منذ أن بدأت التفكير بالكتابة حول مناسبة يوم الأرض، تقاذفتني أسئلة كثيرة حول ماذا أكتب. هل أعيد التذكير بالمناسبة وأتوقف عند السرقات القديمة والجديدة، والبطولات الشعبية والوطنية الفلسطينية في الدفاع عن الأرض؟
هل أعيد عرض المخططات الإسرائيلية القديمة والجديدة والمستقبلية لنهب الأرض وتهويدها؟ الجواب كان لا. فالتكرار لا يفيد إلا بالنزر القليل، ومن المفترض طرق أبواب جديدة والدخول من زوايا، قد لا تكون مطروقة أو قد لا يكون دخلها أحد.
أذكر أنه في عام 1985 التقينا ضمن فعاليات مؤتمر الشبيبة العالمي في موسكو بوفد الشبيبة الذي يضم شباناً وشابات من الجليل وحيفا وأماكن مختلفة من مناطق 48، كان لقاء وطنياً وعاطفياً مؤثراً، بالنسبة لي شعرت بحضور السكان الأصليين الذين ظلوا متوحدين بالأرض، واعتقدت أن هؤلاء جزء من الذين صنعوا ملحمة يوم الأرض، وكدت أدمج اللهجة الفلسطينية والملامح الشرقية بالصور والمشاهد التي علقت في ذاكرتي عن يوم الأرض، لأتوحد ومن معي معهم.
لقد غير يوم الأرض مكانة الأقلية الفلسطينية في مناطق 48 لدى الشتات الفلسطيني وحررها من تأثير الخطاب القومي التعصبي الذي شكك في وطنيتها، ذلك التشكيك الذي مورس أثناء مؤتمر الشبيبة في موسكو أيضاً، حين حاول منتسبو المنظمات القومية الفلسطينية الاعتداء على وفد الشبيبة "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة" بذريعة مشاركة إسرائيليين يهود فيه، لكن وفد منظمة التحرير صد الاعتداء وتوحد مع الوفد الأصلاني.
وإذا كانت الثقافة الوطنية قد شكلت رافعة لتوحيد مكونات الشعب الفلسطيني في أراضي 67 وأراضي 48 ومعهما النخب السياسية والثقافية في الشتات، فإن انتفاضة الأرض وحدت الشتات الفلسطيني مع المكونات الأخرى ليتوحد الشعب الفلسطيني في كل الأماكن دفاعاً عن الأرض.
قبل انتفاضة الأرض درجت الحركة الوطنية على طرح الأهداف العامة في خطابها السياسي، ودرج المستوى الثقافي على تقديم الوطن كلوحات جميلة رومانسية. غير أن انتفاضة الأرض قدمت تفسيراً ملموساً للوطن، عندما دافع الناس عن أحد أهم مكونات الوطن والوجود الفلسطيني وهو الأرض، وعندما ربط المنتفضون الوجود الفلسطيني بالحيز الخاص بهم في وحدة لا تنفصل.
ومنذ ذلك اليوم المجيد أصبح الدفاع عن الأرض ليس طقساً أو ترفاً وطنياً، بل حاجة مدفوعة بضغط خارجي هو النهب الإسرائيلي، ومدفوعة بضغط داخلي هو الحاجة الفلسطينية الملحة للأرض.
منذ ذلك اليوم أصبحت الأرض لا تنفصل عن الوجود والحقوق وتقرير المصير والوطن، بقطع النظر عن الحيز المسموح به كوطن للشعب الفلسطيني. غير أن هذا الدمج اقتصر في حالة الضفة الغربية على إبراز وحدة الشعب فقط، فلم تستوعب الحركة الوطنية درس انتفاضة الأرض، بخوض معارك الدفاع عن الأرض في مواجهة الاستيطان الزاحف، باستثناء مرحلة الانتفاضة الأولى.
لكن سرعان ما عاد الانفصال عن الأرض أثناء مرحلة أوسلو، وبفعل ذلك تضاعف الاستيطان ونُهبت الأرض وضُمّت بمعدلات فائقة السرعة والاندفاع. وكانت الأرض في الخطاب الإسلامي محمية بمقولة "الوقف الإسلامي" التي تحيلها إلى الأجيال المتعاقبة.
مراجعة سريعة لسياسة الدفاع عن الأرض
انتفاضة الأرض في العام 1976 كانت فصلاً جديداً في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي على الأرض، صراع استمر حتى اليوم، نجح في وقف الاندفاعة الكولونيالية الإسرائيلية بعض الشيء، لكن التصاعد الراهن في نهب الأرض يستدعي مراجعة السياسة الفلسطينية المتبعة في الدفاع عن الأرض بهدف إحداث نجاحات فعلية إضافية بما في ذلك قطع الطريق على سياسة النهب الكولونيالي الإسرائيلي.
في هذا الصدد أعتقد أن المراجعة تتطلب التوقف عند مسألتين. الأولى: تفكيك الرواية الإسرائيلية التي تبيح الاستحواذ المطلق على الأرض بالاستناد إلى "ميثة " أو أسطورة "أرض الآباء"، واستبدال القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية بالميثات والأساطير المستخرجة من" كتاب التناخ".
إسرائيل الرسمية تتعاطى عملياً مع مرجعية الأساطير، فالأرض مُنحت "لذرية" إسرائيل منذ قديم الزمان وحتى الآن. تقول الأسطورة: "لنسلك أعطي هذه الأرض من النيل إلى الفرات" أو "كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته".
أما السكان الأصليون الدائمون فلا مكان لهم على هذه الأرض. بل إن "الوعد الإلهي" يتضمن "إبادة السكان الأصليين"، وتدرس تلك الإبادة في مناهج التعليم الإسرائيلية.
و"تلتزم" إسرائيل شكلياً بالقانون الدولي وببعض قرارات الشرعية الدولية، لكنها تقول بصريح العبارة: إن القانون الدولي لا ينطبق على الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ولا على الأرض الفلسطينية.
وإذا كان القانون الدولي هو المرجعية الرسمية الوحيدة للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وإذا كان الاعتراف الدولي بإسرائيل تأسس على القانون الدولي، فلماذا يُسمح لإسرائيل باعتماد مرجعية الأساطير؟
وإذا كان العالم قد توحد ضد "داعش" و"القاعدة" وغيرهما من التنظيمات الإرهابية وأعلن الحرب عليها لأنها اعتمدت أيديولوجيا دينية بديلة للقانون الدولي وشرعت في إقصاء الآخرين بالقوة والإرهاب، فلماذا لا تُخضع إسرائيل للمساءلة والمحاسبة على سرقة الأرض وعلى مواصلة التطهير العرقي في القدس وفي 60% من أراضي الضفة الغربية وبمستوى أقل في النقب وفي أوساط المواطنين الفلسطينيين في مناطق 48 الذين تضاءلت ملكيتهم للأرض إلى نسبة 3.5% من مجمل الأرض؟
قد تكون الإجابة على هذه الأسئلة سهلة جداً، غير أن المطلوب هو اعتماد سياسة ضد نهب الأرض وضد حرمان السكان الأصليين من ملكيتها، بالاستناد لمنظومة القوانين الوضعية ذات الصلة وفي مواجهة الأساطير والأيديولوجيا الدينية الحصرية، سياسة تزيل الغموض عن استبدال إسرائيل القانون الدولي بالأساطير، وتفضح المواقف الدولية المتواطئة مع الاستبدال ومع استباحة الأرض والحقوق الفلسطينية، وتكشف الطابع الكولونيالي المغطى بأيديولوجيا دينية تعصبية.
ثمة حاجة لإعادة تقديم ملف الأرض بعناصره القانونية والوطنية والتعليمية والجماهيرية، وإعادة الاستقطاب المحلي والعربي والعالمي الداعم لنضال الشعب الفلسطيني من أجل تصويب الظلم وكبح الأطماع الكولونيالية والتمييز العنصري.
المسألة الثانية: إصدار "ميثاق الأرض الفلسطيني" الذي يضع الأهداف والسياسات والاستراتيجيات والأخلاقيات حول الأرض الفلسطينية المسلوبة والمهددة بالسلب وبحقوق السكان الأصليين.
الخطوة الأولى تبدأ بتشكيل "لجنة ميثاق الأرض" التي تتولى كتابة مشروع الميثاق. ويترافق ذلك مع تشكيل بنية تنظيمية تضم حركات اجتماعية وأحزاباً ومؤسسات رسمية وغير رسمية ونقابات وأفراداً ومستشارين.
وإذا ما تم اعتماد ميثاق الأرض من قبل البنية التنظيمية، في هذه الحالة يصبح لدينا ناظم للدفاع عن الأرض، يوحد النضال في مختلف أماكن تواجد الشعب الفلسطيني، ويدمجه بالنضال المشترك لحماية الأرض والبيئة على صعيد عالمي، فالميثاق المنشود من المفترض أن يكون امتداداً لميثاق الأرض الدولي الذي أطلق عام 2000.
إن تطوير الدفاع عن الأرض الفلسطينية بحاجة إلى طرق تفكير جديدة، إلى ميثاق وبنية تنظيمية، وإلى شراكة دولية وأخلاقيات مشتركة، ترفع سقف النضال وتشرك فيه الأجيال الجديدة وتعيد بناء التحالفات.
(كاتب فلسطيني/ رام الله)
اقرأ أيضاً: مقاومة "الأسرلة" في سياق الهبة