13 نوفمبر 2024
أفول أساطير الهيمنة الإيرانية
وضع الأكاديمي الأميركي من أصل إيراني، والي رضا نصر، في عام 2006، كتاباً ترك أثراً مهماً في دوائر واشنطن الأكاديمية والسياسية، اسمه (الصحوة الشيعية: كيف سيرسم الصراع داخل الإسلام مستقبل المنطقة). صدر الكتاب حين كان صاحبه يعمل مستشاراً لدى البيت الأبيض وفي مجلس الأمن القومي الأميركي، ويقال إنه ترك أثراً في تفكير نائب الرئيس ديك تشيني الذي أعجبته فكرة استخدام "الشيعة" لمواجهة "الجهاد السني" الذي ضرب الولايات المتحدة عام 2001، وقاوم احتلالها للعراق بعد عام 2003. وكان الأميركيون قد اكتشفوا، بعد غزوهم العراق، أن المسلمين ينقسمون إلى سنة وشيعة. وتسهيلاً لإدراك أبعاد هذا الانقسام، أخذوا يقارنوه بشكل سطحي بالانقسام الكاثوليكي-البروتستانتي في الكنيسة المسيحية الغربية.
بعد أن أسهب نصر في الحديث عن تاريخ الصراع السني-الشيعي منذ فجر الإسلام، وصل إلى نتيجة مفادها بأن إيران (قائدة المعسكر الشيعي) هي اليوم في حالة صعود، وأنها، بفعل الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان، أخذت تتحول إلى دولة مهيمنة على مستوى الإقليم، وأن الصعود الإيراني غير قابل للنكوص، وأن من مصلحة الولايات المتحدة أن تنفتح عليها، لأن المستقبل لإيران ولمدّها.
وضع والي نصر كتابه، وقدم نبوءته، في وقت كانت تعاني فيه الولايات المتحدة صعوبة في ضبط الوضع الأمني في العراق، وبرز على الإثر ميل في بعض دوائر النخبة الأميركية للانفتاح على إيران، أملاً في الحصول على تعاونها في تحقيق استقرار في العراق وعموم المنطقة، يسمح بوقف النزف الأميركي وإعادة التموضع، وقد انعكس هذا الميل في توصيات لجنة بيكر-هاملتون التي أنشأها الكونغرس الأميركي، وأصدرت تقريرها الشهير في خريف عام 2006، مطالباً بالانفتاح على "محور الممانعة" في المنطقة.
مقاربة واهية
عند مجيئه إلى السلطة مطلع عام 2009، تبنى الرئيس الأميركي، باراك أوباما، توصيات لجنة بيكر-هاملتون، وهي سياسية بطبيعة الحال. لكنه، وللمفارقة، تبناها في إطار مقاربة والي نصر (المذهبية)، وهو مستمر في ترجمتها من خلال سعيه إلى التقارب مع إيران، من بوابة حل قضية ملفها النووي. هذه المقاربة التي يطغى عليها السلوك النفعي القائم على التقارب مع من يعتقد أنه الطرف الأقوى، أو الصاعد في معادلة الصراع، التي ما عاد الأميركيون يرونها إلا من زاوية الانقسام السني-الشيعي، خادعة ومضللة في الوقت نفسه، ليس فقط لأنها تأخذ الصراع بعيداً عن جوهره الحقيقي، باعتباره صراعاً على القوة والنفوذ، بل لأنها تضعه في غلاف طائفي، لا يساعد، أيضاً، على فهم المشكلة ومقاربتها. علاوة على ذلك، تبدو مقاربة والي نصر، التي يتبناها أوباما، شديدة الشبه بنظرية صمويل هنتغتون، التي يرفضها أوباما، لأنها تقوم على وهم تقسيم العالم و"خندقته"، بحسب الحضارات والثقافات والأديان، متجاهلة حقيقة أن التناقض داخل الحضارة الواحدة يتجاوز، بعمقه وعنفه أحياناً، ما بين الحضارات، ما يعني، استتباعاً، أنه لا يمكن النظر إلى ما يجري في المنطقة من بوابة التناقض المذهبي، وإلا لصار صعباً فهم لماذا حاربت السعودية حكم الإخوان المسلمين في مصر، أو لماذا انضمت دول عربية إلى التحالف الذي تقوده واشنطن ضد تنظيم الدولة الإسلامية، أو لماذا تقف إيران مع أرمينيا المسيحية في مواجهة أذربيجان الشيعية.
