مئة وخمسون عاماً مرت منذ أن سقطت أليس في حفرة الأرنب التي أوصلتها بلاد العجائب، ومنها إلى كلاسيكيات أدب الأطفال كواحدة من أهم القصص الأدبية في العصر الحديث. الرواية التي تجاوز جمهورها حدود الفئة العمرية المتوقعة، جعلت شخصية البطلة من أكثر الشخصيات الخيالية شهرة وألهمت الآلاف من الكتب والأبحاث والأفلام منذ صدورها سنة 1865.
بذلك، غدا كل تفصيلٍ في بلاد العجائب محطّ بحث وتأويل، في محاولات مستمرة لمعرفة النية الحقيقية وراء مغامرات أليس في تلك العوالم واستخلاص العبر من الشخصيات العجيبة والمواقف المربكة التي تمر بها.
وبينما تحتفي المنابر العالمية هذا العام بمرور قرن ونصف القرن على ولادة أليس، يبقى استقبال هذه الشخصية الأدبية في الثقافة العربية باهتاً، على الأقل بالنّظر إلى القراءات المتنوعة والمتعمقة التي حظيت بها صاحبة الرداء الأزرق في الآداب العالمية.
حمل إحدى هذه القراءات، مثلاً، تيار قويّ مشكّك بدوافع الكاتب الشخصية وراء اختيار بطلة الحكاية، الطفلة ذات الأعوام الثمانية، خصوصاً بعد الأخذ بعين الاعتبار صداقات الكاتب المثيرة للجدل مع الأطفال وتقرّبه منهم خلال حياته.
القصة التي نسجها لويس كارول (1832 - 1898)، واسمه الحقيقي تشارلز دودجسون، مستوحاة من حكاية ارتجالية قصّها ذات صيف على الطفلة أليس ليدل وشقيقاتها، بنات زميل له في جامعة أوكسفورد، حيث عمل محاضراً في الرياضيات والمنطق. حظيت أليس الحقيقية هذه بالعديد من الصور الفوتوغرافية التي أولع الكاتب بالتقاطها كهواية.
الأمر السابق، دفع المشككين إلى اعتبار القصة تجسيداً لعاطفته تجاه أليس الصغيرة، ومحاولة منه لتخليدها في حالةٍ عصيّة على الزمن والتقدم بالعمر. إذ إن الوقت متوقّف في بلاد العجائب، في حين أن أليس الحقيقية ستكبر، وتقطع علاقتها بلويس أعواماً قصيرة بعد كتابة القصة، خصوصاَ بعد انتشار الشائعات عن العلاقة الغريبة التي جمعتهما مذ كانت أليس بعمر الأربع سنوات.
في قراءة لا تقل إشكالية أو شيوعاً عن الأولى، ذهب بعضهم إلى أن "أليس في بلاد العجائب" ما هي إلا رحلة تحت تأثير المخدرات المحفزّة للخيال، من قطعة الحلوى ذات النكهات العديدة في آن واحد إلى النارجيلة التي تحتوي بحسب زعم هذه القراءة أفيوناً تدخنه اليرقة الحكيمة، أولى الشخصيات التي تلتقيها أليس، أثناء جلوسها على فطر سحري يتلاعب بحجم من يتناوله.
ثم مروراً بكثيرٍ من الشخصيات والمواقف السوريالية الأقرب إلى تداعٍ حرّ لحلمٍ تحت تأثير المهلوسات؛ ما دفع بالكثير من النقاد والقرّاء لافتراض أن كارول استخدم هذه الرموز عمداً، خصوصاً أنه عاصر فترةً كان تدخين مادة الأفيون فيها قانونياً في بريطانيا.
نجم عن هذه النظرية العديد من الإحالات الترميزية في الثقافة المعاصرة، فصارت أليس ومقاطع من حكايتها، رموزاً للمواد المخدرة والمهلوسات، ومن الأمثلة الشهيرة أغنية "الأرنب الأبيض" لفرقة الروك "ذا جيفرسون أيربلين" وغيرها من مجايلي موجة الأغنية المحفزة للخيال، خصوصاً في ستينيات القرن الماضي.
من غير المرجح أن كارول تعمّد تضمين إشارات للمخدرات في كتاباته المخصصة للأطفال؛ إذ لا دليل واضحاً على تعاطيه شخصياً للأفيون أو غيره، وليس بالإمكان معرفة العبرة وراء مغامرة أليس الخيالية بصورة قطعية، إلا أن من الواضح أن الكاتب هدف على الأقل، إلى تغييرِ إدراكنا المعتاد للواقع، ولفت انتباهنا إلى الافتراضات المختلفة التي يتم بموجبها هذا التغيير.
إحدى قراءات "أليس في بلاد العجائب"، فسّرتها بأنها تتعلّق بإشكالية الهوية لدى الكاتب (الصورة) الذي مرّ باكتئاب وأزمة وجودية عبّر عنها مراراً في مذكراته الشخصية وقصائده. كذلك هي حال أليس التي ترتبك حين تضطر إلى التعريف بنفسها أو الإجابة عن السؤال البديهي حول هويتها في ذلك العالم المجنون. الأمر الذي أجبر الشخصية على تحدّي معرفتها المسبقة عن نفسها وعن العالم قبل وقوعها في حفرة الأرنب.
بذلك، يمارس الكاتب هوايته الأولى التي أوردها المؤرخون، وهي سرد قصص غير متوقعة وترقب ملامح الدهشة لدى مستمعاته من الأطفال. المثير أن مغامرات أليس، وعلى الرغم من بعدها عن المنطق والمعقول، تبدو حقيقية بالنسبة لها، ومع أنها تثير فيها مشاعر الخوف أو الإحباط في كثير من الأحيان، إلا أنها لا تقودها إلى الإنكار أو رفض الواقع. بل إن أليس تُسرع في التأقلم مع الوقائع العجيبة، التي تساعدها لاحقاً عبر الحكاية على استعادة هويتها المفقودة منذ سقوطها في الحفرة، عن طريق تغيير طريقة استيعابها للواقع بحد ذاته، وتقبلها للقواعد الجديدة التي تحكم تلك البلاد.
منذ أن نُشرت الرواية بجزأيها قبل 150 عاماً، وُظِّفت أليس باستمرار كرمز غامض دائم التحول، كما ألهمت الكثير من الكتّاب والنقّاد وحتى علماء النفس لمحاولة كشف اللغز الذي دفعها للمضي في هذه الرحلة.
وعلى الرغم من أننا لن نعرف ما الذي قصده لويس كارول، عالم الرياضيات المضطرب، من هذه القصة العجيبة المليئة بالألغاز، إلا أنها وبالتأكيد ليست مجرد رواية ترفيهية للأطفال، إذ إن الشريحة الكبرى من معجبيها، وإن تباينوا إلى حد كبير في التحليل والتأويل، يتفقون على أن قراءتها تزداد متعة، وللمفارقة غموضاً، كلّما تقدم بهم العمر.