يشكل الاحتفال بالسينما الفلسطينية، المقام بين 23 مايو/أيار و5 يونيو/حزيران 2016 في باريس، لحظة تأمل في مسائل عديدة، يبدو أن الاحتفال يطرحها أو على الأقل يحاول طرحها أمام المعنيين بطريقة أو بأخرى. إذ يأتي "مهرجان سينما فلسطين"، في دورته الثانية هذه، عند لحظة سياسية وثقافية وإعلامية حساسة، فالمشهد الفرنسي بل الأوروبي برمته، يعيش حالة تخبط وارتباك، من جراء عجز سلطاته عن متابعة إنسانية وأخلاقية وسياسية واقتصادية سليمة وفاعلة لملف اللاجئين أولاً، وعن وضع حلول لأزمات فكرية واقتصادية واجتماعية متوغلة في مجتمعاته ثانياً، وعن الانخراط الفعلي في مقارعة ديكتاتوريين عرب يتربعون على عرش الدم والجثث والخراب (بسبب مصالح تجمع سياسيي أوروبا بديكتاتوريي العالم العربي) ثالثاً، ما يؤدي إلى تنامي قوة اليمين المتطرف، وتثبيت حضوره في المؤسسات الرسمية لدول مختلفة.
وهذا، إذ يضاف إلى مكانة اللوبي الصهيوني في مؤسسات أوروبية رسمية وخاصة في آن واحد، يعطي المهرجان السينمائي الفلسطيني شرعية حضورٍ يتفوق على معاندة ثقافية غربية، متواطئة مع الكيان الإسرائيلي، ترفض أي ممارسة فلسطينية تتخذ من الإبداع مثلاً أداة قول وتعبير عن تاريخ وراهن وحقائق، يسعى الكيان نفسه إلى طمسها. والمهرجان، إذ يقام مرة ثانية يؤسس فعلاً بصرياً ترتكز نتاجاته على وقائع العيش اليومي في فلسطين وخارجها، وعلى حساسية فلسطينية في ممارسة طقوس حياتها، أو في ارتباطاتها بانفعال وانتماء وبحث عن هوية، أو في توغلها في مسام الاجتماع اليومي لفلسطينيين مقيمين في ظل الاحتلال الإسرائيلي وأساليب بطشه وقمعه، أو في منافي الغرب ومتطلباته، أو في بقاع العرب وقسوتها بحقهم.
نماذج سينمائية وداعمون غربيون
بمعنى آخر، يقدم "مهرجان سينما فلسطين" نماذج سينمائية عن أحوال بلاد ضائعة بين بطش الاحتلال الإسرائيلي، وانفضاض أجهزة سلطة الحكم الذاتي عنها، وحصار أفكار أصولية متشددة عليها. وهو ـ بتقديمه النماذج تلك، المنتجة في أعوام متفرقة ـ يقارع تعنتاً ثقافياً غربياً يرى في فلسطين أرضاً وتاريخاً وحكاية إسرائيلية فقط، ويتغاضى كلياً عن جوانب أساسية فيها، كالإبداع السينمائي، الذاهب بالصورة إلى التاريخ لتبيان حقائق مخفية، أو المقبل إلى الآني كي يلتقط نبض الحياة الفردية والجماعية فيها، بأنماطها المتشعبة والمتنوعة.
بالإضافة إلى هذا كله، هناك مفارقة تساهم في تمتين المكانة الثقافية للمهرجان السينمائي الفلسطيني على المستوى الدولي أيضاً (وليس داخل فرنسا فقط)، إذ تبدأ دورته الثانية بعد يوم واحد على انتهاء الدورة الـ 69 لمهرجان "كان"، أي بعد يوم واحد على فوز السينمائي البريطاني كِنْ لوش (1936) بـ "السعفة الذهبية" فيه، عن فيلمه الأخير "أنا، دانيال بليك". ذلك أن لوش أحد أبرز "عرّابي" المهرجان الفلسطيني، انسجاماً مع قناعاته الثقافية والإنسانية والفكرية، المتمثلة بالتزام الحق الفلسطيني المتنوع، وبالعمل اليومي على فضح وحشية إسرائيل وأفعالها الجرمية بحق الفلسطينيين المناهضين لاحتلالها بلدهم، والعمل الدائم على مقاطعتها أكاديمياً وثقافياً، وملاحقتها في أروقة العالم كله عبر تجمعات دولية مختلفة.
