تحتل الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، حيزاً واضحاً في اهتمامات مخرجين لبنانيين شباب، يصنعون أفلاماً بناءً عليها، أو انطلاقاً من مناخاتها وتأثيراتها الراهنة، أو رغبةً في استعادة ذاكرتها المصقولة في الذاتيّ والعام، في آن واحد. أفلام مختلفة الأشكال والأنواع وأساليب الاشتغال الدرامي ـ الجماليّ، تنهل من الحرب وحكاياتها وأسئلتها المعلّقة والملتبسة، كما من أهوالها ومشاغلها وتفاصيلها وخيباتها وهواجسها وقضاياها، ما يستقيم في انشغالٍ بصريّ، مفتوح على الثقافة والاجتماع والاختبار الفرديّ، وأسئلة الخراب الممتد من النهاية الغامضة للحرب، حتى اللحظة الآنيّة.
الدورة الـ12 لـ"مهرجان الفيلم اللبناني"، المُقامة في بيروت بين 30 مايو/ أيار و3 يونيو/ حزيران 2016، تُعيد طرح سؤال العلاقة القائمة بين إنتاجات سينمائية محلية والحرب الأهلية. أفلام عديدة تغوص في بعض تفاصيلها، وعناوين عامّة تبدأ من فضاءاتها، كي تكشف شيئاً من وقائع الحال الخاصّة بأفرادٍ يعيشون تجربتها العنفية والدموية، قبل أن يجتهدوا للخروج منها، فينجح بعضهم في ابتكار آليات تحرّر ما منها، وينصرف بعضهم الآخر إليها، عاجزاً عن الخلاص منها، أو رافضاً المآل التي تبلغه في سلم هشّ ومنقوص ومُخادِع.
اقــرأ أيضاً
أفرادٌ وتراكمات
لن تكون الأفلام كلّها، المُشاركة في المهرجان اللبناني هذا، منغمسة في الحرب وعوالمها. لكن سؤال الحرب مطروحٌ، سواء في بعضها المُشارك، أو في أفلام مُنجزة في فترات مختلفة بين العامين 1990 و2016. سؤال الحرب مطروحٌ فيها، إما عبر أفرادٍ يخوضون، ذات أعوام، فصولاً منها على المستوى العسكريّ، فيحملون منها ذكريات عاصفة بالأهوال والمخاوف والقلاقل، من دون أن ينسوا قناعات ما أيضاً تدفعهم، حينها، إلى عيشها كلّياً (وإنْ يروون فصولها الآن بسخرية وضحكة وابتسامة قاسية)، وإما عبر تراكمات نفسية وثقافية وسلوكية، تُقيم في المرء نفسه حتى اللحظة، من دون أن يكون مقاتلاً سابقاً. شخصيات عديدة تظهر في الأفلام المعنية بالحرب، تتوزّع على قتالٍ عسكري أو عيشٍ مدنيّ، فإذا بالكاميرات السينمائية توثّق حكايته، وتدفعه إلى ما يُشبه اغتسالاً جديداً منها، عبر البوح والكادر والعدسة.
الوثائقيّ أداة مفتوحة على المُباشَر، في كلامٍ يستعيدها كأنها قائمة في المرء "الآن هنا"؛ والروائيّ أكثر حيوية في إعادة رسم ملامحها، وإنْ عبر راهنٍ مرتبط بها حتى الالتصاق. التوثيق يعتمد على متخيّلٍ، لإغناء جوانب من الحكايات المروية على ألسنة "أبطالها"؛ والتحريك إضافة سينمائية بحتة على استعادات متنوّعة، يحتلّ مكاناً له فيها، كالوثائقي "عجلات الحرب" لرامي قديح؛ بينما يرتكز بعضها الآخر برمّته على تقنية التحريك، كـShell All، لزافن نجّار. أما الروائيّ، كـ"روحي" لجيهان شعيب و"من السماء" لوسام شرف ـ المعروض في مسابقة ACID في الدورة الـ69 (11 ـ 22 مايو/ أيار 2016) لمهرجان "كانّ" ـ فيذهب بعيداً في الحاضر، باستعادته الماضي من خلال قسوة الآنيّ، إذْ تبدو الحرب، هنا، كأنها لم تغادر الناس أو الحالات أو البيئات.
اقــرأ أيضاً
الأمثلة المذكورة أعلاه جزءٌ من حالة سينمائية لبنانية، تعكس رغبةً شبابية في فهم، أو في محاولة فهم بعض الذاكرة الفردية ـ الجماعية، لحربٍ يؤكّد محاربون سابقون فيها على كونها قذرة وفاسدة، وعلى أن المباح بها متوقّفٌ على القتل والتدمير والنهب، في حين أن "الهجوم" على مناطق الطرف الآخر "خطٌّ أحمر" ممنوع تجاوزه (عجلات الحرب). تعرية الوقائع القديمة، المغلّفة سابقاً بكَمٍّ هائل من الأوهام والأكاذيب، حاضرةٌ في وثائقيّ آخر بعنوان "لي قبور في هذه الأرض" (2016) لرين متري، العائد إلى بعض سني الحرب، لقراءة تفاصيل التهجير والتبديل الديموغرافي، المبني على نزاع الطوائف والمذاهب المتناحرة، وعلى تقاسم الأرض وتفريغها من أبناء الأطراف الأخرى. فيلمٌ قاسٍ لشدّة براعته البصرية في الكشف والتعرية، وفي دفع أفرادٍ إلى بوحٍ يقول بعضه ما يُقال هنا وهناك: قذارة الحرب وفساد متورّطين كثيرين فيها.
حِيَل
الاستعادة، في أفلام "مهرجان الفيلم اللبناني"، مفتوحة على حِيَل عديدة: مباراة الأرجنتين ـ بلجيكا في كرة القدم، أثناء دورة العام 1982 لكأس العالم (في الفترة نفسها، يحدث الاجتياح الإسرائيلي للبنان)، حجّة درامية لغوصٍ مختَصر في أوحال خراب وقتل يمارسه قنّاصة ضد مواطنين يريدون الانتقال بين ضفّتين متخاصمتين (Shell All). "درّاجو" الدرّاجات النارية المعروفة باسم "هارلي دافيدسون"، المنضوون في نادٍ خاصّ بهم، يأتون من ذكريات محمّلة بأسئلة الحرب والدمار والموت، ومعنى الاقتتال، وغموض المقبل من الأيام، ويروون شيئاً مما يعرفون ويعيشون ويتأثّرون به، في الحرب وما بعدها، وفي السلم الراهن وما يحمله من ثقل ماضٍ لا ينتهي، ومن مخاوف جمّة إزاء استمرارية الحرب بأشكال أخرى. وهذا كلّه عبر "حيلة" سينمائية تجمع خصوصية الدرّاجة النارية وعوالمها وارتباط أناسٍ بها، وبين ماضي الحرب وارتباك الراهن (عجلات الحرب). صيّادون يلتقون معاً لممارسة هواية الصيد (التي تشبه هواية قيادة الدرّاجات النارية أيضاً، مع كثيرٍ من الحِرفية لديهم جميعهم)، فإذا بهم يأتون، هم أيضاً، من ماضي حربٍ يغرقون فيها ذات مرّة، ويطرحون أسئلتهم فيها وعنها ومعها، في راهنٍ معلّق وغامض وملتبس، كما في "هدنة" لميريام الحاج.
اقــرأ أيضاً
لن يكون تحليلٌ كهذا شمولياً. الإسقاط النقديّ لا يتغاضى عن جوهر الحكاية المشتركة بين المقاتلين السابقين جميعهم، في "عجلات الحرب" و"هدنة". والجوهر، إذْ يذهب إليه المخرجان منذ اللحظة الأولى، يتمثّل برغبة آنية في فهم بعض الماضي وغموضه، وبعض الحاضر وارتباطه "الوثيق" بالماضي هذا. المقاتلون السابقون يريدون خلاصاً، لن يحصلوا جميعهم عليه لأسبابٍ مختلفة، يرسم الفيلمان شيئاً من معالمه.
وهذا لن يُعفي مُشاهداً من التنبّه إلى اختلاف الاشتغال الوثائقي بين الفيلمين. فرامي قديح يُشبع "عجلات الحرب" بأرشيف قديم (أشرطة فيديو عتيقة، وصور فوتوغرافية للشخصيات المختارة وللحظات من ماضيهم قبل الحرب وفي بداياتها، بالإضافة إلى أشرطة مُصوَّرة عن معارك ورصاص إلخ.)، لن يكون عائقاً أمام "متعة" المُشاهدة، بل تغذية للمتعة وللنصّ وللمضمون الدرامي الحكائيّ أيضاً، ويتحايل على الصورة المتخيَّلة، بالاستعانة الموفَّقة والجميلة بالتحريك، كي يروي شيئاً من خياله هو عن تلك الحرب. أما ميريام الحاج، فتكتفي برحلتها الشخصية المباشرة مع عمّها رياض ورفاق السلاح، في الجغرافيا والروح والذاكرة والتفاصيل.
اقــرأ أيضاً
الروائي الطويل "من السماء" (70 د.) لوسام شرف، مختلفٌ. المنحى الدرامي يستدعي بناء عالم الحرب مجدّداً، من خلال عودة مقاتل (رودريغ سليمان) إلى "الحياة"، بعد 20 عاماً على اختفائه الملتبس، ما يدفع أهله وأصدقاءه، حينها، إلى اعتباره ميتاً. لكن العودة مفتاحٌ لولوج مناخ الحرب مجدّداً، في راهن ممتدٍّ فيها بأشكال أخرى. عودة تضع الشقيق الأصغر (رائد ياسين) للعائد أمام أسئلة حرجة، وإنْ يعاني الفيلم من ثنائية متناقضة: قوّة موضوع، في مقابل ضعف المعالجة. فالعودة من الغياب/ الموت/ الاختفاء لن تكون عابرة، خصوصاً أنها مرتبطة بالحرب، وبما تُخفيه من أمورٍ لا أجوبة واضحة عليها لغاية الآن. في حين أن المعالجة تبقى عادية جداً، بل عاجزة عن تفكيك العوالم القائمة في الراهن، وعن إثارة أي تبدّل في مسارات الناس المحيطين بالعائد، أو في مساراته هو أيضاً. العودة هذه تُشبه، إلى حدّ ما، عودة المقاتل في "أشباح بيروت" (1998) للّبناني غسان سلهب، مع التنبّه إلى الفرق الشاسع بينهما، إذْ يغوص سلهب في الأسئلة المحرجة للحرب والعودة معاً، بلغة سينمائية متماسكة وصادمة في تفكيكها بعض المعاقل الخفية للفرد اللبناني في زمن ما بعد الحرب. وهذا مفقودٌ، إلى حدّ كبير، في "من السماء".
مع جيهان شعيب (روحي)، هناك عودة من نمط آخر، مختلفة كلّياً. فالحفيدة (الإيرانية غولشفته فراهاني) تعود إلى مسقط رأسها الريفيّ في لبنان، بحثاً عن حقيقة جدّها وسرّ اختفائه. والجدّ، إذ يحمل اختفاؤه أسراراً كثيرة، يُشكّل نواة درامية متماسكة لحبكة مفتوحة على مآل الحياة في مرحلة ما بعد الحرب. أما الحفيدة، فتكتشف، أثناء بحثها عن سرّ اختفاء الجدّ، حقائق قاسية عن رجلٍ تعتبره مثالاً يُحتذى به، في حين أن الواقع نقيضٌ قاسٍ لصورة مثالية كهذه.
المعالجة الدرامية ـ البصرية لـ"روحي" متماسكة ومتينة الصُنعة في الفصول الأساسية الأولى منه. في حين أن المقاطع الأخيرة تعاني تبسيطاً في استكمال الحكاية، وخَتْمِها بما يُفترض به أن يكون فضحاً واضحاً لمكامن الخلل والمبطّن في السِيَر كلّها، الخاصّة بالجدّ والحفيد، وأفراد العائلة (أو من تبقى منهم حيّاً)، ولأهل القرية ومسالكهم الحياتية. الفضح، هنا، يبقى بسيطاً وعادياً، في مقابل كثافة الجوانب الدرامية في السياق الحكائيّ العام. وإذْ يبدو الممثلون فاعلين في تأدية أدوار شتّى في البناء الفيلمي، فإن فراهاني "تسطو"، سينمائياً، على المشهد برمّته، بجمالها وحُسن حضورها أمام الكاميرا، وبراعة امتلاكها الدور ـ الشخصية بتقنية احترافية، تعثر، في رؤية المخرجة للدور ـ الشخصية أيضاً، على أداةٍ فنية لتفعيل المطلوب من شابّة تُصرّ على كشف حقائق، ستكون (الحقائق) مصدر إقلاقٍ لها وصدمة.
