛ إذ تمرّ عشر سنوات على تأسيس مركز العرب جميعًا، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الذي نفض الغبار عنهَا، وجعل البحث في قضايا المنطقة والكتابة حولها، والاجتماع العلمي بشأنِها من الأمور التي "تُؤخذ على محمل الجدّ". عشر سنواتٍ تمرّ على رؤية مؤسّس مفكّر، حوّل الفكرة إلى مؤسسة، والمؤسسة إلى وسيلة، البحث الموضوعي في قضايانا غايتها الأسمى؛ واضعًا الإنسان العربيّ، وكرامته وحرّيته في مركزِ مشروعٍ نهضويّ يعدّ علامةً فارقة في تاريخنَا المعاصِر.
يقف المركز شامخًا في جغرافيتنا التعيسة، ويصدح بقولِ نعم. نعم يُمكن للعرب أن ينتجُوا معرفةً عن قضاياهم بلغتهم؛ ويمكن لهم المساهمَة في حركة الـتأليف، وفرضِ شخصيتهم الأكاديمية والبحثية، واضعِين بكلّ استقلاليَة أجندتهم البحثية الخاصّة. نعم، يمكن للعرب تأسيس جماعة علمية متماسكة في الداخل، منحازةً للإنسان العربيّ وللحرية والتعدّدية والكرامة؛ ولا تتردّد في رفض الاستبداد والطغيان السياسي والاستعمار؛ تُقدّم نحو الخارج سردياتهَا ورؤيتها ومواقفها المبدئية، ونتائج أبحاثها، في إطار نديّةٍ علميةٍ وأكاديميَة، وبثقةٍ بالنفس، واعتدادٍ بالكفاءة العربيَة. نعم أخرى يقولها المركز، يمكن للجماعة العلمية العربية أن تجتمع في مؤتمرات وندوات وتناقِش بكلّ تحضّر وحريّة قضايا المنطقة، وفقًا لأجندةٍ بحثيَةٍ يضعها المركز بكلّ حريةٍ. ونعم، يمكن للعرب، كغيرهم من الشعوب، تشييد دور نشرٍ محكّمةٍ قادرةٍ على إنتاج معرفةٍ علميةٍ رصينَةٍ قابلةٍ للتداول بين جمهور القرّاء متخصصين وغير متخصصين، من داخل بلاد العرب وخارجهَا.
مؤسّسة بحثية تهتم بإنتاجِ معرفةٍ تنشر أمام الجمهور العامِ، يصل إليها الجميع بالتساوِي
يقدّم المركز العربيّ نفسهُ مؤسسةً بحثيةً تتميّز عن مراكزِ التفكِير "الثينك تانكس" التي تتكاثر حول دوائر صنع القرار في العواصم الغربيَة، وتهتم بإنتاج معارِف موجّهة سياساتيًا، وتعمل على إعطاء مشوراتٍ لصنّاع القرار. المركز إذًا، مؤسّسة بحثية تهتم بإنتاجِ معرفةٍ تنشر أمام الجمهور العامِ، يصل إليها الجميع بالتساوِي، سواء تعلّق الأمر بجمهور القرّاء المهتمين بقضايا المنطقة، ومواضيع العلوم الاجتماعية والإنسانيات، أو باحثين متخصصين، أو صنّاع قرار راغبين في توسيع دائرة اطلاعهم، والحصول على منتجٍ بحثي محكّم عن المنطقة العربية والعالم. ليس الطابع البحثيّ الأكاديمي للمركز شعارًا وفقط، بل هو استراتيجية عمل، تُرى، لمن يريد أن يرى، بالعين المجرّدة في إنتاجه من كتبٍ ومجلّاتٍ محكّمة تخضع للتقاليد العلمية المتعارف عليهَا في حقلِ الأكاديميَا من تحكيمٍ وتحرير علميين، وتدقيق يليق بمؤسسة كالمركز العربي، وبالقارئ العربيّ، وبإسهام العرب المنشود في حركة الـتأليف المحكّم في العالم.
عوامِل عدّة ساهمت في نجاحٍ المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات؛ تجمع بين وجودِ قيادةٍ فكرية على رأسهِ تحمل هموم المنطقة والإنسان العربيين، وتنحاز من دون شرطٍ للعدالة والحرية والكرامَة الإنسانيَة والنظام الديمقراطِي، متمثلةً في المفكّر عزمي بشارَة. وتستعين قيادة المركز بطاقمٍ بحثي وإدارِي متماسك، يتقاسم المبادئ والقيم والهموم والأهدافِ نفسها؛ يخدم فكرة المركز بصدقِ الإنسان السويّ، وإصرار صاحبِ القضيَة. وكحالِ السواد الأعظم من مؤسسات البحثِ في العلوم الاجتماعية والإنسانيَة غير الربحية، والتي لا تستهوِي الداعمين الخواص مقارنةً بمراكز الأبحاث في العلوم الدقيقة، يحظى المركز العربيّ بدعمٍ سخيٍّ من دولة قطَر المضيفَة، يتسّق مع رؤيتها الوطنية المبنيّة على تشجيع الحركة العلمية، ويكمّل تجاربها الرائدة في مجالات البحث والإبداع والإعلام وغير ذلك.
يُشكر المركز العربيّ ومؤسسّهِ وطاقمِه على ما قدمّوه ويقدّمونه للعلوم الاجتماعية والإنسانية وللغة العربية وللعرب
طِوال العشر سنواتٍ الماضية من عمرهِ، ازدهر المركز العربيّ، وتوسّع نشاطه العلمي والبحثيّ؛ وليس المقصود هنا مئات الكتب الصادرة عنه، باعتبارهِ من أهّم دور النشر المحكمة في المنطقة (إن لم تكن الوحيدة)، ودورياته العلمية المحكّمة، ومئات المؤتمرات والندوات والسيمنارات؛ بل المشاريع الكبرى التّي أطلَقَها المركز منذ نشأتهِ، كالمؤشّر العربيّ الذي يعدّ أكبر استطلاع رأيٍ في المنطقة، ومعجم الدوحة التاريخي للغة العربيَة الضخم الذي يؤرّخ لألفاظ اللغة العربيَة، ومعهد الدوحة للدراسات العليا، المعهد الجامعي المختص في الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية والإنسانية، والذي يقدّم منحًا شاملة للطلبة العرب، مستعينًا بألمع الكفاءات العربيّة التي لا تبخل بنقل معارفهَا وخبراتِها التي اكتسبتها من سنوات خِدمتها في الجامعات العربية والغربية العريقة. وقد عاصر المركز العربيّ ثورات الربيع العربيّ؛ وغطّاها تحليلاً وبحثا وتأليفًا ومناقشةً وتوثيقًا، مشيّدًا بذلك مكتبةً عربيَةً استثنائيةً في هذا الموضوع، يستند إليها الجيل الحالي من القرّاء والباحثين، وستكون لا محال مادةً علمية موثوقة للأجيال القادمَة. ولا يزال المركز مواكبًا لقضايا الديمقراطية والمواطنة والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية ومنحازًا لهَا، ومحافظًا على خطّهِ الموضوعي والمستقّل.
تحمل جعبة المركز مزيدا من المشاريع والإنجازات الموجّهة للصالح العربيّ العام. وقد لاحظت الجماعة العلمية العربيَة المختصّة في العلوم الاجتماعية والإنسانية الفرق بين حركية البيئة العلمية والنشاط البحثِي قبل إنشاء المركز وبعده. ولا شكّ عندي أنّ المركز سيكون نموذجًا يُحتذى به في إنشاء مراكز بحثيَة في المنطقة، لناحية التنظيم والجودة البحثية والالتزام بقضايا المنطقة والتقاليد العلمية والأكاديمية التي أرساهَا. يُشكر المركز العربيّ ومؤسّسهِ وطاقمِه على ما قدّموه ويقدّمونه للعلوم الاجتماعية والإنسانية وللغة العربية وللعرب؛ سيكون المركز ومؤسّسه حتمًا ممّا يمكث في الأرض.