استمع إلى الملخص
- يوضح النص استخدام الإعلام الغربي لأساليب ماكرة لتقليل مصداقية الأخبار المتعلقة بغزة، مثل تقديم الضحايا كأرقام غير موثوقة وتغييب الأصوات المؤيدة للفلسطينيين.
- يشير النص إلى أن هذه الاستراتيجيات جزء من خطة منهجية لتغييب الصوت الفلسطيني، داعيًا المثقفين لمواجهة هذا التحيز الإعلامي والدفاع عن الحقائق.
العلاقة بين المثقّف ووسائل الإعلام عضويّة أكثر من أي وقتٍ مضى، يمرّر عبرها إنتاجه الذهني ومنها يتلقّى مضمون نظرياته وآرائه. ازدادت هذه الصلة تأكّداً بعد انحلال بنية الإعلام التقليدية ومزاحمة شبكات التواصل الاجتماعي. ولهذا بات نقد هذه الوسائل من بين موضوعات الخطاب الفكري المعاصر، وهذا بعض ما قام به إدوارد سعيد في كتابه "تغطية الإسلام" (1981) الذي يبدو اليوم راهناً للغاية بسبب تعامل وسائل الإعلام الغربية مع حرب الإبادة التي تجري في غزّة والتي يعتبرها الكثير من الحقوقيّين ورجال القانون أكبر اختبار للضمير الأوربي في هذا القرن.
ورغم تناول التحيّز الإعلامي في العديد من الدراسات، فإنّنا نشعر أنّه لم يُستوعب بالشكل الكافي. إن متابعة ما تبثّه إذاعات فرنسا شبه الرسمية على مدار الساعة حول ما يجري في غزّة كاف كي يأخذ المرء فكرة عن استراتيجيات التغييب المتبعة في الغرب عموماً، وفي فرنسا بشكل خاص.
تقوم استراتيجية التغييب على مبدأ تجاهل حرب الإبادة باعتبارها لا حدثًا. وحين يكون عدد الضحايا كبيرًا لا مفرّ من ذكره، يأتي الخبر في آخر القائمة كما لو كان "واقعة منفصلة" لا يمكن إدراجها ضمن سلسلة الأحداث التي تستحق السرد وتحظى برتبة الأولية بين الأحداث الأخرى. ومن جهة ثانية، يأتي الإعلان عن عدد القتلى مسبوقاً أو مختوماً بعبارة: "حسب أرقام وزارة صحة حماس"، في صياغة ماكرة تقلّل من مصداقية الخبر وتنسبه إلى الطرف المحارِب، مما يضفي عليه ظلالًا من الشكّ ويضعف حُجّية معلوماته، بل ويسقط ما يمكن أن يترتب عنها من آثار.
عند كل مجزرة في غزّة، تُعرض تقارير عن عائلات الإسرائيليين
كما تشهد حلقات النقاش تغييباً مقصوداً للصوت الموالي للفلسطينيّين: ففي أحسن الحالات يُستقدم مشاركٌ لا يُتقن اللغة الفرنسية ولا مناهج الجدل، مما يجعل عرضَ وجهة نظره ضعيفًا، لا يقدر على مواجهة السردية الأخرى ناهيك عن تفنيدها. وفي المقابل، يُستدعى متحدّث الجهة الأخرى وقد صقل حججَه وأعدّها بصرامة، مما يقلب موازين النقاش تماماً.
وتضاف لهذا طريقة توزيع الوقت لكلِّ متدخّل: ففي الوقت الذي يُتاح فيه فضاء غير محدود للمحكية الإسرائيلية، لا يُمنح للفلسطينيّين سوى حيّز ضيّق لا يسمح لهم فيه باستعراض وجهة نظرهم إطلاقًا. ولا ندري وفق أي معايير أخلاقية، قانونية أو صحافية يقع التباكي على مائة "رهينة"/أسير وتضخيم كلّ ما يتعلق بهم من أخبار، في حين يتم تجاهل موت أكثر من ثلاثة وأربعين ألف ضحيّة، جلّهم من الأطفال والنساء والشيوخ، فضلاً عن تدمير قطّاع بأسره.
وكلّما حصلت مجزرة في غزّة؛ والمجازر شبه يوميّة، تُعدُّ الإذاعات الفرنسية تقريراً عن عائلات الأسرى الإسرائيليين ومعاناتهم، في تلاعب مقصود بأوجاع الناس والمزايدة على آلامهم التي تضخّم هنا وتُغيَّب هناك.
أما تقنية المراسلين وتقاريرهم، فالبون أيضًا شاسع: ففي الوقت الذي يقدّم فيه مراسلون إسرائيليون من عين المكان وغالبهم يهود حاضرون في المشهد، لا يُرسل أيّ صحافيّ إلى غزّة بذريعة التحفظات الأمنية. وفي أفضل الحالات، يتلو المراسل الفرنسي تقريره من الأردن أو من القدس المحتلّة، وهو ما يجعل كلامه مجرد كلام، لا شهادة حيّة.
