حين يمتدّ الزمنُ، وتتباعد المسافاتُ بين أمسٍ ويوم، لا تعود وفاة شاعرٍ أو فنانٍ أو مفكر أو كاتب مفاجئة؛ إنها عادة من العادات، لا تثير سوى ذكرى إن وُجدت، أو خيال عابر مرَّ بنا.
هكذا أمرُّ الآن على خبر وفاة الشاعر محمد مفتاح الفيتوري، ليس كصاحب مجموعة "اذكريني يا أفريقيا"، كما سيقال، وليس كصاحب القصيدة الشهيرة بعنوانها أكثر ممّا هي شهيرة بمادتها، أعني "قلبي على وطني"، التي كانت موضوع جدل بيني وبينه حين حلّ ضيفاً على مجلة "الطليعة" في العام 1972، بل أمرُّ عليه أو يمرُّ بي كإنسانٍ تراءى ذات يوم في مرآة الزمن، ولم يطل به المقام، ولا أدري لماذا.
ربما بسبب العصف الذي حل بسنواتِ العواصم العربية، ربما بسبب الطرق التي أصبحت تشبه أنهاراً من النسيان (التعبير للصديق إبراهيم زعرور الذي فاجأه كم ضاع من عمره)، وربما بسببِ أن الشعراء أطفالٌ تهدم الشياطين ما يبنون، ربما.. ربما.. لا يقينَ في زمن يموت فيه الناس غرباءَ متباعدين بعد أن ظلوا قروناً محلوماً بها يموتون متقاربين يألفون موتهم معاً، ويبتهجون طيلة القرون اللاحقة لهذا السبب وحده.
لا وقتَ للمراثي، لا وقتَ للقول إن شيئاً ما أصبح مفقوداً في نغمةٍ جارية، أو انقطع وترٌ في كمنجة، فهذا العالمُ، بسبب تحوِّله إلى طرق من أنهارِ نسيانٍ عميق، لم يعد يحفل بنا؛ ربما يحفل برفيف جناح فراشة أكثر ممّا يحفل بشاعر يغمض عينيه ويغيب إلى الأبد.