مع ذلك، حتى لو قبلنا بفكرة أن الصراع في العالم الإسلامي اليوم مذهبي سني – شيعي، نجد أن حسابات واشنطن هنا خاطئة أيضاً، كما كانت دوماً في مقاربتها للمنطقة، فقدرة إيران على التمدد، خصوصاً في العالم العربي، محدودة للغاية، وهي، في طور الانحسار والتراجع، بعد أن بلغت الذروة، مدفوعة بجملة حقائق جغرافية وديموغرافية، أهمها:
1- الشيعة يمثلون أقلية في العالم الإسلامي (13% من إجمالي عدد المسلمين في أفضل التقديرات) وهناك أربع دول فقط، من أصل 57 دولة عضو في منظمة التعاون الإسلامي، غالبية سكانها من الشيعة، إيران أذربيجان والبحرين والعراق. وحتى في العراق، فإن الشيعة يشكلون أغلبية بسيطة، إذا تجاوزنا الانقسام الإثني (غالبية الأكراد من السنة). لا شك أن هناك أقليات شيعية كبيرة في دول عدة، مثل أفغانستان وباكستان وبعض دول الخليج ولبنان، كما يشكل الشيعة نحو 20% من مسلمي الهند، البالغ عددهم نحو 200 مليون نسمة، إلا أن كل هؤلاء يبقون أقليات، ومحكومين بسلوك الأقلية.
2 - كما أن السنة منقسمون، فإن الشيعة أكثر انقساماً، وعلى الرغم من أن الإمامية الإثني عشرية تشكل المذهب الأكثر انتشاراً بين الشيعة، إلا أن هناك مذاهب أخرى أيضاً، مثل الإسماعيلية والزيدية وغيرها. والشيعة أيضاً، كما السنة، يختلفون ليس في المذهب فقط، إنما في اللغة والثقافة والقومية والعرق والمواقف السياسية والأيديولوجية، ما ينفي عنهم صفة الوحدة، ويجعل الحديث عنهم بصفتهم معسكراً واحداً أمراً متخيلاً. لاحظ، مثلاً، الخلافات المستحكمة بين القوى السياسية الشيعية في العراق. لهذا السبب أيضاً، لم يتمكن الشيعة من حكم مناطق مهمة، فترات طويلة في العالم العربي أو الإسلامي، ربما باستثناء الفاطميين الذين أسسوا دولتهم في القاهرة، وامتد نفوذهم من شواطئ المغرب على الأطلسي وحتى الحجاز، بين القرنين العاشر والثاني عشر.
3 - تقع الزعامة الشيعية اليوم بيد الإيرانيين وليس العرب، ما يشكل عائقاً كبيراً في وجه التمدد الشيعي في العالم العربي، فلو كانت الزعامة بيد العرب لأمكن استثمار حب عموم أهل السنة وتعلقهم بآل البيت في الانتشار والسيطرة، كما حصل في عهد الفاطميين والحمدانيين. وعلى الرغم من أن جزءاً كبيراً من الشيعة العرب يتحالفون مع إيران اليوم، إلا أن هذا الحلف هو حلف ضرورة، عابر، وناجم، بشكل رئيس، عن إحساس الشيعة العرب، أو جزء منهم، بالتهميش والإقصاء في بلدانهم، أو نتيجة استغلال إيران مخاوفهم الحقيقية، أو المتخيلة، من أخوانهم السنة. ويتجلى الصراع العربي-الإيراني على الزعامة الشيعية اليوم في الخلاف بين مرجعية النجف التي تعمل إيران على تهميشها لصالح مرجعية قم، علماً أن مرجعية النجف ترفض فكرة ولاية الفقيه التي تشكل أساس وجود النظام الايراني ومنطقه.