صياغات إعلامية ماكرة للتشكيك بعدد ضحايا الإبادة في غزّة
ومن آخر الأمثلة، تغطية الإعلام الفرنسي لمظاهرات فالنسيا الإسبانية مقابل تغييب كامل لحرب مدمِّرة، وذلك بإيفاد المراسلين الميدانيين والتغطية صوتًا وصورة رغم أنَّ الأمر لا يتعلق سوى ببضع عشرات من الإصابات واحتجاجات على مسؤولين بسبب ضعف البنى التحتية أمام الكوارث، أما أمام الكوارث الأخطر فيصمتون. وإن قُيّض لأحد الصحافيين الوصول إلى غزّة، تركّز عمله على إظهار الأصوات المعارضة للتيّار، لتضخيم حالة فردية تنتقد توجّهات حماس، وذلك في جهد خفيّ لترسيخ السردية الإسرائيلية التي تزعم أنَّ الحركة "تضغط" على مجتمع غزّة وتفرض عليه رؤاها، كما لو كانت كياناً غريباً لم يولد من رحم هذه الأرض ولم يهبّ للدفاع عنها باسم فئاتها الاجتماعية كافة.
وهكذا، فإنَّ آليات التغييب تشكّل "استراتيجية متكاملة" تُوظف بحسب السياقات لإضعاف الصوت الفلسيطني الغزّي وتغييب صورته ومعاناته، بحيث يظلّ حيّز المعلومات الذي يتعامل معه الوعي؛ وعي المشاهدين والمستمعين من مثقفين وعامة، هو فقط ما يُسمح بنشره، في أكبر عملية تزييف للواقع وسرقة لحقّ الفهم والتحليل. فالواقع المُقدّم والمعرفة التي تُبنى حوله هي نتاج مسار مقصود في التضليل، يهدف إلى تبرير الانتهاكات الإسرائيلية وترسيخ خطابها المغلوط، الذي يُفترض أن يغذّي وعي الغرب وتقييمه للأشياء.
ولا ينكر أحد أنَّ هذا التضليل لم ينجح مع عديد الفئات الاجتماعية، وأنَّ الصوت الفلسطيني رغم محاولات إسكاته والتعمية عليه قد بلغ الشارع الأوروبي وحرّكه، لا سيّما في إسبانيا والبرتغال، غير أنّ ذلك كان بفضل قنوات كافحت من أجل المغايرة، وأتاحت للواقع أن يظهر من خلف الأغلال المفروضة عليه.
وغنيٌّ عن القول إنّ هذه الصحافة تعمل بمنأى عن القيم المهنية والموضوعية التي غالباً ما تتبجّح بها، متّهمةً الصحافة غير الغربية بالتحيّز، في استمرار للنهج المتفوّق الذي يمثّل الغير دائماً في صورة دونية. ولذلك، يمثّل هذا النوع من تعامل الإعلام الغربي ضربة أخرى للحداثة وقيمها، لأنّه يُسهم في تزييف الوعي الحرّ ويعمل على تغييبه وإغراقه في الأوهام وأنصاف الحقائق. إنها ضربة للثقافة بما هي تطلّع للوقوف على الواقع كما هو، بعيداً عن تلاعبات الخطاب الرسمي الذي تحرّكه مصالح المال وتوجيهات الأيديولوجيا، وهي كلّها تُناقض حقّ الحصول على معلومة حقّة، فضلاً عن توظيف الحسّ النقدي في التعامل مع الظواهر المنقولة.
وليست هذه الخطوات مجرد تحيّز إعلامي مكشوف، بل هي أكثر خفاءً وأشدّ إقصاءً، لأنّها ترتقي إلى خطّة منهجية غرضها تغييب صوت الآخر وصورته، أي إبادته من المشهد الإعلامي ومن الوعي وحتّى من التعاطف. فهي أدهى بكثير من ازدواجية المعايير؛ إذ إن هذه الأخيرة أهون الشرَّيْن، حيث تقرّ بوجود طرف مستضعَف. أما الإبادة الإعلامية، فهي كنظيرتها العسكرية الواقعية، تتوسل بكل الأدوات المنطقية أو تلك التي تظهرها بهذه الصورة، بغية السيطرة على العقل وتدمير كل حظوظ الفلسطينيّين في إيصال مأساتهم إلى الرأي العام.
والأنكى أن بعض المثقفين يصفون هذه المآسي بأنها "محض أحداث تُحفظ في خزائن التاريخ" لتشهد عليه ولو بعد حين. وهي دعوة للتهرّب من المسؤولية الأخلاقية والمعرفية التي تقع على عاتق المثقف، الآن وهنا، قبل أن تُدفع المأساة إلى أرشيف التاريخ، وينتهون هم إلى مزابله.
وهذا الأسلوب المضلل هو عدو المثقف الأول وعليه أن يجعل الإعلامَ موضوع نقده الرئيس وأن يخضعه لآليات التشريح. ففي هذه المرحلة بالذات، يتبين أن التعامل الإعلامي مع حرب غزة سقوط آخر لمعقل من معاقل الحداثة وما تبقى فيها من بيوت الحس الأخلاقي.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس