تنقيح نصٍّ أو كتابٍ أو شيء ما، هو تخليص جيِّده من رديئهِ عبر إصلاحه وتهذيبه وإزالة عُقَدِه. إذا صحَّ هذا التعريف، فهل علينا عدّ التنقيح، بالنسبة للنصوص الإبداعية، عملاً وظيفياً أم جزءاً من العملية الإبداعية؟
كثيراً ما تباينت وجهات نظر شعراء جيلنا في السبعينيات حول معنى التنقيح وحقوله وحدوده. فمن قائل إن الإبداع شيء، والتنقيح أو التدقيق اللغوي والإملائي شيء آخر، وإن لدى العديد من دور النشر الأوروبية محررين يدققون لغوياً لكبار الكتّاب، ما يعني أن التنقيح مجرد عمل وظيفي. إلى قائل إن تنقيح الشعر أمر مختلف بالنسبة إلى الشعر العربي على الأقل، وإلا لما كان في تاريخنا ظاهرة اسمها "الشعراء الحوليّون"، الذين يمضون حولاً أو عاماً كاملاً وهم ينقّحون قصيدتهم بعد كتابتها الأولى.
اقرأ أيضًا: أصداء وقصائد اخرى
حصيلة نقاشات جيلي الشعري، على ما أرى في الغالب، تلخّصت حينها في أنّ المتمكّنين من أدواتهم الإبداعية واللغوية، مالوا إلى اعتبار التنقيح، وليس التدقيق اللغويّ، جزءاً من إبداع الشاعر، في حين مال غير المتمكنين إلى أن التنقيح عمل وظيفي يمكن لأي خرِّيج جامعي من قسم لغة عربية أن يقوم به، حتى لو كان عديم الموهبة.
أعرف أنه يترتّب عليَّ تحديد موقفي الشخصي من هذه المسألة الشائكة، وها أنذا أسارع إلى تحديده من خلال سردي واقعة تلخص موقفي، وربما تنطوي دلالاتها على ما يتيح للقارئ أن يشكّل موقفه الخاص أو المختلف.
في عام 1978 كتبتُ قصيدة وأعطيتها لأحد الأصدقاء من شعراء جيلي ليقرأها. قال لي صديقي: "من دون مجاملة، هذه أجمل قصيدة كتبتَها في حياتك حتى الآن، فأين ستنشرها؟".
قلت: لمّا أقرّر نشرها، لأني غير مطمئنٍّ فيها إلى الشطر الذي يقول: وماذا يفيدُ العصافيرَ كونُ السماءِ على باب أقفاصها؟
قال لي: هذا أجمل شطر في القصيدة معنىً ومبنىً. قلتُ: ربما، ولكنه ليس تماماً كما أريد، أو كما هو في داخلي. قولي "كون السماء" ثقيل وضعيف الشاعرية. أجاب: ليس في الإمكان يا صديقي أبدع مما كان، إذ كيف لك أن ترتفع بهذا الشطر فكرةً وصوغاً ووزناً. قلت: بل في الإمكان دائماً وأبداً، ثم ما الضير في أن أحاول؟
بعد أيام التقيته وأسمعته تعديل ذلك الشطر الذي صار: وماذا يفيدُ العصافيرَ أنَّ السماءَ على باب أقفاصها؟". فقال: كم أنتَ مُحِقّ. الصورة الآن أجمل وأكمل وأكثر رشاقة، وأشهدُ أنك شاعر دؤوب ولا يتساهل مع نفسه، ولكن أين ستنشرها الآن؟".
أجبت: نعم. صار كل ما يتعلَّق بهذا الشطر أفضل، ولكن ليس كما ينبغي، وأعتقد أن عليَّ تعديله بطريقة أفضل، فأعلنَ أن الأمر مستحيل.
كنت أعرف أني أغوص كثيراً وأعود خائباً، وأنَّ هناك صَدَفَةً ما، لا بدَّ أن أجدها في إحدى الغوصات. عادةً، تولد القصيدة كومض، غير أن كلماتها تكون أشبه بصدفات متناثرة في قاع بركة، وعليّ أن أغوص وأتلمس كلَّ صدفة، ويعرف حدسي غالباً أن الصدفة التي أمسك بها هي الصدفة المعنية أم صدفة زائفة وإن كانت مشابهة.
بعد قرابة أسبوعين التقيت بصديقي، وسألني عن النتيجة، فأسمعته التعديل الأخير الذي صار: "وماذا يفيدُ العصافيرَ مهما السماءُ على باب أقفاصها؟". فقال لي: اقتنعت معك أنه، في الإبداع، دائماً في الإمكان أبدع مما كان. ستكون شاعراً، وأنا لن أكون. سأتوقّف عن كتابة الشعر، وسنبقى صديقين لا شاعرين.
كان كلام صديقي لي في منتهى الألم. حاولت ثنيه عن قراره، ولكنه للأسف لم يستجب. توقّفَ نهائياً عن كتابة الشعر، رغم قناعتي أنه كان شاعراً.
أكان عليَّ النأي بنفسي من مباراتي مع نفسي في هذا الميدان الملعون؟ للأسف أنَّ قناعاتي تأخذني إلى شاطئ يرى أنَّ كلَّ إبداعٍ ملعونٍ، وأنا لا محيد لي عن ذلك الشاطئ.
فكَّرتُ مرَّة أنَّ الشعرَ سكِّين، ولم أقتنع. علاقتي بالشعر لا تمنحه هذا الدور. وفكَّرتُ أن الشعرَ أخو "شليتة"، وأنا أسمع هذه اللفظة من طفولتي ولا أعرف معناها.