لن تكون الأفلام كلّها، المُشاركة في المهرجان اللبناني هذا، منغمسة في الحرب وعوالمها. لكن سؤال الحرب مطروحٌ، سواء في بعضها المُشارك، أو في أفلام مُنجزة في فترات مختلفة بين العامين 1990 و2016. سؤال الحرب مطروحٌ فيها، إما عبر أفرادٍ يخوضون، ذات أعوام، فصولاً منها على المستوى العسكريّ، فيحملون منها ذكريات عاصفة بالأهوال والمخاوف والقلاقل، من دون أن ينسوا قناعات ما أيضاً تدفعهم، حينها، إلى عيشها كلّياً (وإنْ يروون فصولها الآن بسخرية وضحكة وابتسامة قاسية)، وإما عبر تراكمات نفسية وثقافية وسلوكية، تُقيم في المرء نفسه حتى اللحظة، من دون أن يكون مقاتلاً سابقاً. شخصيات عديدة تظهر في الأفلام المعنية بالحرب، تتوزّع على قتالٍ عسكري أو عيشٍ مدنيّ، فإذا بالكاميرات السينمائية توثّق حكايته، وتدفعه إلى ما يُشبه اغتسالاً جديداً منها، عبر البوح والكادر والعدسة.
الوثائقيّ أداة مفتوحة على المُباشَر، في كلامٍ يستعيدها كأنها قائمة في المرء "الآن هنا"؛ والروائيّ أكثر حيوية في إعادة رسم ملامحها، وإنْ عبر راهنٍ مرتبط بها حتى الالتصاق. التوثيق يعتمد على متخيّلٍ، لإغناء جوانب من الحكايات المروية على ألسنة "أبطالها"؛ والتحريك إضافة سينمائية بحتة على استعادات متنوّعة، يحتلّ مكاناً له فيها، كالوثائقي "عجلات الحرب" لرامي قديح؛ بينما يرتكز بعضها الآخر برمّته على تقنية التحريك، كـShell All، لزافن نجّار. أما الروائيّ، كـ"روحي" لجيهان شعيب و"من السماء" لوسام شرف ـ المعروض في مسابقة ACID في الدورة الـ69 (11 ـ 22 مايو/ أيار 2016) لمهرجان "كانّ" ـ فيذهب بعيداً في الحاضر، باستعادته الماضي من خلال قسوة الآنيّ، إذْ تبدو الحرب، هنا، كأنها لم تغادر الناس أو الحالات أو البيئات.
الأمثلة المذكورة أعلاه جزءٌ من حالة سينمائية لبنانية، تعكس رغبةً شبابية في فهم، أو في محاولة فهم بعض الذاكرة الفردية ـ الجماعية، لحربٍ يؤكّد محاربون سابقون فيها على كونها قذرة وفاسدة، وعلى أن المباح بها متوقّفٌ على القتل والتدمير والنهب، في حين أن "الهجوم" على مناطق الطرف الآخر "خطٌّ أحمر" ممنوع تجاوزه (عجلات الحرب). تعرية الوقائع القديمة، المغلّفة سابقاً بكَمٍّ هائل من الأوهام والأكاذيب، حاضرةٌ في وثائقيّ آخر بعنوان "لي قبور في هذه الأرض" (2016) لرين متري، العائد إلى بعض سني الحرب، لقراءة تفاصيل التهجير والتبديل الديموغرافي، المبني على نزاع الطوائف والمذاهب المتناحرة، وعلى تقاسم الأرض وتفريغها من أبناء الأطراف الأخرى. فيلمٌ قاسٍ لشدّة براعته البصرية في الكشف والتعرية، وفي دفع أفرادٍ إلى بوحٍ يقول بعضه ما يُقال هنا وهناك: قذارة الحرب وفساد متورّطين كثيرين فيها.