4 - تعاني إيران نفسها من انقسامات وتناقضات تصل إلى حد العداوة بين الليبراليين والمحافظين وبين القوى الديموقراطية والدينية، كما أن هناك توترات متزايدة بين الشعوب والإثنيات والمذاهب التي تتكون منها، فنسبة الفرس لا تتجاوز، وفق أرقام رسمية، 51% من مجموع السكان، فيما يشكل الأذريون 24%، ويتوزع الباقون بين أكراد وعرب وبلوش وغيرهم، وعلى الرغم من أن غالبية السكان يدينون بالمذهب الإثني عشري (85%)، إلا أن 58% منهم فقط يتحدثون الفارسية، فيما يتحدث التركية 26%، وبقية السكان يتحدثون الكردية والعربية وغيرها من اللغات. هذا يعني أن إيران أقل انسجاماً، حتى من دول المشرق العربي التي تفتك بها الصراعات الاثنية والمذهبية، ويجعل إيران مرشحة، مثل غيرها من دول المنطقة، للدخول في صراعات من هذا النوع، نظراً لشدة الاحتقان السائد في المنطقة، وميل جميع اللاعبين في الإقليم إلى استخدام ورقة التنوع الطائفي والإثني والمذهبي أداة للصراع والمواجهة، وسوف يبدو هذا المزيج أكثر عرضة للانفجار، بمجرد أن تتم تسوية ملف إيران النووي، ويبدأ فك الحصار عنها وإدماجها في النظام الدولي، حيث ستطفو كل القضايا والخلاقات الداخلية المؤجلة على السطح، بمجرد اختفاء صورة الشيطان الأكبر.
محاولات تمدد صعبة
حاولت إيران التي اعتمدت الإمامية الاثني عشرية مذهباً رسمياً لها بنص دستورها، بعد عام 1979، تقديم نفسها باعتبارها حامية للمذهب، وبدأت تعمل على التمدد في المنطقة، عبر دعم الأقليات الشيعية في دول الجوار، مستفيدة من سياسات التهميش التي اعتمدتها النظم الحاكمة فيها، وهي، والحق يقال، طالت جميع مواطنيها، سنة كانوا أو شيعة أو خلافه. مع ذلك، لم يكن هذا التمدد أمراً يسيراً، إذ حاولت إيران، أول الأمر، مد نفوذها إلى أذربيجان، باعتبار أن معظم سكان هذه من الشيعة، لكنها فشلت في عهد الاتحاد السوفييتي، كما فشلت بعد سقوطه، إذ قاومت أذربيجان المستقلة التي يحكمها نظام علماني "أتاتوركي" بقوة محاولات إيران النفاذ إليها من بوابة المذهب. وتتخذ أذربيجان اليوم سياسات شديدة العداء تجاه إيران، لدرجة أنها عرضت استخدام أراضيها لتوجيه ضربة عسكرية لمنشآت إيران النووية.
كما تصدت الهند وباكستان، وحتى أفغانستان، لمحاولات إيران النفاذ إليها عبر الأقليات الشيعية الموجودة لديها. وبانغلاق المجال أمامها في الشمال والشرق، لم يتبق أمام إيران إلا العالم العربي لتحاول التمدد فيه. فشلت إيران أول الأمر في إحداث اختراق في العراق، بسبب قوته وقدرته على صدها، لكنها نجحت في إنشاء تحالف وثيق مع نظام دمشق، ما ساعدها في إنشاء موطئ قدم لها في العراق (عبر حزب الدعوة) وفي لبنان (عبر حزب الله) الذي تحول إلى أحد أهم أذرع إيران في المنطقة.
