أكاذيب مشينة
بدأ الحملة شخصٌ، كنت أثق بقدرته على فرز الغثّ من السمين. حين قرأت ما كتبه، قلت في نفسي: الشبيح الذي يعمل في تلفازه أمره أن يكون جاهلاً، ويسألني إِن كان من الممكن تحرير الساحل السوري في معركةٍ لا تجري فيه، مع أنه يعلم أن معركة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية حسمت في ستالينجراد والعلمين، ومعركة اليابان في المحيط الهادي، ومعركة فيتنام الجنوبية في فيتنام الشمالية... إلخ، ويعلم، أيضاً، ما يجهله معلمه الشبّيح، وهو أن تدمير قدرات النظام في باقي مناطق سورية سيجعل دخول الساحل متاحاً بلا قتال، أو بقدر قليل منه، وأن على قيادة الجيش الحر مناقشة هذا الاحتمال بكل جديةٍ وتفصيل، لأنه سيكون أولويةً وطنيةً، في وقت ما من تطور الصراع، إن أردنا تقصير المعركة، والمحافظة على وحدة دولتنا ومجتمعنا.
بعد جهل العارف المغلوب على أمره معاشياً، جاء دور الجهلة المجرمين، الذين اتهموني بأنه لم يسبق لي أن أظهرت أي خوف على الأغلبية، وأخاف الآن على العلويين والمسيحيين وبقية الأقليات، والسبب أنني صليبي نجس (كتب هذا شخص اسمه النبهان). ويبدو أن هذا الشخص لا يقرأ، فلو كان يقرأ لوقع، بالمصادفة، على واحدةٍ من آلاف المقالات التي كتبتها، والمقابلات التي أجريتها، دفاعاً عن كل طفلٍ وامرأة وشاب وشيخ، وفقير وغنيّ وريفي ومديني، وعسكري ومدني، ومسلم وكتابي، تعرض للإيذاء على يد النظام، في طول وطننا وعرضه، وعلى الأعوام الخمسين الماضية. يبدو، أيضاً، أن النبهان لا يريد أن يعرف أنني وقفت حياتي كلها على الدفاع عن جميع المستضعفين من السوريات والسوريين، من دون أي تمييز بينهم.
والآن: وبعد قراءة سفاهات هذا السيد، آمنت بأنني كنت على حق، في ما قلته عن مخاطر دخول الساحل السوري، وتأكدتُ من أن دخول أمثاله من المهووسين إلى هناك سيعني، حتماً، هلاك ملايين السوريات والسوريين، والذين ترجح فيهم كفة من هاجر إلى المنطقة من أهل سنّة حلب وحمص وحماه وإدلب، لكن النبهان، لشدة حقده المذهبي، الذي يعمي بصره وبصيرته، يجهل أنهم صاروا، اليوم، أغلبية مواطنات الساحل ومواطنيه، وأن خوفي عليهم كان بين أسبابٍ جعلتني أعتبر المنطقة ذات حساسيّة خاصة، ودفعتني إلى التحذير من دخول مجرمين مذهبيين إليها، لن يترتب عليه غير مجازر، تشبه التي يرتكبها النظام في باقي أنحاء سورية، خصوصاً أنّ هؤلاء لا يقلون إجراماً وهمجيةً عنه، ويؤمنون بما يؤمن هو به، وهو أن البشر يتعينون بمذاهبهم ومواقفهم، وأن من يختلف عنه منهم يستحق القتل، لمجرد أنه نصيري ونصراني، أو يساري وثوري وإسلامي.
وللعلم، لا يتعاطف المذهبيون، من أمثال النبهان مع أحد، بمن فيهم أهل السنّة، ولو كانوا يتعاطفون معهم لأفهموهم أن قتل الأبرياء محرَّمٌ في الإسلام، وأن مقاتلة من لا يقاتلون المسلمين ممنوعةٌ دينياً، لكن لو كان النبهان مسلماً لما اعترض على مقالتي، هو وعشرات من أمثاله، والتي تحذّر من قتل الأبرياء، وتحميلهم، بالجملة والمفرق، المسؤولية عن جرائم رجلٍ يحكمهم، كما يحكم غيرهم، تسبَّب في قتل عشرات آلاف العلويين، ويدمر يومياً مقومات وجودهم الوطني، دفاعاً عن كرسيه، لا دفاعاً عنهم.
تعرف الدنيا كلها أنه لا يأخذ رأيهم في أي أمر، أو يستشيرهم في أي شأن، وأنهم يُساقون إلى القتال، كغيرهم من أهل السنة، الذين ليسوا قلةً في جيشه، بل هم عدد كبير مغلوبٌ على أمره، شأن غيره من عبيد النظام. ولو كان النبهان منصفاً، لرأى الأمور بمنظار الوقائع التي تفرضها النظم الشمولية على مواطنيها، بدل رؤيتها بمنظار هوسٍ مذهبيٍّ ودينيٍّ متطرفٍ، لا عائد له غير قتل البشر على الهوية. ويعني انتصاره نهاية شعب سورية بأسره، وليس فقط نهاية العلويين والمسيحيين، وغيرهم من أتباع الأديان والمذاهب الأخرى.