حِيَل
الاستعادة، في أفلام "مهرجان الفيلم اللبناني"، مفتوحة على حِيَل عديدة: مباراة الأرجنتين ـ بلجيكا في كرة القدم، أثناء دورة العام 1982 لكأس العالم (في الفترة نفسها، يحدث الاجتياح الإسرائيلي للبنان)، حجّة درامية لغوصٍ مختَصر في أوحال خراب وقتل يمارسه قنّاصة ضد مواطنين يريدون الانتقال بين ضفّتين متخاصمتين (Shell All). "درّاجو" الدرّاجات النارية المعروفة باسم "هارلي دافيدسون"، المنضوون في نادٍ خاصّ بهم، يأتون من ذكريات محمّلة بأسئلة الحرب والدمار والموت، ومعنى الاقتتال، وغموض المقبل من الأيام، ويروون شيئاً مما يعرفون ويعيشون ويتأثّرون به، في الحرب وما بعدها، وفي السلم الراهن وما يحمله من ثقل ماضٍ لا ينتهي، ومن مخاوف جمّة إزاء استمرارية الحرب بأشكال أخرى. وهذا كلّه عبر "حيلة" سينمائية تجمع خصوصية الدرّاجة النارية وعوالمها وارتباط أناسٍ بها، وبين ماضي الحرب وارتباك الراهن (عجلات الحرب). صيّادون يلتقون معاً لممارسة هواية الصيد (التي تشبه هواية قيادة الدرّاجات النارية أيضاً، مع كثيرٍ من الحِرفية لديهم جميعهم)، فإذا بهم يأتون، هم أيضاً، من ماضي حربٍ يغرقون فيها ذات مرّة، ويطرحون أسئلتهم فيها وعنها ومعها، في راهنٍ معلّق وغامض وملتبس، كما في "هدنة" لميريام الحاج.
"مقاتلو" رامي قديح يعثرون على خلاصٍ لهم من أدران الحرب في الدرّاجات النارية، بينما يلجأ "مقاتلو" ميريام الحاج إلى صيد الطيور، كمحاولة تُعينهم في رحلة الخروج من الماضي. في الدراجات النارية شيءٌ من متنفّس يساهم في بلورة أفق مختلف لحياة أخرى، بينما بنادق الصيد تبدو كأنها تعيد المقاتلين إلى أمكنتهم السابقة فتبقيهم فيها، إذْ يظهر هؤلاء كأنهم يرفضون ـ ولو في لاوعي مخبّأ فيهم ـ التحرّر المطلق منها. كأنهم، بهذا، يرون الآنيّ حرباً متجدّدة، لا يزال "العدو" عاملاً فيها على إلغائهم.
لن يكون تحليلٌ كهذا شمولياً. الإسقاط النقديّ لا يتغاضى عن جوهر الحكاية المشتركة بين المقاتلين السابقين جميعهم، في "عجلات الحرب" و"هدنة". والجوهر، إذْ يذهب إليه المخرجان منذ اللحظة الأولى، يتمثّل برغبة آنية في فهم بعض الماضي وغموضه، وبعض الحاضر وارتباطه "الوثيق" بالماضي هذا. المقاتلون السابقون يريدون خلاصاً، لن يحصلوا جميعهم عليه لأسبابٍ مختلفة، يرسم الفيلمان شيئاً من معالمه.
وهذا لن يُعفي مُشاهداً من التنبّه إلى اختلاف الاشتغال الوثائقي بين الفيلمين. فرامي قديح يُشبع "عجلات الحرب" بأرشيف قديم (أشرطة فيديو عتيقة، وصور فوتوغرافية للشخصيات المختارة وللحظات من ماضيهم قبل الحرب وفي بداياتها، بالإضافة إلى أشرطة مُصوَّرة عن معارك ورصاص إلخ.)، لن يكون عائقاً أمام "متعة" المُشاهدة، بل تغذية للمتعة وللنصّ وللمضمون الدرامي الحكائيّ أيضاً، ويتحايل على الصورة المتخيَّلة، بالاستعانة الموفَّقة والجميلة بالتحريك، كي يروي شيئاً من خياله هو عن تلك الحرب. أما ميريام الحاج، فتكتفي برحلتها الشخصية المباشرة مع عمّها رياض ورفاق السلاح، في الجغرافيا والروح والذاكرة والتفاصيل.
عودة
الروائي الطويل "من السماء" (70 د.) لوسام شرف، مختلفٌ. المنحى الدرامي يستدعي بناء عالم الحرب مجدّداً، من خلال عودة مقاتل (رودريغ سليمان) إلى "الحياة"، بعد 20 عاماً على اختفائه الملتبس، ما يدفع أهله وأصدقاءه، حينها، إلى اعتباره ميتاً. لكن العودة مفتاحٌ لولوج مناخ الحرب مجدّداً، في راهن ممتدٍّ فيها بأشكال أخرى. عودة تضع الشقيق الأصغر (رائد ياسين) للعائد أمام أسئلة حرجة، وإنْ يعاني الفيلم من ثنائية متناقضة: قوّة موضوع، في مقابل ضعف المعالجة. فالعودة من الغياب/ الموت/ الاختفاء لن تكون عابرة، خصوصاً أنها مرتبطة بالحرب، وبما تُخفيه من أمورٍ لا أجوبة واضحة عليها لغاية الآن. في حين أن المعالجة تبقى عادية جداً، بل عاجزة عن تفكيك العوالم القائمة في الراهن، وعن إثارة أي تبدّل في مسارات الناس المحيطين بالعائد، أو في مساراته هو أيضاً. العودة هذه تُشبه، إلى حدّ ما، عودة المقاتل في "أشباح بيروت" (1998) للّبناني غسان سلهب، مع التنبّه إلى الفرق الشاسع بينهما، إذْ يغوص سلهب في الأسئلة المحرجة للحرب والعودة معاً، بلغة سينمائية متماسكة وصادمة في تفكيكها بعض المعاقل الخفية للفرد اللبناني في زمن ما بعد الحرب. وهذا مفقودٌ، إلى حدّ كبير، في "من السماء".
مع جيهان شعيب (روحي)، هناك عودة من نمط آخر، مختلفة كلّياً. فالحفيدة (الإيرانية غولشفته فراهاني) تعود إلى مسقط رأسها الريفيّ في لبنان، بحثاً عن حقيقة جدّها وسرّ اختفائه. والجدّ، إذ يحمل اختفاؤه أسراراً كثيرة، يُشكّل نواة درامية متماسكة لحبكة مفتوحة على مآل الحياة في مرحلة ما بعد الحرب. أما الحفيدة، فتكتشف، أثناء بحثها عن سرّ اختفاء الجدّ، حقائق قاسية عن رجلٍ تعتبره مثالاً يُحتذى به، في حين أن الواقع نقيضٌ قاسٍ لصورة مثالية كهذه.
المعالجة الدرامية ـ البصرية لـ"روحي" متماسكة ومتينة الصُنعة في الفصول الأساسية الأولى منه. في حين أن المقاطع الأخيرة تعاني تبسيطاً في استكمال الحكاية، وخَتْمِها بما يُفترض به أن يكون فضحاً واضحاً لمكامن الخلل والمبطّن في السِيَر كلّها، الخاصّة بالجدّ والحفيد، وأفراد العائلة (أو من تبقى منهم حيّاً)، ولأهل القرية ومسالكهم الحياتية. الفضح، هنا، يبقى بسيطاً وعادياً، في مقابل كثافة الجوانب الدرامية في السياق الحكائيّ العام. وإذْ يبدو الممثلون فاعلين في تأدية أدوار شتّى في البناء الفيلمي، فإن فراهاني "تسطو"، سينمائياً، على المشهد برمّته، بجمالها وحُسن حضورها أمام الكاميرا، وبراعة امتلاكها الدور ـ الشخصية بتقنية احترافية، تعثر، في رؤية المخرجة للدور ـ الشخصية أيضاً، على أداةٍ فنية لتفعيل المطلوب من شابّة تُصرّ على كشف حقائق، ستكون (الحقائق) مصدر إقلاقٍ لها وصدمة.