أدى قرار غزو الكويت عام 1990 إلى إضعاف قدرة العراق على مقاومة التغلغل الإيراني، كما أضعف السلطة المركزية في بغداد في مقابل تنامي طموحات مكونات المجتمع الاثنية والمذهبية (من الشيعة والأكراد) التي أخذت تتطلع إلى الخارج (إيران وأميركا) من أجل الدعم والمساندة. ولم يحل الغزو الأميركي عام 2003 حتى كان العراق جاهزاً للوقوع في القبضة الإيرانية، ما سمح بنشوء قوس نفوذ إيراني عابر للحدود من أفغانستان وحتى المتوسط.
وجدت إيران في الربيع العربي فرصة لمزيد من التمدد، هذه المرة في الجزيرة العربية، بعد أن تمكنت من تأمين حدودها الغربية، حيث غدا العراق تحت هيمنتها حتى قبل أن يغادر الأميركيون. وقد حاولت إيران استخدام الانتفاضة "الشيعية" في البحرين مطلع عام 2011 لمصلحتها لكن التدخل السريع للسعودية وقوات درع الجزيرة أحبط المحاولة، ثم تلقت إيران ضربة قوية أخرى في سورية مع اندلاع الثورة التي هددت بتقويض كل إنجازاتها، في العقدين الماضيين، فسقوط نظام الأسد يهدد بعزل حزب الله، وإن لم يؤد إلى إنهائه، ويهدد بفقدان السيطرة الشيعية على السلطة في بغداد. كما أدى صعود تنظيم الدولة وسيطرته على مناطق شاسعة من العراق وسورية إلى هز أركان الهيمنة الإيرانية في عموم الهلال الخصيب، ثم جاء التدخل العسكري السعودي المباشر في اليمن في مارس/آذار من هذا العام، ليكشف تماماً حدود وقدرات الفعل الإيراني على امتداد المنطقة.
معركة خاسرة
مع ذلك، وعلى الرغم من تضعضع الهيمنة الإيرانية في السنوات الثلاث الماضية، إلا أن طهران تحاول الاستفادة من جملة متغيرات، طرأت في السنة الأخيرة على خط المواجهة المفتوحة، لتغيير المعطيات لمصلحتها، مثل إعلان أميركا الحرب على تنظيم الدولة، وتوجس واشنطن من سقوط نظام بشار الأسد، واتجاه السعوديين نحو حرب استنزاف طويلة في اليمن. كما تأمل طهران في أن يؤدي صعود تيارات السلفية الجهادية إلى إضعاف مواقع السعودية، في الإقليم كما في الداخل، وحدوث تحولات في الرأي العام العالمي، والغربي خصوصاً، لصالحها في المعركة مع تنظيم الدولة. بيد أن كل هذه العوامل قد تتغير بدورها في وضع إقليمي ودولي شديد السيولة ومنفتح على الاحتمالات كافة، وقد ظهرت بعض تجلياتها، أخيراً، بالفعل مع تحقيق المعارضة السورية مكاسب مهمة على الأرض، ومع تحسن العلاقات التركية-السعودية، ورفع وتيرة التنسيق بين البلدين، فيما يخص جملة من الملفات الإقليمية.
فوق ذلك، تتمثل العوامل الجوهرية، والتي ستبقى، فترة طويلة جداً على الأرجح، من دون تغيير كبير، في أنه، وببساطة، هناك خلل كبير في موازين القوى بين إيران وخصومها في المنطقة، ليس فقط في الكثرة العددية، إنما في الإمكانات أيضاً، وهناك احتقان طائفي شديد، يجعل من غير الممكن أن يحكم حلفاء إيران بقوة السلاح، فحزب الله، وعلى الرغم من تفوقه العسكري الكبير في لبنان، لم يتمكّن من السيطرة على الحكم، ولا يبدو أن لديه، الآن، فرصة للقيام بذلك حتى لو أراد، أما الحوثيون في اليمن، فلن يستطيعوا، مهما فعلوا، أن يفرضوا سيطرتهم على اليمن خارج مناطقهم، لا بل خارج صعدة. وفي العراق، تتنامى المقاومة السنية للنفوذ الإيراني بقوة وسرعة، وحتى في بعض المناطق الشيعية يبدو تنظيم الدولة الإسلامية حاضراً وقوياً.