لن يكون كِنْ لوش السينمائي الغربي الوحيد، الداعم لـ "مهرجان سينما فلسطين". فإلى جانبه، هناك مواطنه مايك لي، أحد السينمائيين البريطانيين الناشطين في حملات مقاطعة إسرائيل أكاديمياً وثقافياً، بالإضافة إلى أسماء معروفة في السينما والرياضة، كإيريك كانتونا (لاعب كرة قدم سابق وممثل فرنسي) وميرا نائير (مخرجة هندية) وسيمون بيتون (مخرجة فرنسية مغربية) وجولي كريستي (ممثلة بريطانية) وبول لافرتي (كاتب سيناريو) وإيسيار بولاّن (ممثلة ومخرجة وسيناريست إسبانية)، إلى الفلسطينيين محمد بكري وإيليا سليمان ورائد أنضوني، وغيرهم كثيرين.
لا يكتفي لافرتي البريطاني (مواليد كالكوتا، الهند، 1957) باشتغاله السينمائي كسيناريست (كاتب سيناريوهات 14 فيلماً للوش)، إذ يدير جمعية تدافع عن حقوق الإنسان في نيكاراغوا، ويكتب سيناريو "أغنية كارلا" (1995) للوش، الذي يتناول أهوال الخراب في تلك البلاد الأميركية اللاتينية، بالإضافة إلى انتسابه إلى "لجنة العرّابين" الخاصة بـ "محكمة راسل من أجل فلسطين"، التي ينتمي لوش إليها أيضاً، وبدأت أعمالها في 4 مارس/ آذار 2009، كـ "محكمة رأي"، تنشأ من أجل تعبئة الرأي العام "لتتخذ الأمم المتحدة والدول الأعضاء (في مجلس الأمن الدولي) التدابير اللازمة لإنهاء تفلت إسرائيل من العقاب، ولتحقيق تسوية عادلة ودائمة" للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
بهذا المعنى، يفهَم تماماً معنى حضور بول لافرتي ـ والآخرين أيضاً ـ في لائحة داعمي المهرجان السينمائي الفلسطيني، إذ يجمع كل واحد منهم بين نضاله الإنساني من أجل الفرد والجماعة، بالهم السينمائي الذي يترجم بعض نضاله هذا، من دون التغاضي عن الفعل الإبداعي المطلوب لصناعة الصورة السينمائية. إنهم يشكلون أداة ضغط في أوروبا، من خلال المشاركة في تحقيق دورات للمهرجان الفلسطيني، الهادف إلى "وضع سينمائيين فلسطينيين معاصرين في واجهة المشهد"، وإلى تقديم نتاجات لهم، تحمل في طياتها "محتوى فني مغلف بقيمة فنية كبيرة"، و"تعرض قليلاً للغاية في الفضاءات الثقافية الفرنسية، باستثناء بعض الأعمال المهمة".
والمهرجان، إذ تتولى جمعية تحمل اسمه مهام تنظيمه وتفعيل حضوره في فرنسا، يعتبر "حدثاً ثقافياً وفنياً، يهدف إلى جعل أكبر شريحة ممكنة من المشاهدين تكتشف السينما الفلسطينية، كتعبير فريد من نوعه في قلب العالم العربي". كما أن الجمعية تعمل على تقديم "وجهة نظر فنية أخرى للمشاهدين هؤلاء، ليتجاوزوا الأحكام المسبقة والصور النمطية". يرد في التعريف الرسمي للمهرجان: "في الواقع، إذا كانت السينما هذه تروي قصصاً عالمية قادرة على أن تمس الجمهور كله، فإنه يمكنها أيضاً أن تفتح آفاقاً لفهم وقائع يعيشها الشعب الفلسطيني، وأوضاع الشرق بشكل أوسع".
كِنْ لوش: أفلام فلسطينية.. أصوات فلسطينية
في افتتاح الدورة الثانية لـ "مهرجان سينما فلسطين"، المقام في "معهد العالم العربي"، يلقي كِنْ لوش كلمة تعكس شيئاً من جوهر النشاط النضالي له ولزملائه في مواجهة إسرائيل، وتبين بعض المشترك في الأفلام المختارة، أو للسينما الفلسطينية بشكل عام. يتحدث أولاً عن ارتياحه للمشاركة في "مهرجان مهم كهذا"، حيث يستطيع المرء "أن يشاهد أفلاماً فلسطينية، وأن يستمع إلى أصوات فلسطينية أيضاً". يقول إن "إسكات الصوت الفلسطيني في بلدي ليس حادثاً عابراً"، في إشارة منه إلى قرارٍ "سلطوي" يتناغم مع إسرائيل، ويتوقف عند مشاركته وعدد كبير من الناشطين في حراك متنوع الأشكال والأساليب، من أجل فلسطين، معتبراً أن تحديات كثيرة تواجههم، لكنهم لا يملكون خياراً آخر غير "المقاطعة"، أي مقاطعة إسرائيل: "إننا نفعل ما نستطيع أن نفعله".
لن يكتفي لوش بهذا. ففي الفيلم الترويجي الخاص بالدورة الثانية للمهرجان، يقدم شهادة تعكس جوهر قناعته بالتزامه الأخلاقي إزاء فلسطين والفلسطينيين: "أحياناً، يصعب علينا أن نتذكر وجود قصص أخرى أيضاً. قصص عائلية، وأخرى تتناول العلاقات بين الأشخاص. قصص حب وقطع علاقات. قصص أطفال. وهذا كلّه بمتخيل كبير ورائع". وهو يرى في المهرجان هذا "فرصةً لمشاهدة الفعل الإنساني الذي يجعل الفلسطينيين شعباً كبقية الشعوب"، متوقفاً عند تأكده من أن الناس سيشاهدون "ليس فقط قصص الظلم والجور والاضطهاد، بل أيضاً قصص الحياة اليومية، وحيويتها وفكاهتها".
قصص
القصص التي يحدد لوش مكانتها الأساسية في صناعة السينما الفلسطينية، مكشوفة في أفلام مشاركة في المهرجان الفلسطيني هذا، وموثقة في مسارات درامية مفتوحة على جماليات الصورة في قراءة الواقع، وعلى فنون بصرية في مقاربة أحوال وحكايات ("الزمن الباقي" لإيليا سليمان و"روشميا" لسليم أبو جبل، وبعض أعمال هاني أبو أسعد وميشال خليفي مثلاً). قصص مستلة من وقائع العيش في جحيم الاحتلال، من دون الغرق في خطابية السرد، بل بالتعمق في الحس الإنساني العام، المفتوح على دقائق الحياة اليومية الفلسطينية وتفاصيلها ("3000 ليلة" لمي المصري، و"حب، سرقة وأشياء أخرى" لمؤيد عليان). قصص توثق الجرم الإسرائيلي، بارتكازها إما على نسق تقليدي في تركيب الفيلم الوثائقي، وإما على حيوية الكاميرا في مقاربتها الحكاية المختارة ("ملوك وكومبارس" لعزة الحسن، و"المطلوبون الـ 18" لعامر الشوملي وبول كووان). قصص تتخذ من الخيال العلمي تقنية لتحقيق صورة سينمائية، تتجول في أنحاء الذاكرة الفلسطينية وراهنها ومستقبلها ("مبنى الأمة" للاريسا صنصور). قصص تقول واقعاً بلغة ساخرة، أو تروي حكاية المنفى بنص قاس يغلفه إطار سينمائي متماسك البنية والشكل والمحتوى ("عالم ليس لنا" لمهدي فليفل، و"السلام عليك يا مريم" لباسل خليل).
الخيارات تتكامل في سرد الحكاية الفلسطينية، وإن يتخذ كل فيلم مساحته الخاصة بالتعبير وشكله. السرد التاريخي مثلاً مفتوح على معالم سينمائية عديدة: مع إيليا سليمان، يغوص السرد (منذ ما قبل النكبة بقليل، لغاية الراهن) في مسارب التوثيق المبطن في متخيل بصري، يجعل السخرية محركاً للشخصيات وارتباطها بالوقائع واليومي. مع ميشال خليفي، يتحول الوثائقي ("الذاكرة الخصبة"، و"معلول تحتفل بدمارها") إلى مزيج سينمائي بين السرد التأريخي والنص الإنساني والرواية المتخيلة، بينما يصنع الروائي ("نشيد الحجر"، و"عرس الجليل") من الوقائع نواة لتأصيل التأريخ في البناء الدرامي، في محاولة سينمائية لتحرير السرد من تشنج الخطاب النضالي المباشر. السخرية المعتمدة في أفلام إيليا سليمان تجد شيئاً من رونقها في الفيلم القصير "السلام عليك يا مريم"، إذ ينفتح لقاء غير مقصود بين عائلة يهودية متشددة وراهبات مسيحيات منعزلات في ديرهن، على أسئلة العلاقة والثقافة والاجتماع والإيمان والتواصل. في حين أن مزيج الروائي بالتوثيقي والتأريخي، المتكاملة كلها في شكل سينمائي متماسك، يعثر في "عالم ليس لنا" (مخيم عين الحلوة الفلسطيني، المقام بالقرب من صيدا في جنوب لبنان) على مداه الإبداعي، المحمل على حس إنساني.
مهرجان فرنسي يكشف ويكتشف شيئاً كبيراً في صناعة الصورة السينمائية الفلسطينية، وداعمون غربيون يريدون المشاركة في تحقيق عدالة إنسانية لشعب مضطهد، وقادر على صنع صورته وسرد حكايته.
نماذج سينمائية وداعمون غربيون
بمعنى آخر، يقدم "مهرجان سينما فلسطين" نماذج سينمائية عن أحوال بلاد ضائعة بين بطش الاحتلال الإسرائيلي، وانفضاض أجهزة سلطة الحكم الذاتي عنها، وحصار أفكار أصولية متشددة عليها. وهو ـ بتقديمه النماذج تلك، المنتجة في أعوام متفرقة ـ يقارع تعنتاً ثقافياً غربياً يرى في فلسطين أرضاً وتاريخاً وحكاية إسرائيلية فقط، ويتغاضى كلياً عن جوانب أساسية فيها، كالإبداع السينمائي، الذاهب بالصورة إلى التاريخ لتبيان حقائق مخفية، أو المقبل إلى الآني كي يلتقط نبض الحياة الفردية والجماعية فيها، بأنماطها المتشعبة والمتنوعة.
بالإضافة إلى هذا كله، هناك مفارقة تساهم في تمتين المكانة الثقافية للمهرجان السينمائي الفلسطيني على المستوى الدولي أيضاً (وليس داخل فرنسا فقط)، إذ تبدأ دورته الثانية بعد يوم واحد على انتهاء الدورة الـ 69 لمهرجان "كان"، أي بعد يوم واحد على فوز السينمائي البريطاني كِنْ لوش (1936) بـ "السعفة الذهبية" فيه، عن فيلمه الأخير "أنا، دانيال بليك". ذلك أن لوش أحد أبرز "عرّابي" المهرجان الفلسطيني، انسجاماً مع قناعاته الثقافية والإنسانية والفكرية، المتمثلة بالتزام الحق الفلسطيني المتنوع، وبالعمل اليومي على فضح وحشية إسرائيل وأفعالها الجرمية بحق الفلسطينيين المناهضين لاحتلالها بلدهم، والعمل الدائم على مقاطعتها أكاديمياً وثقافياً، وملاحقتها في أروقة العالم كله عبر تجمعات دولية مختلفة.
لن يكون كِنْ لوش السينمائي الغربي الوحيد، الداعم لـ "مهرجان سينما فلسطين". فإلى جانبه، هناك مواطنه مايك لي، أحد السينمائيين البريطانيين الناشطين في حملات مقاطعة إسرائيل أكاديمياً وثقافياً، بالإضافة إلى أسماء معروفة في السينما والرياضة، كإيريك كانتونا (لاعب كرة قدم سابق وممثل فرنسي) وميرا نائير (مخرجة هندية) وسيمون بيتون (مخرجة فرنسية مغربية) وجولي كريستي (ممثلة بريطانية) وبول لافرتي (كاتب سيناريو) وإيسيار بولاّن (ممثلة ومخرجة وسيناريست إسبانية)، إلى الفلسطينيين محمد بكري وإيليا سليمان ورائد أنضوني، وغيرهم كثيرين.
لا يكتفي لافرتي البريطاني (مواليد كالكوتا، الهند، 1957) باشتغاله السينمائي كسيناريست (كاتب سيناريوهات 14 فيلماً للوش)، إذ يدير جمعية تدافع عن حقوق الإنسان في نيكاراغوا، ويكتب سيناريو "أغنية كارلا" (1995) للوش، الذي يتناول أهوال الخراب في تلك البلاد الأميركية اللاتينية، بالإضافة إلى انتسابه إلى "لجنة العرّابين" الخاصة بـ "محكمة راسل من أجل فلسطين"، التي ينتمي لوش إليها أيضاً، وبدأت أعمالها في 4 مارس/ آذار 2009، كـ "محكمة رأي"، تنشأ من أجل تعبئة الرأي العام "لتتخذ الأمم المتحدة والدول الأعضاء (في مجلس الأمن الدولي) التدابير اللازمة لإنهاء تفلت إسرائيل من العقاب، ولتحقيق تسوية عادلة ودائمة" للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
بهذا المعنى، يفهَم تماماً معنى حضور بول لافرتي ـ والآخرين أيضاً ـ في لائحة داعمي المهرجان السينمائي الفلسطيني، إذ يجمع كل واحد منهم بين نضاله الإنساني من أجل الفرد والجماعة، بالهم السينمائي الذي يترجم بعض نضاله هذا، من دون التغاضي عن الفعل الإبداعي المطلوب لصناعة الصورة السينمائية. إنهم يشكلون أداة ضغط في أوروبا، من خلال المشاركة في تحقيق دورات للمهرجان الفلسطيني، الهادف إلى "وضع سينمائيين فلسطينيين معاصرين في واجهة المشهد"، وإلى تقديم نتاجات لهم، تحمل في طياتها "محتوى فني مغلف بقيمة فنية كبيرة"، و"تعرض قليلاً للغاية في الفضاءات الثقافية الفرنسية، باستثناء بعض الأعمال المهمة".
والمهرجان، إذ تتولى جمعية تحمل اسمه مهام تنظيمه وتفعيل حضوره في فرنسا، يعتبر "حدثاً ثقافياً وفنياً، يهدف إلى جعل أكبر شريحة ممكنة من المشاهدين تكتشف السينما الفلسطينية، كتعبير فريد من نوعه في قلب العالم العربي". كما أن الجمعية تعمل على تقديم "وجهة نظر فنية أخرى للمشاهدين هؤلاء، ليتجاوزوا الأحكام المسبقة والصور النمطية". يرد في التعريف الرسمي للمهرجان: "في الواقع، إذا كانت السينما هذه تروي قصصاً عالمية قادرة على أن تمس الجمهور كله، فإنه يمكنها أيضاً أن تفتح آفاقاً لفهم وقائع يعيشها الشعب الفلسطيني، وأوضاع الشرق بشكل أوسع".
كِنْ لوش: أفلام فلسطينية.. أصوات فلسطينية
في افتتاح الدورة الثانية لـ "مهرجان سينما فلسطين"، المقام في "معهد العالم العربي"، يلقي كِنْ لوش كلمة تعكس شيئاً من جوهر النشاط النضالي له ولزملائه في مواجهة إسرائيل، وتبين بعض المشترك في الأفلام المختارة، أو للسينما الفلسطينية بشكل عام. يتحدث أولاً عن ارتياحه للمشاركة في "مهرجان مهم كهذا"، حيث يستطيع المرء "أن يشاهد أفلاماً فلسطينية، وأن يستمع إلى أصوات فلسطينية أيضاً". يقول إن "إسكات الصوت الفلسطيني في بلدي ليس حادثاً عابراً"، في إشارة منه إلى قرارٍ "سلطوي" يتناغم مع إسرائيل، ويتوقف عند مشاركته وعدد كبير من الناشطين في حراك متنوع الأشكال والأساليب، من أجل فلسطين، معتبراً أن تحديات كثيرة تواجههم، لكنهم لا يملكون خياراً آخر غير "المقاطعة"، أي مقاطعة إسرائيل: "إننا نفعل ما نستطيع أن نفعله".
لن يكتفي لوش بهذا. ففي الفيلم الترويجي الخاص بالدورة الثانية للمهرجان، يقدم شهادة تعكس جوهر قناعته بالتزامه الأخلاقي إزاء فلسطين والفلسطينيين: "أحياناً، يصعب علينا أن نتذكر وجود قصص أخرى أيضاً. قصص عائلية، وأخرى تتناول العلاقات بين الأشخاص. قصص حب وقطع علاقات. قصص أطفال. وهذا كلّه بمتخيل كبير ورائع". وهو يرى في المهرجان هذا "فرصةً لمشاهدة الفعل الإنساني الذي يجعل الفلسطينيين شعباً كبقية الشعوب"، متوقفاً عند تأكده من أن الناس سيشاهدون "ليس فقط قصص الظلم والجور والاضطهاد، بل أيضاً قصص الحياة اليومية، وحيويتها وفكاهتها".
قصص
القصص التي يحدد لوش مكانتها الأساسية في صناعة السينما الفلسطينية، مكشوفة في أفلام مشاركة في المهرجان الفلسطيني هذا، وموثقة في مسارات درامية مفتوحة على جماليات الصورة في قراءة الواقع، وعلى فنون بصرية في مقاربة أحوال وحكايات ("الزمن الباقي" لإيليا سليمان و"روشميا" لسليم أبو جبل، وبعض أعمال هاني أبو أسعد وميشال خليفي مثلاً). قصص مستلة من وقائع العيش في جحيم الاحتلال، من دون الغرق في خطابية السرد، بل بالتعمق في الحس الإنساني العام، المفتوح على دقائق الحياة اليومية الفلسطينية وتفاصيلها ("3000 ليلة" لمي المصري، و"حب، سرقة وأشياء أخرى" لمؤيد عليان). قصص توثق الجرم الإسرائيلي، بارتكازها إما على نسق تقليدي في تركيب الفيلم الوثائقي، وإما على حيوية الكاميرا في مقاربتها الحكاية المختارة ("ملوك وكومبارس" لعزة الحسن، و"المطلوبون الـ 18" لعامر الشوملي وبول كووان). قصص تتخذ من الخيال العلمي تقنية لتحقيق صورة سينمائية، تتجول في أنحاء الذاكرة الفلسطينية وراهنها ومستقبلها ("مبنى الأمة" للاريسا صنصور). قصص تقول واقعاً بلغة ساخرة، أو تروي حكاية المنفى بنص قاس يغلفه إطار سينمائي متماسك البنية والشكل والمحتوى ("عالم ليس لنا" لمهدي فليفل، و"السلام عليك يا مريم" لباسل خليل).
الخيارات تتكامل في سرد الحكاية الفلسطينية، وإن يتخذ كل فيلم مساحته الخاصة بالتعبير وشكله. السرد التاريخي مثلاً مفتوح على معالم سينمائية عديدة: مع إيليا سليمان، يغوص السرد (منذ ما قبل النكبة بقليل، لغاية الراهن) في مسارب التوثيق المبطن في متخيل بصري، يجعل السخرية محركاً للشخصيات وارتباطها بالوقائع واليومي. مع ميشال خليفي، يتحول الوثائقي ("الذاكرة الخصبة"، و"معلول تحتفل بدمارها") إلى مزيج سينمائي بين السرد التأريخي والنص الإنساني والرواية المتخيلة، بينما يصنع الروائي ("نشيد الحجر"، و"عرس الجليل") من الوقائع نواة لتأصيل التأريخ في البناء الدرامي، في محاولة سينمائية لتحرير السرد من تشنج الخطاب النضالي المباشر. السخرية المعتمدة في أفلام إيليا سليمان تجد شيئاً من رونقها في الفيلم القصير "السلام عليك يا مريم"، إذ ينفتح لقاء غير مقصود بين عائلة يهودية متشددة وراهبات مسيحيات منعزلات في ديرهن، على أسئلة العلاقة والثقافة والاجتماع والإيمان والتواصل. في حين أن مزيج الروائي بالتوثيقي والتأريخي، المتكاملة كلها في شكل سينمائي متماسك، يعثر في "عالم ليس لنا" (مخيم عين الحلوة الفلسطيني، المقام بالقرب من صيدا في جنوب لبنان) على مداه الإبداعي، المحمل على حس إنساني.
مهرجان فرنسي يكشف ويكتشف شيئاً كبيراً في صناعة الصورة السينمائية الفلسطينية، وداعمون غربيون يريدون المشاركة في تحقيق عدالة إنسانية لشعب مضطهد، وقادر على صنع صورته وسرد حكايته.