لا جمال أكثر من الشعر وما يشبهه، وأعرف كم هوَ ظالمٌ هذا الحكم. لم أستطع تبسيط الموضوع أكثر، ولم أستطع تعميمه أو شخصنته أكثر، فعذرًا. الشعر حصان الحرية الأجمل، وطائر الحرية الأجمل، وإن كان يستبدُّ بجمالياته أحياناً. هكذا هو الشعر منفتِحاً ومنفلتاً وحرّاً وأسيراً وجميلاً ومتعِباً كما يليق به، أو بالإبداع عموماً.
اقرأ أيضًا: أصداء وقصائد اخرى
حصيلة نقاشات جيلي الشعري، على ما أرى في الغالب، تلخّصت حينها في أنّ المتمكّنين من أدواتهم الإبداعية واللغوية، مالوا إلى اعتبار التنقيح، وليس التدقيق اللغويّ، جزءاً من إبداع الشاعر، في حين مال غير المتمكنين إلى أن التنقيح عمل وظيفي يمكن لأي خرِّيج جامعي من قسم لغة عربية أن يقوم به، حتى لو كان عديم الموهبة.
أعرف أنه يترتّب عليَّ تحديد موقفي الشخصي من هذه المسألة الشائكة، وها أنذا أسارع إلى تحديده من خلال سردي واقعة تلخص موقفي، وربما تنطوي دلالاتها على ما يتيح للقارئ أن يشكّل موقفه الخاص أو المختلف.
في عام 1978 كتبتُ قصيدة وأعطيتها لأحد الأصدقاء من شعراء جيلي ليقرأها. قال لي صديقي: "من دون مجاملة، هذه أجمل قصيدة كتبتَها في حياتك حتى الآن، فأين ستنشرها؟".
قلت: لمّا أقرّر نشرها، لأني غير مطمئنٍّ فيها إلى الشطر الذي يقول: وماذا يفيدُ العصافيرَ كونُ السماءِ على باب أقفاصها؟
قال لي: هذا أجمل شطر في القصيدة معنىً ومبنىً. قلتُ: ربما، ولكنه ليس تماماً كما أريد، أو كما هو في داخلي. قولي "كون السماء" ثقيل وضعيف الشاعرية. أجاب: ليس في الإمكان يا صديقي أبدع مما كان، إذ كيف لك أن ترتفع بهذا الشطر فكرةً وصوغاً ووزناً. قلت: بل في الإمكان دائماً وأبداً، ثم ما الضير في أن أحاول؟
بعد أيام التقيته وأسمعته تعديل ذلك الشطر الذي صار: وماذا يفيدُ العصافيرَ أنَّ السماءَ على باب أقفاصها؟". فقال: كم أنتَ مُحِقّ. الصورة الآن أجمل وأكمل وأكثر رشاقة، وأشهدُ أنك شاعر دؤوب ولا يتساهل مع نفسه، ولكن أين ستنشرها الآن؟".
أجبت: نعم. صار كل ما يتعلَّق بهذا الشطر أفضل، ولكن ليس كما ينبغي، وأعتقد أن عليَّ تعديله بطريقة أفضل، فأعلنَ أن الأمر مستحيل.
كنت أعرف أني أغوص كثيراً وأعود خائباً، وأنَّ هناك صَدَفَةً ما، لا بدَّ أن أجدها في إحدى الغوصات. عادةً، تولد القصيدة كومض، غير أن كلماتها تكون أشبه بصدفات متناثرة في قاع بركة، وعليّ أن أغوص وأتلمس كلَّ صدفة، ويعرف حدسي غالباً أن الصدفة التي أمسك بها هي الصدفة المعنية أم صدفة زائفة وإن كانت مشابهة.
بعد قرابة أسبوعين التقيت بصديقي، وسألني عن النتيجة، فأسمعته التعديل الأخير الذي صار: "وماذا يفيدُ العصافيرَ مهما السماءُ على باب أقفاصها؟". فقال لي: اقتنعت معك أنه، في الإبداع، دائماً في الإمكان أبدع مما كان. ستكون شاعراً، وأنا لن أكون. سأتوقّف عن كتابة الشعر، وسنبقى صديقين لا شاعرين.
كان كلام صديقي لي في منتهى الألم. حاولت ثنيه عن قراره، ولكنه للأسف لم يستجب. توقّفَ نهائياً عن كتابة الشعر، رغم قناعتي أنه كان شاعراً.
أكان عليَّ النأي بنفسي من مباراتي مع نفسي في هذا الميدان الملعون؟ للأسف أنَّ قناعاتي تأخذني إلى شاطئ يرى أنَّ كلَّ إبداعٍ ملعونٍ، وأنا لا محيد لي عن ذلك الشاطئ.
فكَّرتُ مرَّة أنَّ الشعرَ سكِّين، ولم أقتنع. علاقتي بالشعر لا تمنحه هذا الدور. وفكَّرتُ أن الشعرَ أخو "شليتة"، وأنا أسمع هذه اللفظة من طفولتي ولا أعرف معناها.
لا جمال أكثر من الشعر وما يشبهه، وأعرف كم هوَ ظالمٌ هذا الحكم. لم أستطع تبسيط الموضوع أكثر، ولم أستطع تعميمه أو شخصنته أكثر، فعذرًا. الشعر حصان الحرية الأجمل، وطائر الحرية الأجمل، وإن كان يستبدُّ بجمالياته أحياناً. هكذا هو الشعر منفتِحاً ومنفلتاً وحرّاً وأسيراً وجميلاً ومتعِباً كما يليق به، أو بالإبداع عموماً.