بحسبة بسيطة، هذه معركة (إذا أصرت إيران على جعلها مذهبية) خاسرة، وهي أيضاً خاسرة بالنسبة للولايات المتحدة إذا قررت أن تذهب فعلاً باتجاه التعاون مع إيران في إطار المقاربة الخادعة التي نظّر لها والي نصر، واعتنقها أوباما وتتحدث عن حرب سنية - شيعية داخل الإسلام.
بعد أن أسهب نصر في الحديث عن تاريخ الصراع السني-الشيعي منذ فجر الإسلام، وصل إلى نتيجة مفادها بأن إيران (قائدة المعسكر الشيعي) هي اليوم في حالة صعود، وأنها، بفعل الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان، أخذت تتحول إلى دولة مهيمنة على مستوى الإقليم، وأن الصعود الإيراني غير قابل للنكوص، وأن من مصلحة الولايات المتحدة أن تنفتح عليها، لأن المستقبل لإيران ولمدّها.
وضع والي نصر كتابه، وقدم نبوءته، في وقت كانت تعاني فيه الولايات المتحدة صعوبة في ضبط الوضع الأمني في العراق، وبرز على الإثر ميل في بعض دوائر النخبة الأميركية للانفتاح على إيران، أملاً في الحصول على تعاونها في تحقيق استقرار في العراق وعموم المنطقة، يسمح بوقف النزف الأميركي وإعادة التموضع، وقد انعكس هذا الميل في توصيات لجنة بيكر-هاملتون التي أنشأها الكونغرس الأميركي، وأصدرت تقريرها الشهير في خريف عام 2006، مطالباً بالانفتاح على "محور الممانعة" في المنطقة.
مقاربة واهية
عند مجيئه إلى السلطة مطلع عام 2009، تبنى الرئيس الأميركي، باراك أوباما، توصيات لجنة بيكر-هاملتون، وهي سياسية بطبيعة الحال. لكنه، وللمفارقة، تبناها في إطار مقاربة والي نصر (المذهبية)، وهو مستمر في ترجمتها من خلال سعيه إلى التقارب مع إيران، من بوابة حل قضية ملفها النووي. هذه المقاربة التي يطغى عليها السلوك النفعي القائم على التقارب مع من يعتقد أنه الطرف الأقوى، أو الصاعد في معادلة الصراع، التي ما عاد الأميركيون يرونها إلا من زاوية الانقسام السني-الشيعي، خادعة ومضللة في الوقت نفسه، ليس فقط لأنها تأخذ الصراع بعيداً عن جوهره الحقيقي، باعتباره صراعاً على القوة والنفوذ، بل لأنها تضعه في غلاف طائفي، لا يساعد، أيضاً، على فهم المشكلة ومقاربتها. علاوة على ذلك، تبدو مقاربة والي نصر، التي يتبناها أوباما، شديدة الشبه بنظرية صمويل هنتغتون، التي يرفضها أوباما، لأنها تقوم على وهم تقسيم العالم و"خندقته"، بحسب الحضارات والثقافات والأديان، متجاهلة حقيقة أن التناقض داخل الحضارة الواحدة يتجاوز، بعمقه وعنفه أحياناً، ما بين الحضارات، ما يعني، استتباعاً، أنه لا يمكن النظر إلى ما يجري في المنطقة من بوابة التناقض المذهبي، وإلا لصار صعباً فهم لماذا حاربت السعودية حكم الإخوان المسلمين في مصر، أو لماذا انضمت دول عربية إلى التحالف الذي تقوده واشنطن ضد تنظيم الدولة الإسلامية، أو لماذا تقف إيران مع أرمينيا المسيحية في مواجهة أذربيجان الشيعية.