وهناك من يشوّه ما كتبته بكل صفاقة، فيقول إنني ضد معركة الساحل، مع أَن مقالتي تبدأ بمطالبة من دخلوه بالدفاع عن المواقع التي احتلوها فيه، وتنبّه إلى أن التمسك بمواقعهم يمكن أن يكون بداية انقلاب استراتيجيٍّ في موازين الصراع، بينما كان الهدفُ من تحذيري منعَ النظام من تحويل القتال ضده إلى اقتتالٍ بين السوريين، انسجاماً مع خطته في حرف القليل الذي بقي من الثورة عن أهدافه، وقلبه إلى حربٍ أهليةٍ طائفيةٍ، لا تُبقي ولا تذر.
استغلَّ هؤلاء المزورون قلة معرفة الناس بحقيقة ما يُكتب، لكي يقنعوا الشارع أنني أرفض معركة الساحل، لأن السعودية ترفضه، أو لأن وراء الأكمة ما وراءها من خيانات ومؤامرات... إلخ، على الرغم من أنّ أي خبيرٍ عسكريٍّ، وأي صاحب رؤيةٍ ومسؤوليةٍ سياسيةٍ سيتوقف عند الطابع السكاني الخاص للمنطقة الساحلية، وسيقرُّ بشرعية أن يكون هناك من يتخوف بحقٍّ من مخاطر اشتباك الناس بعضهم مع بعض، وما سينجم عنه من كوارث إنسانية ومجازر رهيبة.
والآن، أود طرح سؤالين على هؤلاء البؤساء والجهلة والمهووسين مذهبياً، أولهما: أَلا يمكن للحرب في المنطقة الساحلية أن تنقلب من صراعٍ مع النظام إلى صراعٍ بين مواطنين ينتمون إلى بعضهم، ويشكلون شعباً واحداً، يمكن لاقتتالهم أن يكون فاتحة حرب أهلية عامة؟ وثانيهما: إذا كنت قد أدنت دوماً، وقاومت، قتل الأغلبية على يد جيش النظام وشبيحته، أَليس من حقي وواجبي إدانة ومقاومة قتل الأقلية على يد مهووسين مذهبياً، يتحدثون باسم أغلبيةٍ، لا يمثلونها ولا تعترف بهم، من غير الجائز، إطلاقاً، أن تصير مجرمةً كالنظام، لما سيترتب على ذلك من نتائج، فيها نهاية دولتنا وشعبنا وخراب وطننا، وانتصار النظام، وجعل الحرية وتحقيق العدالة والمساواة والكرامة: أهداف الثورة التي نزل جميع السوريين إلى الشارع مطالبين بها، ضرباً من جريٍ وراء سراب، وحلماً مستحيل التحقيق؟
لا يشبه أحد بشار الأسد قدر ما يشبهه النبهان والشبيح الطائفي في قناة "أورينت" التلفزيونية. وإذا كنا نواجه، اليوم، مشكلةً خطيرةً، فهي تلك الناجمة عن تماثل مواقف النظام الأسدي مع مواقف النبهان ومثيله الشبّيح، المؤمنَين مثله بضرورة القضاء على المختلف، لأن اختلافه يلغي حقه في الحياة والوجود، ويسوّغ استخدام جميع الأساليب والوسائل لإبادته، فـ"الخير" يقترن، حصرياً، بهما، ويستحيل أن يتعايش مع "الشر" المرتبط حكماً بالنصيريين والنصارى، الذين حرَّم الله قتلهم، لكن النبهان، وشبيح الفضاء، يحللان قتلهم باسمه، ورغماً عنه، على غرار ما يفعله الأسد وبطانته.
أخيرا، أتمنى أن يتوقف السوريون عند ظاهرةٍ تستدعي التأمل، هي المقارنة بين ثورتهم، قبل أن يظهر فيها أمثال النبهان والبهلوان الفضائي، ووضعها اليوم، بعد أن صار القتل مذهب الأول والكذب دين الثاني، وانقلب هذان المنافقان من أعداء الله والإنسان والدين إلى مدافعين عن أهل السنّة، ووضع الشبّيح فضائيته، كما يبدو، في خدمة ترويج قتل مواطناتٍ ومواطنين سوريات وسوريين، هم جزء من شعبٍ يشكلون قرابة ثلثه.
لقد ساعد أمثال النبهان وشبيح قناة "أورينت" الطائفية النظام على تفتيت صفوف الشعب السوري، وأعانوه على وضع بعضه في مواجهة بعضه الآخر، وعلى نشر العنف والقتل في كل مكان وموقع من بلادنا، ودعموا بنجاحٍ إجراميٍ سعيه إلى قلب صراعنا من أجل الحرية إلى قتالٍ بين إرهابيين مذهبيين وطائفيين.
عود على بدء: لن تكون معركة الساحل السوري غير سلسلة مجازر لا تبقي ولا تذر، إِذا ما أديرت بالعقلية والمقاصد النبهانية والتشبيحية، وستكون انتصاراً للشعب إن خلت من الاقتتال الطائفي والمذابح المذهبية، وإذا ما توفر للثوار العون الذي يمكّنهم من الدفاع عن المناطق التي دخلوها، واحترموا أهلها، وأحجموا عن الدخول إلى منازلهم، أو معابدهم، وعن مضايقتهم بأي شكل، وإذا ما أحسنوا استخدام مناطق انتشارهم في الساحل، من أجل استنزاف النظام وتقويض قدراته، انتصاراً لثورة الحرية والعدالة والمساواة والكرامة، والتي لن تنتصر في حال تسيَّدها، أو لعب أي دور وازنٍ فيها، النبهان وشبيح الفضاء، وأضرابهما من "ثوار" آخر زمن.