أطفال الحب والمقاومة
كلما شاهدت مقابلة مع فلسطينية، وهي تحمل طفلها الرضيع الذي أنجبته، وزوجها في السجون الإسرائيلية، أحسست بطعنة ألم في قلبي، وأجد نفسي عاجزة عن التحديق في وجوه أولئك الأطفال. ولا أظن أن هناك إجراماً أكبر وعاراً أعظم من أن تحمل امرأة من زوجها وحبيبها من دون أن يلتقيا! هذا يناقض الطبيعة البشرية والأخلاق الكونية، إذ يتم التزاوج والحمل بلقاء الذكر والأنثى.
تتفنن إسرائيل في قتل الفلسطينيين، لا تقتلهم جسدياً فقط، بل تعتمد على طاقم كامل من علماء النفس ممن باعوا ضمائرهم للشيطان، وتنكروا لقسم أبقراط، لإذلال الشعب الفلسطيني، وسحق كرامته وحبه للحياة. يتحول كل شيء في فلسطين إلى جرح حتى الحب والرغبة، فالأسرى الفلسطينيون الذين يمضون سنوات وعقوداً في السجون الإسرائيلية محرومون من دفء الأسرة، ومن الحب الزوجي والأطفال. ويعمد الاحتلال الإسرائيلي إلى كل الوسائل لإذلال الأسير المُقاوم وإذلال أسرته، لكن إرادة الحياة والرغبة في تحدي الظلم يجعل من الإنسان مخلوقاً جباراً، وكل ظلم يمكن الانتصار عليه بحب الحياة، ولولا الحب لما استمرت الحياة.
أجدني أقف بخشوع وإعجاب يصل إلى حد الذهول أمام الشابات الفلسطينيات اللاتي يذهبن إلى الطبيب ليزرع بذور الحب المُهربة من أزواجهن في أرحامهن، وقد حولن جرحهن إلى راية للنصر وللحياة، وابتلعن دموع القهر، وحولنها إلى ابتسامة، وهن يحلمن بالطفل المُنتظر من شريك العمر القابع وراء القضبان. يعيش السجين تلك اللحظات بقوة خياله، ويشارك بروحه وشوقه، يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وسنه تلو سنة، طفله الذي وُلد مُتحدياً العدو الإسرائيلي، طفله الذي سيضحك ويحبو ويمشي، ويتأمل صورة البابا المُعتقل المعلقة على الجدران، طفله الذي أنجبه من وراء القضبان، والذي أثبت أن العين يمكن أن تقاوم المخرز. لا تدرك إسرائيل أنها مهما أوغلت في إجرامها بحق الفلسطينيين، لا يُمكن أن تكبح هوى الحياة والحب في قلوبهم. على العكس، إنها تدفعهم إلى ابتكار أساليب لمقاومتها وتحديها، أن يصر زوجان تحرمهما إسرائيل من العيش معاً، ومن العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة، أن ينجبا طفلاً من دون أن يلتقيا ويتلامسا، أن يصرا على أن يبثا أشواقهما لبعضهما عبر الهواء المُحمل برائحة زهر الليمون التي تتحدى رائحة الرصاص الإسرائيلي، ويُنجبا طفلاً، لهو شكل رائع من أشكال المُقاومة، وهؤلاء الأطفال أسميهم أطفال الحب والمقاومة، هؤلاء الأطفال سوف يفقأون عيون إسرائيل المُجرمة. لا يدرك هؤلاء الصغار أنهم صناع الأمل والحياة، وأن قدرهم أن يكونوا، منذ ولادتهم، أطفال المقاومة، وهم يليق بهم، حين سيكبرون، أن يكونوا قادة الثورة الفلسطينية في وجه الاحتلال الأكثر إجراماً في العالم.
تعادل جريمة حرمان زوجين من عيش علاقتهما بشكل طبيعي جريمة القتل التي تمارسها إسرائيل بدم بارد، وتتبجح أن من حقها أن تقتل وتُشرد وتهدم بيوتاً للفلسطينيين. ولا أنسى فيلماً وثائقياً شاهدته في أميركا، في مركز للدراسات الفلسطينية، عن الغزو الإسرائيلي الوحشي مدينة جنين ومخيمها، وقد روعني أكثر من مشاهد القتل والقصف والدمار أن المحطات التلفزيونية الإسرائيلية كانت تبث أفلام جنس، قمة في الفحش والعهر، طوال فترة القصف. وحين سألت مصعوقة ما علاقة بث هكذا أفلام بإمطار الفلسطينيين في جنين بقذائف الحقد والإجرام، أجابني أحد المُحاضرين بأن هذا مدروس تماماً من إسرائيل التي تُجيش طاقماً من الأطباء النفسانيين، لإلحاق أكبر أذى نفسي ومعنوي وسحق كرامة الشعب الفلسطيني. إنها تريد مستميتةً أن تسلب إرادة البقاء وحب الحياة من الفلسطينيين، لكنها كلما أوغلت في إجرامها ازدادت إرادة المقاومة لدى شعب عظيم، تبين أن إرادته لا تُقهر. أطفال الحب والمقاومة يقلبون المعادلة في فلسطين المُحتلة، ويجعلون إسرائيل سجينة ومرتبكة وعاجزة، ويحررون آباءهم الأسرى بقوة الأمل والحب. يتحول الأسير السجين إلى سجان يسجن المُغتصب والسجان، بقوة لا يمكن هزيمتها، هي قوة الحب، ونفسها قوة المقاومة.