مع ذلك، حتى لو قبلنا بفكرة أن الصراع في العالم الإسلامي اليوم مذهبي سني – شيعي، نجد أن حسابات واشنطن هنا خاطئة أيضاً، كما كانت دوماً في مقاربتها للمنطقة، فقدرة إيران على التمدد، خصوصاً في العالم العربي، محدودة للغاية، وهي، في طور الانحسار والتراجع، بعد أن بلغت الذروة، مدفوعة بجملة حقائق جغرافية وديموغرافية، أهمها:
1- الشيعة يمثلون أقلية في العالم الإسلامي (13% من إجمالي عدد المسلمين في أفضل التقديرات) وهناك أربع دول فقط، من أصل 57 دولة عضو في منظمة التعاون الإسلامي، غالبية سكانها من الشيعة، إيران أذربيجان والبحرين والعراق. وحتى في العراق، فإن الشيعة يشكلون أغلبية بسيطة، إذا تجاوزنا الانقسام الإثني (غالبية الأكراد من السنة). لا شك أن هناك أقليات شيعية كبيرة في دول عدة، مثل أفغانستان وباكستان وبعض دول الخليج ولبنان، كما يشكل الشيعة نحو 20% من مسلمي الهند، البالغ عددهم نحو 200 مليون نسمة، إلا أن كل هؤلاء يبقون أقليات، ومحكومين بسلوك الأقلية.
2 - كما أن السنة منقسمون، فإن الشيعة أكثر انقساماً، وعلى الرغم من أن الإمامية الإثني عشرية تشكل المذهب الأكثر انتشاراً بين الشيعة، إلا أن هناك مذاهب أخرى أيضاً، مثل الإسماعيلية والزيدية وغيرها. والشيعة أيضاً، كما السنة، يختلفون ليس في المذهب فقط، إنما في اللغة والثقافة والقومية والعرق والمواقف السياسية والأيديولوجية، ما ينفي عنهم صفة الوحدة، ويجعل الحديث عنهم بصفتهم معسكراً واحداً أمراً متخيلاً. لاحظ، مثلاً، الخلافات المستحكمة بين القوى السياسية الشيعية في العراق. لهذا السبب أيضاً، لم يتمكن الشيعة من حكم مناطق مهمة، فترات طويلة في العالم العربي أو الإسلامي، ربما باستثناء الفاطميين الذين أسسوا دولتهم في القاهرة، وامتد نفوذهم من شواطئ المغرب على الأطلسي وحتى الحجاز، بين القرنين العاشر والثاني عشر.
3 - تقع الزعامة الشيعية اليوم بيد الإيرانيين وليس العرب، ما يشكل عائقاً كبيراً في وجه التمدد الشيعي في العالم العربي، فلو كانت الزعامة بيد العرب لأمكن استثمار حب عموم أهل السنة وتعلقهم بآل البيت في الانتشار والسيطرة، كما حصل في عهد الفاطميين والحمدانيين. وعلى الرغم من أن جزءاً كبيراً من الشيعة العرب يتحالفون مع إيران اليوم، إلا أن هذا الحلف هو حلف ضرورة، عابر، وناجم، بشكل رئيس، عن إحساس الشيعة العرب، أو جزء منهم، بالتهميش والإقصاء في بلدانهم، أو نتيجة استغلال إيران مخاوفهم الحقيقية، أو المتخيلة، من أخوانهم السنة. ويتجلى الصراع العربي-الإيراني على الزعامة الشيعية اليوم في الخلاف بين مرجعية النجف التي تعمل إيران على تهميشها لصالح مرجعية قم، علماً أن مرجعية النجف ترفض فكرة ولاية الفقيه التي تشكل أساس وجود النظام الايراني ومنطقه.
