لا تؤمن الروائية والقاصّة العُمانية بشرى خلفان (1969)، بوجود خاتمة لأيّ نصّ، حتى وهي تُنهي الجزء الثاني من روايتها "دلشاد"، الصادر قبل شهرين بكلمة "تمّت"، لأنّها تترك كما يترك الآخرون خواتيم القصص إلى آخرين يفتحونها من جديد، لا بل إنّ الموت ذاته لا يستطيع إغلاقها، لأنّ السرد خلق حيّ.
هذه قناعتها، وهي لا تبدو متمترسة خلف أيّ شيء. ربما تختم وتفتح الباب ثانية. وبهذه الأريحية دارت على مدى ساعتين الحلقة الثالثة من "حديث الألف"، أوّل أمس الأربعاء، في الموسم الثاني الذي تُقدّمه الروائية هالة كوثراني.
صدر الجزء الثاني من الرواية بعنوان "دلشاد: سيرة الدم والذهب" بعد ثلاث سنوات من صدور جزئها الأول "دلشاد: سيرة الجوع والشبع" (2021)، والتي فازت بـ"جائزة كتارا للرواية العربية" عام 2022، ووصلت في العام نفسه إلى القائمة القصيرة لـ"الجائزة العالمية للرواية العربية".
تريد بشرى خلفان أن تمارس حقّاً أولياً وبسيطاً في تجربة الحكي الشفوي وكتابة نصوص "تشبه الشعر" ثمّ القصّة القصيرة التي تخطف من الحكي آليته ومن الشعر روحه الفلسفية، إلى الحجم الذي يشتمل على كلّ هذا، ولكنّه أوسع في الوقت ذاته؛ وهو الرواية.
مدوّنةٌ سردية أرادت أن يكون مكانها مسقط القديمة
قالت إنّها تمرنت على النصوص من داخلها من دون أن تهتمّ بكتابها، وقرأت كثيراً في التاريخ والسياسة والروايات والاجتماع، وهي بذاتها تسلك الدروب في مسقط القديمة الكوزموبوليتانية ذات التنوّع العرقي واللغوي. هنا ستعيش وتكبر بجانب حارة بلوشية كبيرة، تستمع إلى حكايات البطولات والقتال، ويقع أمامها اسم دلشاد البلوشي فتقدح فكرة الرواية.
الكاتبة القادمة من عالم الكيمياء وصلت إلى الأدب "حبّاً ومغامرة"، بدأت الكتابة عام 1995، لكنّ العرف الذي جرى ترسيخه في عالم الكتابة يبدأ رزنامته من الكتاب الصادر، وهو الذي سينتظر قرابة عشر سنوات مع صدور مجموعتها القصصية "رفرفة" عام 2004، والتي تلتها عدّة كتب من النصوص المفتوحة، وصولاً إلى عام 2016 مع صدور روايتها الأولى "الباغ".
المسار الذي وضع بشرى خلفان تحت دائرة الضوء هو الروايات الثلاث. هذا لا شكّ فيه، ولعلّها، عبر مدوّنتها السردية، أرادت أن يكون مكانها مسقط القديمة التي لا تنقطع عن زيارتها، وهي التي تعنيها أكثر من العاصمة الإدارية مترامية الأطراف.
وعليه، تُصرّ الكاتبة على أن تنقل روح المكان والروح الشعبية وروح التاريخ بأكبر قدر من تمثُّل الذات بالتساوق مع تخييلها. يسألونها عن اسم "دلشاد" فتقول ببساطة إنّه من صلب بيئة بلوشية باتت أصيلة قلب مسقط القديمة، ويعني "القلب الفرح" وإنّها لو كانت تنتمي إلى إحدى المحافظات الداخلية، لجرت الأسماء مجرى آخر. كذلك هي الحال مع رواية "الباغ"؛ إذ لا أحد في مسقط يستعمل كلمة "حديقة" أو "مزرعة" وإنما "باغ"، وهي كلمة فارسية.
لا تتردّد في القول إنّ روايةً من جزأين قدحت فكرتها من اسم علم "دلشاد"، وعليه فإنّ المخطّطات التي تبدأ من الولادة وتخلق المصائر لم تكن ممّا يشغلها. والحقيقة أنّ خلفان، وهي تحاول دائماً تبسيط الأحاديث بطريقتها المرحة، توارب حتى لا تبدو كأنّها صاحبة ملحمة أسطورية، علماً أنّها تقضي سنوات من البحث المكتبي والميداني.