4 - تعاني إيران نفسها من انقسامات وتناقضات تصل إلى حد العداوة بين الليبراليين والمحافظين وبين القوى الديموقراطية والدينية، كما أن هناك توترات متزايدة بين الشعوب والإثنيات والمذاهب التي تتكون منها، فنسبة الفرس لا تتجاوز، وفق أرقام رسمية، 51% من مجموع السكان، فيما يشكل الأذريون 24%، ويتوزع الباقون بين أكراد وعرب وبلوش وغيرهم، وعلى الرغم من أن غالبية السكان يدينون بالمذهب الإثني عشري (85%)، إلا أن 58% منهم فقط يتحدثون الفارسية، فيما يتحدث التركية 26%، وبقية السكان يتحدثون الكردية والعربية وغيرها من اللغات. هذا يعني أن إيران أقل انسجاماً، حتى من دول المشرق العربي التي تفتك بها الصراعات الاثنية والمذهبية، ويجعل إيران مرشحة، مثل غيرها من دول المنطقة، للدخول في صراعات من هذا النوع، نظراً لشدة الاحتقان السائد في المنطقة، وميل جميع اللاعبين في الإقليم إلى استخدام ورقة التنوع الطائفي والإثني والمذهبي أداة للصراع والمواجهة، وسوف يبدو هذا المزيج أكثر عرضة للانفجار، بمجرد أن تتم تسوية ملف إيران النووي، ويبدأ فك الحصار عنها وإدماجها في النظام الدولي، حيث ستطفو كل القضايا والخلاقات الداخلية المؤجلة على السطح، بمجرد اختفاء صورة الشيطان الأكبر.
محاولات تمدد صعبة
حاولت إيران التي اعتمدت الإمامية الاثني عشرية مذهباً رسمياً لها بنص دستورها، بعد عام 1979، تقديم نفسها باعتبارها حامية للمذهب، وبدأت تعمل على التمدد في المنطقة، عبر دعم الأقليات الشيعية في دول الجوار، مستفيدة من سياسات التهميش التي اعتمدتها النظم الحاكمة فيها، وهي، والحق يقال، طالت جميع مواطنيها، سنة كانوا أو شيعة أو خلافه. مع ذلك، لم يكن هذا التمدد أمراً يسيراً، إذ حاولت إيران، أول الأمر، مد نفوذها إلى أذربيجان، باعتبار أن معظم سكان هذه من الشيعة، لكنها فشلت في عهد الاتحاد السوفييتي، كما فشلت بعد سقوطه، إذ قاومت أذربيجان المستقلة التي يحكمها نظام علماني "أتاتوركي" بقوة محاولات إيران النفاذ إليها من بوابة المذهب. وتتخذ أذربيجان اليوم سياسات شديدة العداء تجاه إيران، لدرجة أنها عرضت استخدام أراضيها لتوجيه ضربة عسكرية لمنشآت إيران النووية.
كما تصدت الهند وباكستان، وحتى أفغانستان، لمحاولات إيران النفاذ إليها عبر الأقليات الشيعية الموجودة لديها. وبانغلاق المجال أمامها في الشمال والشرق، لم يتبق أمام إيران إلا العالم العربي لتحاول التمدد فيه. فشلت إيران أول الأمر في إحداث اختراق في العراق، بسبب قوته وقدرته على صدها، لكنها نجحت في إنشاء تحالف وثيق مع نظام دمشق، ما ساعدها في إنشاء موطئ قدم لها في العراق (عبر حزب الدعوة) وفي لبنان (عبر حزب الله) الذي تحول إلى أحد أهم أذرع إيران في المنطقة.
أدى قرار غزو الكويت عام 1990 إلى إضعاف قدرة العراق على مقاومة التغلغل الإيراني، كما أضعف السلطة المركزية في بغداد في مقابل تنامي طموحات مكونات المجتمع الاثنية والمذهبية (من الشيعة والأكراد) التي أخذت تتطلع إلى الخارج (إيران وأميركا) من أجل الدعم والمساندة. ولم يحل الغزو الأميركي عام 2003 حتى كان العراق جاهزاً للوقوع في القبضة الإيرانية، ما سمح بنشوء قوس نفوذ إيراني عابر للحدود من أفغانستان وحتى المتوسط.
وجدت إيران في الربيع العربي فرصة لمزيد من التمدد، هذه المرة في الجزيرة العربية، بعد أن تمكنت من تأمين حدودها الغربية، حيث غدا العراق تحت هيمنتها حتى قبل أن يغادر الأميركيون. وقد حاولت إيران استخدام الانتفاضة "الشيعية" في البحرين مطلع عام 2011 لمصلحتها لكن التدخل السريع للسعودية وقوات درع الجزيرة أحبط المحاولة، ثم تلقت إيران ضربة قوية أخرى في سورية مع اندلاع الثورة التي هددت بتقويض كل إنجازاتها، في العقدين الماضيين، فسقوط نظام الأسد يهدد بعزل حزب الله، وإن لم يؤد إلى إنهائه، ويهدد بفقدان السيطرة الشيعية على السلطة في بغداد. كما أدى صعود تنظيم الدولة وسيطرته على مناطق شاسعة من العراق وسورية إلى هز أركان الهيمنة الإيرانية في عموم الهلال الخصيب، ثم جاء التدخل العسكري السعودي المباشر في اليمن في مارس/آذار من هذا العام، ليكشف تماماً حدود وقدرات الفعل الإيراني على امتداد المنطقة.
معركة خاسرة
مع ذلك، وعلى الرغم من تضعضع الهيمنة الإيرانية في السنوات الثلاث الماضية، إلا أن طهران تحاول الاستفادة من جملة متغيرات، طرأت في السنة الأخيرة على خط المواجهة المفتوحة، لتغيير المعطيات لمصلحتها، مثل إعلان أميركا الحرب على تنظيم الدولة، وتوجس واشنطن من سقوط نظام بشار الأسد، واتجاه السعوديين نحو حرب استنزاف طويلة في اليمن. كما تأمل طهران في أن يؤدي صعود تيارات السلفية الجهادية إلى إضعاف مواقع السعودية، في الإقليم كما في الداخل، وحدوث تحولات في الرأي العام العالمي، والغربي خصوصاً، لصالحها في المعركة مع تنظيم الدولة. بيد أن كل هذه العوامل قد تتغير بدورها في وضع إقليمي ودولي شديد السيولة ومنفتح على الاحتمالات كافة، وقد ظهرت بعض تجلياتها، أخيراً، بالفعل مع تحقيق المعارضة السورية مكاسب مهمة على الأرض، ومع تحسن العلاقات التركية-السعودية، ورفع وتيرة التنسيق بين البلدين، فيما يخص جملة من الملفات الإقليمية.
فوق ذلك، تتمثل العوامل الجوهرية، والتي ستبقى، فترة طويلة جداً على الأرجح، من دون تغيير كبير، في أنه، وببساطة، هناك خلل كبير في موازين القوى بين إيران وخصومها في المنطقة، ليس فقط في الكثرة العددية، إنما في الإمكانات أيضاً، وهناك احتقان طائفي شديد، يجعل من غير الممكن أن يحكم حلفاء إيران بقوة السلاح، فحزب الله، وعلى الرغم من تفوقه العسكري الكبير في لبنان، لم يتمكّن من السيطرة على الحكم، ولا يبدو أن لديه، الآن، فرصة للقيام بذلك حتى لو أراد، أما الحوثيون في اليمن، فلن يستطيعوا، مهما فعلوا، أن يفرضوا سيطرتهم على اليمن خارج مناطقهم، لا بل خارج صعدة. وفي العراق، تتنامى المقاومة السنية للنفوذ الإيراني بقوة وسرعة، وحتى في بعض المناطق الشيعية يبدو تنظيم الدولة الإسلامية حاضراً وقوياً.
بحسبة بسيطة، هذه معركة (إذا أصرت إيران على جعلها مذهبية) خاسرة، وهي أيضاً خاسرة بالنسبة للولايات المتحدة إذا قررت أن تذهب فعلاً باتجاه التعاون مع إيران في إطار المقاربة الخادعة التي نظّر لها والي نصر، واعتنقها أوباما وتتحدث عن حرب سنية - شيعية داخل الإسلام.