وتؤكّد على أن تكون اللهجة المحلّية حاضرة بما تيسّر من أدوات لتسهيلها على القارئ العربي، وبما يلزم من جهد عليه أن يبذله للتعرّف إلى هذه الكينونة العُمانية، وبالتحديد المكان الذي تريده مكانها الروائي بالتخصّص، كما وقع مع كثير من الروائيّين ومدنهم حول العالم.
هذه هي مسقطها التي تقرأ في تاريخها السياسي ونزاعاتها الأهلية، وصولاً إلى الاحتراب منذ بداية القرن العشرين وترسم المكان المتخيّل وتستحضر تاريخه تحديداً من لحظة الجوع، إذ لديها موقف زاد من تحفيزها وهي ترفع هذا المكان إلى مساحته السردية. فالجوع هو الذي كان يحيق بعُمان وغيرها من بلدان الخليج في الوقت الذي كانت الحواضر العربية الأُخرى في دعة أو على الأقلّ بعيدة عن الجوع.
تقول هذا وهي تواجه من يزعم أنّ الخليجيّين ليس لديهم ما يكتبون عنه من المعاناة بحكم الوفرة النفطية، وهي في هذا السياق تقول إنّ الجوع والأوبئة والتناحر الداخلي جروح لم تندمل في تاريخ ليس بعيداً، بل تركت أثرها وشكّلت وعياً له عدّة وجوه ولا يمكن استسهال تنميطه.
ذهبت إلى هذا المكان القديم في عاصمة طفولتها وقالت إنّها من هنا ستبني ما ترى أنّه عمارتها السردية الروائية، معتمدةً على تاريخ عُمان السياسي والاقتصادي والاجتماعي، حتى أنّها، ردّاً على سؤال حول إمكانية الخوض في تاريخ عُمان خلال حكمها زنجبار (تنزانيا حالياً)، قالت إنّ عليها قبل كلّ شيء أن تُنجز ملفّاتها في هذا المكان قبل أن تُحقّق رغبة ما في الذهاب إلى زنجبار، وهي لديها أسئلة تاريخية تبحث عن أجوبة لها في زنجبار، لكن ذلك متروك للمستقبل.
تحدّثت الضيفة عن كتابة تتناول جراحاً تاريخية من التاريخ الخليجي المُعاصر، وفي هذه الحال نتحدّث عن سلطنة عُمان، مشيرةً إلى أنّ على الكاتب أن يكون ذا وعي سياسي وتاريخي متماسك، حين يقرّر كتابة رواية، لأنّ هذه الجروح إن لم تتعرّض للشمس، شمس الأسئلة، فإنّها تتعفّن.
اشتهرت على مواقع التواصل منذ سنوات عبارة "نخوض، ويا نوصل رباعة يا يشلنا الوادي رباعة" التي تناقلها الناس خصوصاً حين ضرب إعصار شاهين السلطنة عام 2021، وهي العبارة التي صاح بها راشد في رواية "الباغ" وهو يردف أخته خلفه على الناقة ويربطها بجسده بحبل الليف، مغادراً قريته إلى مسقط وأمامها السيل الجارف.
تُعبّر بشرى عن ذلك بالقول إنّها لا تريد التفاخر بالاقتباسات التي تؤخذ من رواياتها لتجري على الألسن، لكنّها مطمئنة إلى أنّ "الكلمة التي أردتُها وصلت وتجسّدت في مواقف حية".
المرض دقّ الناقوس. ويحدث أن يكون المرض طاقة فجائية غير مسبوقة في وعي الفرد وساعته البيولوجية. وقد أُصيبت بشرى خلفان بمرض السرطان وقاومته. وقالت في "حديث الألف" إنّنا نحس في عمر أصغر بأنّ لدينا متّسعاً طويلاً من الوقت، بيد أنّنا حين نمرض أو نكبر نستعجل كي نترك أثراً". واللافت هنا كما يجيء على لسانها أنّ الموت لا يعود فكرة غريبة، وأنّنا يمكننا الكتابة على الحافّة.
لنلاحظ قياساً إلى الفترة التي واجهت فيها بشرى خلفان مرضها أن خلقت شخصية دلشاد العجيبة التي تضحك طوال الوقت من جوعها وقهرها، حتى أنّها هي ذاتها غير متأكّدة من الإجابة عن سؤال: لماذا يضحك دلشاد طوال الوقت، بل أورث ابنته هذه الصفة؟
ربما هي لا تعرف، أو تدّعي ذلك، لأنّ الرواية كما تريد ليست هي من يتحكّم فيها ومصائر شخصياتها بأيديهم أو بأقدار تحوم فوق الكاتب والراوي والقارئ.